نورة البدوي/ تونس

في ديوانها الشعري الأول حالة وعي "دار سراس 2020 "، تنسج الكاتبة و الأكاديمية التونسية سمية بالرجب منظومة من القصائد تحاكي فيها الواقع الإنساني و الاجتماعي للبلدان العربية، ناحتة من صميم اللغة هواجسها تجاه حوادث الزمان و دواخل الإنسان.
إذ تجوب شاعرتنا خريطة وقع حياة الكائن العربي من مدينة إلى أخرى، و من ذاكرة إلى أخرى و من وصية إلى أخرى، معتمدة في ذلك على تقديم صورة الأنا المسكونة بأسئلة تجاه الموجود و التي يتردد داخلها صدى الآخر فيها، كقولها في قصيدة خرافات مساء ساذج ص 40:
"لماذا النحيب ؟
على ما التوجس في كل حين ؟
سنبقى رفاتا بلا غاصبين سنبكي طويلا بلا أوصياء "
بهذه الثنائية لحضور الأنا و الآخر في فضاء القصيد تتجلى إستراتيجية بالرجب في إبراز موقفها تجاه الواقع العربي العاصف بأحداثه و مجازره و تقلبات أزمنته و بطش ما حل بأمكنته من ناحية ، كما تنشد الحنين و الأمل لـ"تاريخ جديد من الأمنيات" حسب تعبيرها.
أول ما يشدنا في هذا الديوان الشعري هو البساطة و الاقتصاد الواضح في العنوان "حالة وعي"، و كأن بالرجب في استخدامها للفظ "حالة" التي وردت نكرة أرادت تعميق المعنى و السماح بتأويله، فالحالة يمكن أن تحيلنا عن معان ذاتية و جماعية من قيم و علاقات و أوطان و هذا ما أضافه لفظ "وعي" الذي ورد في المطلق أيضا، و كأن العنوان بصيغته الأسلوبية و شحنته الدلالية و وظيفته التواصلية يضع القارئ في الصورة بدفعه نحو التأويل لسلسلة من المعاني المتدفقة من حالات الوعي تجاه الواقع، هذا الواقع التي جعلت منه شاعرتنا إقامة في أرضه بقصائدها .
في حديث إلى ايلاف تقول سمية بالرجب" إن الشعر هو ضرب من التراكمات النفسية الواقعية التي تفرضها معايشة لصيقة للواقع بحيث يكون الشاعر في مقاربته لهذا الواقع أشبه بشجرة قويّة ليمد جذوره اللغوية في واقعية الراهن بينما تتصاعد من روحه المناشدة للكمال والجمال أغضان من التعابير الفنية المستلهمة من وعيه بضرورة تغيير الأشياء وجعلها تسمو إلى عالم الكمال الشعري.
و تضيف "أضع عنوان مجموعتي الشعرية الأولى "حالة وعي" لأجسّد مقولة هايديغر "ليس الشعر سوى إقامة في الأرض" ولكن مع تكريس لقيمة الوعي التي تحرر المعنى من أوحال الأرض لتجسد انعتاق الجملة الشعرية من الضوابط المكبلة للنصّ الشعري حتى تسبح قصائدي في مساحات حرة واعية وغير واعية في الآن نفسه."
في هذه المساحات وجدنا مزيجا مختلطا من المشاعر الثنائية، الحب و الغضب،الخوف و الحزن، الألم و الأمل ، ما جعلها و سيلة للتعبير عن خلجات النفس عبر سرديات متوجة بحكايات الوطن و الأنا و الآخر و بتناص الماضي و تداخل الحاضر ، كقول شاعرتنا في قصيدة أهزوجة الشفق ص 8.
"و تلك المدائن كم طوحتنا
و كم همت بالسحر فيها
أيا روح حبا
و كم شق يا قلب لما غزاها الشتات" .
تضعنا بالرجب من خلال أشعارها في حكايات متنوعة تستمد منها تعابيرها الشعرية من صورة الأنا و كأنها تشريك للآخر في معرفة خفايا النفس و مصافحة له بالانتماء و الوجدان من خلال السفر من بلد إلى آخر عبر جسر اللغة.
يا لقلبي
ذابت الروح التي من فرط قهر ص 65.- قصيدة ريحي الاوجاع دائما"
...
أسير
يسابقني طيف تلك الأماني
أرى كل قول يزف الأمل
فاحضن في العمق وجه الحنين ص49 " قصيدة سروج البنادق"
جسر اعتمدته بالرجب حسب تعبيرها " إن الجملة الشعريّة في ديواني قد تجسّد روايات شعريّة مطوّلة أبحث داخلها عن الوطن بصفته التّي نعرف وأبحث من خلالها عن الوطن الذّي هو امتداد للأنا وللهوية وانعكاس للآخر في الوقت نفسه، أي أنّ الوطن في ديواني هو "الوطن الفكرة" الذّي يحمل الشاعر على التسلّح بالكلمات للدّفاع عنه . فتارة تجسّد القصيدة سرديات تاريخية تذكّر بالماضي وتحدّد منابع المقاومة فيه وتستحضر شخوصا ورموزا وأمكنة وتارة يأتي الوصف ليبعث في القارئ مشاعر متضاربة هي خليط من الانكسار والخوف والغضب المخلوط بالشجن وتارة أخرى تتماهى الجملة الشعريّة مع حوار باطنيّ يكشف عن مصالحة واعية بين الموجود والمنشود ؛ تتعدّد عبره أوجه الوطن الفكرة الذّي يجسّد في غالب الأحيان المساحة الحرّة لتمثلات وجودية تريد أن تجعل من هذا الوطن شيئا ميتافيزيقيا يوحي بالغموض وبالطمأنينة في الوقت ذاته ومن ناحية أخرى نتحسس هذا الوطن بلغة شائكة ومعقدّة حتّى نتمكن من ملامسته والشعور بوجوده داخلنا.
و تضيف "إن هذا الديوان في تقديري هو مكاشفة حقيقية، وقوف صامت للقارئ أمام المرآة، مرآة شعريّة تتصالح على صفحتها اللغوية الأنا التي تكابد أحمال الألم والصبر والمعاناة اليومية مع الأنا التي تسلط عليها لغة فوقية مستمدة من الاعتراف بضرورة البحث عن بعد جديد للواقع تكون فيه الأنا الواقعية واعية أكثر ومتحفّزة أكثر لمجابهة مصاعب الحياة ومدركة أكثر لسياقات مختلفة تتعايش معها دون أن تفهم كنهها، فالشاعر بصفته تلك التي تضعه في خانة الإنسان المجبول على رقة الشعور ورهافة الأحاسيس يعيش في الآن نفسه محنة الوعي التّي وصفها الكاتب والشاعر والفيلسوف "إيميل سيوران " باللعنة المزمنة، وكذلك أجد في قصائد ديواني "حالة وعي" اعترافاتي الخطيرة لذاتي وللقارئ بأنّ واقعنا العربيّ والتونسيّ بخاصّة هو واقع الامتحانات الكثيرة والمحن المزمنة وبذلك أكون قد وقّعتُ في نصوصي هذه جملا أقرب إلى صرخة الفيلسوف الذّي يرى بعين العقل المتيقظ المندهش أمام رداءة الواقع ما لا يراه بقية البشر بعيون الرتابة والاستسلام ".
بهذه الاعترافات تنقل لنا شاعرتنا في قصائدها امتحانات الإنسان العميقة و الأوطان العربية الجريحة حيث أثثت في أشعارها مضامين لأسئلة فلسفية وجودية باعثة على التأمل من ناحية و مضيفة للمعنى في بعدها الخلاق بعيدا عن الرتابة و التكرار، منفتحة على امل منشود من الوجود، عن هذه المعاني تقول بالرجب " لقد افترض'سورين كيركغور' وهو أوّل الفلاسفة الوجوديين "أن كل فرد مسؤول عن إيجاد معنى لحياته منفردا،شريطة أن يعيش حياته بصدق وشغف"، و كذلك الشعر هو دعوة إلى البحث الدّائم عن هذا المعنى، المعنى الذّي قد يحوّل الحياة إلى موت والموت إلى حياة.
وحين أفكّر كشاعرة عن كنه هذا المعنى الوجوديّ أجدُني أمام أسئلة حارقة كثيرة هي ذاتها الأسئلة التّي نطرحها يوميا في خلوة مع ذواتنا كأن نتساءل فجأة عن قيمة الأشياء من حولنا أو إذا ما كنا ضحيّة للواقع أو سببا في بنائه، وكذلك قصائدي في هذا الديوان ''حالة وعي'' هي ترجمة لأسئلة وجودية أعيشها بكلّ ما تكابده اللغة من مساوئ، أقصد بالمساوئ ؛ اختزال كلّ ذاك الألم الذّي يعشش في نفوسنا الضعيفة المتجاسرة وتطويعه في كلمات مشتعلة كقناديل تضيء دروبا معتمة أمام الإنسانية، أرى أنّ الوجودية في الشعر أمر قاعديّ فمن خلاله تنبثق الفلسفة الطموحة للغة، لا شيء قد يضاهي شعلة شعريّة وجودية في عتمة الواقعية و ظلمات الرّداءة ، فتلك الأسئلة ترفعنا إلى حيث لا شيء أطهر أو أنقى من ذات عارية تكدّس أوجاعها وأدرانها جانبا وتمضي خفيفة دون رقيب".