تتألق القصيدة حين تتبدى في ثوب جديد، وتتزيا بجلد من الزهو التعبيري لا يكتفي بالسطح الخارجي فحسب، وإنما يتعمّقُ أكثر ليمس جوهر الكلمات، ويفجّر طاقتها القصوى في السمو نحو المعنى المغاير، سواء ظهر هذا التفجير بلغة طيعة مبسطة ، لكنها تصنع استيهاما ما في التخييل المكثف الراكض بتلقائية صوب ابتكار الدلالة، أو بلغة متراكبة من مستويات وطبقات دلالية يتسنى للقارئ الوصول إليها مع المعايشة والتأمل الشفيف.

إن الشاعرة أماني غيث تقفو بنا في حساسيات خاصة في كتابتها الشعرية التي تطل بها علينا عبر فضاء ديوانها :" فلترجموها بوردة" الذي تقف فيه هناك في الجانب الضدي الباحث عن لحظة صدق، والباحث عن حقيقة واضحة غير مواربة، تطل من بين الكلمات وعلاقاتها المتجاورة التي تنضّدُ رؤية مختلفة تزجيها الشاعرة في نصوصها المتنوعة.

في البدء يمكن أن نصف الإطار العام للديوان، فهناك خمسة محاور يضمها الديوان الصادر عن ( دار ناريمان للنشر ، بيروت، الطبعة الأولى 2021 ) ، يتضمن كل محور مجموعة من النصوص الشعرية تتفاوت قصرًا وطولا كما تتفاوت رؤية ودلالة. الشاعرة آثرت أن تسمي كل محور بعنوان يكثف الإطار العام لهذه النصوص، ويسمي دلالاتها وهواجسها.

واحتوت المحاور الخمسة العناوين التالية : (إنسان إنسان إنسان) ، ( الوطن) ، ( أفلت الفراشات)، (هيرويين المعنى)، ( طلاسم القلب) .

وتحتوي هذه المحاور الخمسة على( 44) نصًّا شعريًّا.

من الجلي مبدئيا هنا أن الشاعرة بهذا التقسيم المحوري الذي تأتلف داخله النصوص تصبو إلى تقديم رؤية شعرية محددة، وتسعى إلى تقديم تجربة خاصة بها، إذن لنرَ ماذا قدمت الشاعرة؟ وماذا انطوت عليه هذه المحاور والنصوص من رؤى؟


اقتراب أول:

في المشهد العام الذي يؤطر للديوان دلاليًّا نجد الشاعرة تركزُ على المختلف، وتضيء جوانب نصوصها بما هو ضدي مخالف ومفارق معا، إنها تقاوم هذه الاعتيادية، وهذه المؤانسة والتقليد في العلاقات بين الأنا والآخر، تنتقدُ في ظواهر كلماتها وبواطنها، ظواهر الواقع وملامحه، تنتقد أيضا هذا التواني في مقاومة القهر، وتنتقد غياب الصدق ، وتفتش عن الحقيقة.

إن هذا المشهد العام هو ما يشكل الهاجس التعبيري الأول لدى أماني غيث كما تبين نصوص المحور الأول :" إنسان إنسان إنسان" . في هذا المحور

في بداية تصدير الديوان نشعر بهذا الاختلاف الذي تقدمه الشاعرة، حيث تقول في التصدير:

" لستُ من الكاتبات اللواتي يبدأنَ كتبهنّ ب" إلى رجلٍ ما"

أنا أهدي كل ما أكتب

إلى الشقوق في قدميّ أمي " !

هي بداية مختلفة لا شك. هذا الاختيار المؤلم اختيار له دلالته يتجلى في أن الشاعرة تبحث عن الصدق التعبيري والوصف المباشر من دون أي تزيين أو تنميق. هنا نحن حيال شاعرة تعي ما تقول وما ترى.

وهو ما يتبدى أولا في المحور الأول الذي تذهب فيه للتعبير عن الإنسانيّ، عن الجوهر في جملة من النصوص ، ففي نص المستهل ومنذ البدء تسعى للبحث عن تطور ما في ما هو إنساني لا في ما هو تقني، النص جاء بعنوان:" تطور حقيقي" ( ص.ص 9- 10 ) وهو يخالف توقعنا القارئ ليذهب إلى ما هو إنساني، كأن العلاقات الإنسانية يحدث فيها ابتكار وتطوير أيضا لكن على المستوى القلبيّ ، فتتساءل الشاعرة في بداية النص:

متى يتطوّرون

ويخترعون مرايا للكلمات

مرايا تفضح القبح الحقيقي

متى يخترعون مناديل للدموع الداخلية

مناديل بإمكانها أن تمسح التعاسة والعرق

عن جبين القلب ؟!


التطوير هنا يلامس أشياء أخرى معنوية ترتبط بالإنسان نفسه ، تطوير يبحث عن دائرة الصدق، الكامن في الجوهر لا الذي يتبدى على السطح، في ظاهر الإنسان، فالمهم تطوير الباطن، الداخليّ فهو الذي سينقي الأفعال، وينقي المواقف. ولذا فهي تتمنى أن يذهب هذا التطوير لصناعة مزيل لرائحة القلق، ومبيد للخوف، وأدوية تشفي من الحزن، وأقراصا للسعادة، وهكذا، بيد أن الشاعرة تختتم نصها بعدم إمكانية هذا التطوير " فبعض القلوب جليد يتقن فصلا واحدا ولا يذوب" .

تمضي هذه الرؤية لتبحث عن تغيير ما في بقية نصوص المحور الأول حيث تركز فيها الشاعرة على استقطار الأفق المعنوي للإنسان، والتركيز على جوهره، بعيدا عن الدعاية الظاهرة المزيفة غير الحقيقية.


وهي تنتقد هذا الاهتمام الكبير من جانب الآخرين بالموتى، لا يشعرون بالإنسان إلا إذا غاب ومات واختفى، فيتباكون ويرثون، كأنهم يحبون الغياب، ويطربون له ويصدقونه:

أنتم لا تصدقون سوى الغياب

سوى الرحيل الذي يجعل من الناس ملائكة فجأة

تحتاجون دائمًا إلى موت يُهبطُ ويرفّعُ

يُبعدُ ويقربُ

ويغير الجميع / ص. ص 23- 24


هل إن الحضور الموتي هو ما يجذب الانتباه إلى الإنسان اليوم، لا تتصور الشاعرة ذلك فقط، فإن الحكاية تنتهي بشكل خبري عابر، وهي هنا قد تذكرنا أحيانا بالشاعر صلاح عبدالصبور في :" أقول لكم" حيث تستدعي بعض الاستلهامات:

قلتُ لكم أكثر من مرة

إني أموتُ

لكنكم لم تكترثوا لذلك

لم تعيروا روحي اهتمامًا

متُّ كثيرًا لكني ما رأيتُ محبتكم

وما شممتُ الزهور ولا البخور

ولا زرتموني / ص 23

تذكرنا أيضا ببعض أشعار محمود درويش، في قوله:" أصدقائي من تبقى منكم يكفي لكي أحيا سنة" أو:" لا تموتوا مثلما كنتم تموتون" أو :" يضيئني موتي" ثمة حضور لهذا الموت الذي يلقي الضوء على الإنسان، ويجعل الآخرين يهتمون به ولو للحظات، هي لحظات الوداع أو المراثي.


تحريض على الحياة:

تعبّرُ الشاعرة أماني غيث في أحد نصوصها عن رؤيتها للكتابة الشعرية، وترى أنها تكتب قصيدتها كي تحرّضَ على الحياة. القصيدة عندها حياة ضد الحياة . الحياة اليوم التي ينتجها عصر راكض متسارع، يتخلى فيه عن قيم الجمال والحق والخير، فيما يشتّتُ الذات ويبعثرها بل ويدفع بها إلى الفناء المجاني. أماني غيث تقول هذه الرؤية، كمبدأ رؤيوي ، كفكرة شاملة تتكئ عليها في تقديم تجربتها الشعرية، ولذا فهي من شاعرات الرفض والتمرد، رفض هذه الحياة الراهنة التي تفضي إلى فناء ما، وإلى توحش النموذج الإنساني، فيما تصبو إلى حياة أخرى مغايرة تحيا فيها الذات الشاعرة بكل حريتها ونزقها الجمالي – إذا صح التعبير – وهي هنا تراودنا لندمج الوعي القارئ في سبل نصوصها الشعرية ، وتدعونا لكي نقطف مكامن ثمرات كتابتها ، فكيف نقرأ رؤية الشاعرة أماني غيث ؟

شعرية الصدمة:

في المستهل سوف نلامس هذه الصدمة الأولية المبنية على النفي، نفي الكتابة، ونفي الإبداع الشعري الذي تنهض به الشاعرة. إنها تؤسلبُ بنية منفية متكررة من أجل أن تصدمنا لنعي أكثر ونتيقظ ونلحظ بتركيز شديد مقصد الشاعرة من الكتابة.

تختتمُ أماني غيث نصا صادما بعنوان :" إشاعة " / ص.ص 92-95 بالقول :

أريدُ أن أختفي

أن تبعدوا عني أصابع الاتهام

لا

لستُ شاعرة.


النفي هنا بنية مسنونة صادمة، فهي تنفي أن تكون شاعرة، هو نفي مفارق لا نفي حقيقي بالأحرى، فالشاعرة هنا تقدم رؤية ضدية، ربما ضد واقع يهمّشُ الجمالي ويهمش الذات الشاعرة نفسها التي تبدع وتخلق عبر اللغة والتصوير، مرتكزة على تقديم عمل فني ليس له سابق وجود على مستواها الفردي الذاتي أو على المستوى الجماعي، فكل قصيدة تُكتب هي بمثابة خلق جديد لا توأم له.

في ظل هذا الوعي تكتب الشاعرة بألم ونزق يتأمل أكثر ولا يثور، يغضب برهافة تشعُّ في علاقات الكلمات والجمل، ولنصغ لهذه البدايات في النص:

يردّدُ البعضُ إني شاعرة

والحقيقة أنا مجرد لاعبة سيئة

تصوّبُ كل سهامها نحو الشعر

وتخسرُ غالبًا

بل تخسرُ دائما

...

وأنا أيضا لا أجيدُ الكتابة

أنا فقط أرقصُ فوق الورق

أمدُّ خلخالي حتى آخر السطر

وأختمُ الجمل المفيدة

بقبل منقوعة بأحمر شفاه


الشعور بالفقد إزاء الكتابة الشعرية وبالخسران هو شعور هلامي هنا، غير جوهري لكنه يشير ، بمعنى ضمني، إلى حسرات الكتابة، وصعوبتها والتزامها ، وأن كل قصيدة تكتب لا تعبر تماما عن الحالة الشعرية، وأن أجمل النصوص هي التي لم تكتب بعد. هذا هو المعنى الضمني الذي تزجيه الشاعرة من وراء عبارتها :" الحقيقة أنا مجرد لاعبة سيئة تصوب كل سهامها نحو الشعر" وهو تصويب رابح – على اليقين – لأن الشاعرة تُجمّل هنا بالمفارقة ، ففيما تقدم نصًّا له كينونته التعبيرية يحملُ نبضها ونبرتها، تنتقد – بوعي مفارق- هذه الكتابة وهذا الشعر، وتطنب في هذا النقد، لكنها تقدم بشكل ظاهر جلي رؤيتها للكتابة الشعرية في ستة أسطر متتالية تبدأ بالفعل المضارع الموجه للمخاطبين مسبوقًا بأن المصدرية للتأكيد على هذه الرؤية:


من الأفضل ألا أكملَ لن أكملَ

لكن عِدوني أيها الشركاءُ في الجنون والسوء

أيها الموغلون في الاحتراق

غدًا إن ماتت يداي

ودخل فمي في غيبوبة

عِدوني

أن تغسلوا اللغة جيّدًا

أن تمسحوا الغبار عن الكلمات القديمة

أن تنشروا السطور والهوامش في الهواء

أن تحرقوا صوتي وتنثروه في الريح

أن ترموا الغياب فوق اسمي

أن تطمروه بحرص

أريدُ أن أختفي

أن تُبعدوا عني أصابع الاتهام

لا

لستُ شاعرة .


هكذا تتتابع الرؤية بأن المصدرية، الشاعرة تجتهد في تكثيف رؤيتها فلن تتجدد الكتابة الشعرية بالاحتراق وحده الذي تعايشه الذات الشاعرة، ولكنها تتجدد بإزالة ركام اللغة وغسلها، ومسح الغبار عن الكلمات القديمة والكتابة في الهواء الطلق ... إلخ ما جاء في أسطرها التي تصور بها رؤيتها المكثفة للكتابة. الشاعرة هنا تريد خلقا شعريا جديدا، هي تلمح له وتبرزه ، وتضع إطارًا جماليًّا لما يُكتب، أو تصبو إلى كتابته في تشكيل يعيد خلق اللغة وابتكارها وتجديدها، ولذا فإن الذات الشاعرة بالنص لم تقنع بما تكتب حتى اللحظة، وتصل إلى نفي الشاعرية ، :" لا لست شاعرة" .


من آليات الكتابة:

إن الوعي بآليات الكتابة يتجسد في هذه العبارات الصادمة في تمظهرها الأولي، بيد أنها تقدم مفارقتها من أجل السعي صوب التغيير والتحريض على حياة نصية جديدة.

في جانب كبير من نصوص الديوان تتوجه أماني غيث إلى مخاطبة الآخرين، فالخطابات الشعرية موجهة لمجموع الآخرين ، كأنها تخاطب الضمير الجمعي في عدد من النصوص ليصبح ( الأنا ) و( الآخرون) محور الديوان ، كما تقدم في بعض الأحيان صورة العارفة الحكيمة الرائية

كما أن المفارقة الصاخبة عمل من أعمال الشاعرة في هذا الديوان، في نصوص كثيرة مثل:" مقبرة" و" قتلة " تمثيلا، ففي نص :" مقبرة" تقول:

" هل سيرفعون سعر الكُلية أيضاًا؟"

طفل يسأل أمه

ذات ألم

بعدما سمع أبويه يتحدثان عن رفع جميع الأسعار

فيما يحتفل الحاكم

بعيد ميلاد كلبته . / ص 45


كما تقوم الشاعرة بدمج النصوصيّ في مستوياته اللغوية المتعددة بالنصوص الشعرية، حتى النص العامي ، المثل الشعبي:" على قدّ بساطك مد إجريك" / ص 45

فيما تستثمر في نصوصها كذلك : الخبري والمانشيتي والشعبي، والمسلسلي التمثيلي، وهي دائما ما تتوجه للآخرين، وتصور دلالات الموت، و الشعر كما في ( المحور الرابع: هيرويين المعنى) في نص :" جرأة" – تمثيلا – حيث تتحدث الشاعرة عن القصائد والشعر، عن شكل قصائدها وهويتها وتوجهها التعبيري والفني ، حتى النص الأخير لا تتوقف الشاعرة عن اقتراحاتها الجمالية الدالة فتعطي تعريفا جديدا للحب، كما في نص "تعريف"

الحبّ

هو أن تمنحني وأنت تختنق

الهواء الذي تبقى لفمك.

الحبّ

هو أن أنزف ملء جسدي

فتهبني

كل دمك . / ص 121

وفي عنوان:" مشهد" ( ص.ص 69-72) تصور اللحظة المفارقة بين الحقيقة والقناع، بين ما تئن به الذات الشاعرة في كينونتها، وما يتصوره البعض من الخارج. إنها رؤية نقيض لا تكشف هذا التخالف بين صورة الأنا الخارجية وما يراه الآخرون، وبين الصورة العميقة التي بداخل الذات وهي صورة ألم وانكسار وفقدان، تتجاوزه الذات الشاعرة في النص بالبوح الغنائي الشفيف. فهذه الانكسارات تتحملها الذات في أعماقها وتحولها إلى غناء، ويكفي أن يتحول هذا الألم الداخلي إلى نص شعري جمالي شفيف.

إن الشاعرة تقدم خطابها الشعري للآخرين. كأن الآخرين هم الجحيم، بتعبير رامبو، الجحيم الذي يحرق الدلالات ولا يتيقظ إلا إلى الأقنعة الخارجية من دون استشفاف ما بالداخل، من هنا وبشكل مفارق تعبر في مشهدها:

أنا متعبة متعبة متعبة

أنا لا يوجد من أقول له: صباح الخير

من أرمي خيباتي في حضنه

أنا المرايا تمقتُ شكلي

تبصقُ في وجهي

أنا الأغاني تمدّ لسانها لي

الرومانسية تتنمّر عليّ

تسخرُ من مقاس قدميّ

في روحي جثث

جيف

حطام

أنا بازل مشتت

أحاول أن ألصق كل قطعي الممزقة بالشعر

والشعرُ يركضُ حولي

يقفز كمجنون .

في أفق هذا الجنون تصور أماني غيث مدارات نصوصها في حقولها الخمسة مصعّدة الرفض والمفارقة والسخرية أحيانا إلى أقصى طاقاتها ، منتقدة الواقع وأقنعته ورافضة قيمه المادية التي تُميت الروح، وتكسر الحواس، وتقلب مواقيت الحياة إلى جرح يومي مسنون تكابده الذات الشاعرة في وعيها بالواقع وفي محاولات تفلتها وتمردها على قيمه المادية العابرة.