يغسل الصباح الأرض بضيائه بعد الظلام حتى تتراى للماشين بنزهة كأنها أرض بيضاء كما صدّق الشاعر باسم فرات في قصيدته التي تحمل ذات الاِسم حيث يقول :
الأرض بيضاء تلك التي حسبها الغرباء كتف امرأة عارية فقضموها "
وليواروا سوأتهم رجموها بالوشايات "
والحديث هنا عن قارة أفريقية السوداء التي يحاول الشاعر أن يختصر تاريخ مستعمريها باستخدام كلمة القضم / السيطرة لنهب ثرواتها يقابلها فعل التعري/ الذي يتعدّد إلى أكثر من رمزهنا لرسم ملامح
القارة / المكان الذي يقيم فيه الشاعر في دولة السودان فهو: الفطرة التي تحتفي بعناصر الطبيعة وتتعايش معها والتصالح مع الموجودات فيها الذي لا يملكه الغرباء المنحدرون من عرق حزين الذين أشاعوا عنها صفات تحط من عرق سكانها السود لتجريدهم من إختيارهم الأنساني الحر ولمصادرة أراضيهم وضمّها للإِمبراطوريّة التي كانت لا تغيب الشمس عنها القائمة على اِستعباد الآخر وسلب روحه العظيمة,
وضمّت المجموعة الشعريّة الصادرة عن الهيئة المصريّة العامة للكتاب لسنة ألفين وتسعة عشر ما يقارب من أربع وثلاثين قصيدة اِشتغل الشاعر فيها على موضوعة الحنين النوستالجيا في مجمل قصائده بالاِضافة لموضوعة الحرب التي لا تخلو مجموعة شعريّة عراقيّة صادرة في الثلاثين عام الأخيرة منها ربما لأن الحرب مازالت الحدث المأساوي الأعظم في حياة العراقيين وكأنهم تقاسموا حصصها بالتساوي بين قتيل تحت التراب وشريد ما زال عالق في التراب كما يقول الشاعرفي
قصيدة : "الحرب " التي كتبها بذاكرة طفوليّة تصف الفقد الذي يلي الحرب بالوحش المخيف الرابض داخل أروقة البيت غير مغادر يملاُ السنين القادمة بأنفاسه عواءً كما في الأبيات الآتيّة :
مبكراً في صباج بعيد"
رأيت الفقد يفترس العائلة
في حجرات البيت
حفر أنفاسه
ومن السقف تدلت نظراته
أنيابه تحيط بالدوران
تهتك الأبواب والأقفال
ينفث فيها سمومه
في صباح بعيد
رأيت شبابيك
تغتسل بحسرات الوداع
وبيتاً يخنقه عواء "
ولا بد من الاِشارة هنا لهذه القصيدة التي أنجزها الشاعر بدقة متناهية باِختزال المفردات التي تنسجم مع معانيها انسجاماً تاما لترسم مكان الحدث متمثلاً بالبيت / الوطن كوحدة متكاملة من العلاقات الانسانيّة الأليفة تهشمها وتفترسها الحرب / الوحش التنين المتمدّد بهيئته التي لا تقف بوجهها أبواب
أو أقفال وقد نجح في كتابة قصيدة متميّزة عن ويلات الحرب وما يتبعها من خراب دون الوقوع
بالسائد والمكرّر
مقارنة بقصيدته المسماة : "عبد عزيز الهر" التي كتبها باِسلوب مختلف تماماً مغرقاً بالتفاصيل وسرّد
حياة وصفات ومآثر لا تعني القارئ غيرالعارف بشخصيّة المكتوب عنه لينهي القصيدة بهذا
المقطع :
رأى الصقور ترسم مقبرة للبلاد "
والغربان تحجب الحياة عن أرضه "
نهاية معقولة فحاضر البلاد المضطرب جعل الشاعر هنا يستذكر ماضيها عبر شخصيّة "عبد عزيز الهر" وهو ماضي لا يختلف كثيراً بأحداثه الدراميّة التاريخيّة المألوفة للقارئ المعني بالشأن السياسي العراقي الحديث
ولعل قصائد الحنين بأشكاله المختلفة كما ذكرت هو ما يميّز المجموعة الشعريّة تبدأ بقصيدة :
"السليل وأسلافه " التي تتحدث عن مدينة كربلاء مسقط رأس الشاعر ومهد صباه والتي صورها باِعتبارها مدينة اسطوريّة بالماضي قبل أن يبللّها نهر الفرات وتصبغها بالسواد واقعة الفجيعة التي جعلت لها أبواباً
متعدّدةً كما يقول في هذا المقطع : ثمة أبواب تقودك إلى نبع الفجيعة "
ثم يعدّد أبواب المدينة التي لها أسماءً مختلفة كل اسم مرتبط بحقبة زمنيّة عاشتها المدينة التي ارتبط اسمها بنقطة تحول عظيمة في التاريخ الاِسلامي متمثلة بواقعة "الطف"
باب السلام , باب الكرامة, باب الشهداء, باب الرجاء, باب القبلة, باب الزينبيّة , باب الرأي
باب السلطانيّة , باب الرأس, باب الدخول إلى سدرة المنتهى,

وكأنها أبواب العبور من ثقل الأرض إلى خفة السماء القريبة البعيدة كلّ واحدة منها لها صفات تختلف عن الأخرى كلما اقتربت من الفجيعة وجهاً لوجه
أو في هذا المقطع الآخر من بداية القصيدة :
مدينة الكهنة
المبتلة بنهر الفرات عنوة "
بداياتها كتبها أسلاف قبل
عاشوا لقرون طويلة"
أنا سليلهم المبتل بالخضّرة "
ولا يتردّد الشاعر عن اعلان فخره وانتمائه لتاريخ المدينة الاِسطوري الغابر مذكرا بانفصاله
المعنوي والآيديولوجي وليس الجسدي عن حاضرها كما يعترف في هذا المقطع من ذات القصيدة حيث يقول في خاتمتها:
وأنا كعادتي"
أستحم بالفرات
وأتأمل البيداء موطن الحرية "

وانفصال الشاعرعن بيئته سواء كان لأسباب الهجرة الاِختياريّة أو النفي القسري يخلق حالة شعورية مضطربة لديه بعدم الاِقامة والترحال الدائم للوصول إلى الوطن البديل / ايثاكا كما يصرّح الشاعر في قصيدة صراخ": يا إله الغرباء"
أنا غريب "
عدّتي منفى
وأحلامي وطن مطعون في الخريطة
دلّني على أرض لا تجرح مثل بغداد"
أو في هذا المقطع الآخر الذي يتسائل فيه موجهاً سؤاله للرب :
هل ترى عرائي ؟
في صحراء يتوهمها الجميع بستاناً
لا أمل للغرباء في بلاد خطوا عليها طفولتهم "
وتتكرر الصور التي تتشابه في معانيها لشرح تداعيات المنفى مثل هذا المقطع :
عاريا نشرت المنافي أعوامكَ سنيناً بددا "
لا نأمة في هذا الفراغ "
حتى الريح استكانت له
من قصيدة : تخوم المنفى
غريب هذا الناعور
حين رآني
جفف دموعه وابتسم
من قصيدة : ناعور في مطعم
أو هذا المقطع : رفعت صوتي صارخاً
ايه يا بلادي المسجاة بين نهرين
من قصيدة : القصيدة ملاذ أخير

أو في قصيدة : "قراءتان للفجيعة " والتي وضّف فيها صراع الأضداد الطوائف في بلده الأصلي موجهاً ادانة قويّة لما حدث من اقتتال طائفي عبر شخصية محارب الساموراي الياباني
كما يقول في هذا المقطع :
التفاصيل تشيخ في اللغة"
لا قصب نأوي اليه
لا طين نسجل عليه مآثرأسلافنا
وضعنا السيوف في قلوبنا
وشهقنا
لم نعد نليق بهذا الوطن "
وباستثاء قصيدة " نخلة في تخوم المنفى" والتي يحاول الشاعر أن يحتفي فيها بالمنفى على مرارته بمعيّة النخلة التي وجد فيها سبباً بقبول الاِقامة في موطنه الجديد مذكّراً نفسه بأنه قد نجا من هناك
كما يذكر:
هنا في تخوم التخوم
نخلة
نتقاسم المنفى معاً
ترتجف فأنش البرد عنها بحنين
نسيته في ذاكرتي
مرّ عليها شعراء كثيرون
لم يسمعوا أنينها
لم يروا الضباب ينهش
نخلة جيء بها مثلي
من أرض صيف له ساحل الوقت
إلى شتاء المنفى الطويل
حيث لا شمس تتيه هنا
بمحاذاته تتساقط أيامنا
ونصرخ إنا نجونا من هناك "

والشاعر في هذه القصيدة يذكّر عن قصد أو غير قصد بحكاية من التاريخ متمثلة بقصيدة النخلة للخليفة الأموي عبد الرحمن الداخل الملقب بصقر قريش مؤسس الدولة الأموية في الأندلس سنة مئة وثمان وثلاثين هجريّة والذي كان يكتب الشعر مثل الكثير من الأمراء ومشاهير العرب فكانت قصيدته
كالآتي :
تبدَّتْ لنا وسْطَ الرُّصافة نخلةٌ
تناءتْ بأرضِ الغرب عن بلد النخلِ
فقلتُ شبيهي في التغرُّب والنوى
وطولِ الـتَّنائي عن بَنِيَّ وعن أهلي
نشأتِ بأرض أنتِ فيها غريبةٌ
فمثلُكِ في الإقصاءِ والمُنْتأى مثلي

ولعل قصيدة :" أسرار" من أكثر القصائد التي توضح غربة الشاعر بين منفيين : منفى المكان بشقيّه موطن الولادة وموطن الاِقامة ومنفى الروح التي لا تضيء الا بالقصائد صعبة المجيء كما يعترف الشاعر ويجتهد في كتابة شعراً أجده عميقاً مكثفاً في صوره ومعانيه الاِنسانيّة الواضحة لكن أحياناً
يشبه الكلام العادي التقليدي الخطابي .
قصيدة : "أسرار"
خطوات في متاهة الأزقة
خطوات جديدة
وجدت أسراراً في فانوس مهمل
شعلته ذاوية
بجانبه غاوٍ
ينفخ فيه خشية الاِنطفاء
فقراء زادتهم خرقة التصوف ألقاً
يطعمون السابلة
ويعطّرون التاريخ بتراتيلهم
قلوبهم غسلت خطواتي
أنا الغريب في مدفن سرّتي .

ملبورن