بقلم زهور السايح


لا يملك أدب “الدستوبيا”، الذي يمثل في العمق “نزالا سرديا” في مواجهة واقع مُحْبِط، غير ما يحيل رأسا إلى عالم مقبل يسكنه الخراب وتهيمن عليه العتمة وتموت فيه الإنسانية.
ويقع غالبا المحاربون داخل هذا العالم من أجل بناء ما هو أفضل صرعى قوى مريبة تتحرك بوقع همجي في الخفاء والعلن، بينما تتوغل أقدام من تعوزهم إرادة التصدي والمواجهة في وَحَل العجز واليأس والاستسلام. وقد ينخرط بعضهم، منقادين بطريقة آلية، في الرقص على وقع سمفونية ما قبل وقوع الخراب المدمر، مساهمين ببلاهة في استدامة شروط حتمية حدوثه.
ويرى غالبية النقاد أن أدب “الدستوبيا” استطاع أن يتأسس كنوع أدبي خرج متكامل الأركان من رواية “عالم جديد شجاع” (1932) للكاتب البريطاني ألدوس ليونارد هكسلي (1894 – 1963)، ومن رواية “1984” للصحافي والروائي البريطاني جورج أورويل (1903-1950)، بالضبط تماما كما خرج جنس القصة القصيرة مكتملا من قصة “المعطف” للأديب الروسي نيكولاي غوغول.
بدأ “أدب الديستوبيا” في الانتشار مع الثورة الصناعية واستفحال الفوارق الاجتماعية، وبعد الحربين العالميتين وما صاحبهما وما كان لهما من تداعيات كارثية على جميع المستويات، تجلت على مستوى الإبداع الأدبي في بروز تيار تشاؤمي عدمي قاده الأديب الروسي يفغيني زامياتين، بروايته “نحن” (1926) التي أفرغ فيها استياءه ومرارته من مآل الثورة الروسية، حيث صور مستقبل عالم لا خصوصية لمن يعيشون فيه، ما داموا محاطين بالزجاج من كل جانب، خاضعين بيسر وطواعية لرقابة النظام الحاكم، مفتقدين لما يحدد هوياتهم كبشر، محرومين حتى من التسمية، إذ يتم التعامل معهم جميعا كأرقام ليس إلا.
ويشير بعض الدارسين لهذا النوع الأدبي الى ما كان لرواية “نحن” من تأثير على رواية أورويل (1984) التي صدرت سنة 1949، وما كان أيضا قبلها من دور فاعل لرواية الكاتب التشيكي فرانس كافكا “المحاكمة” (1925) في دعم انطلاقة هذا التيار.
وبتتبع العناوين الأدبية المنتجة في إطار هذا النوع، يتبين أن جنس الرواية يشغل الجزء الأكبر، ويمتد عبرها الى الأفلام وأيضا إلى الألعاب الإلكترونية.
وتصر غالبية الكتابات، التي قاربت هذا النوع الأدبي، على ضرورة عدم خلطه بما يسمى بأدب “نهاية العالم” الذي يتناول كارثة بعينها قد تكون طبيعية أو بيولوجية أو نووية، في وقت ينصب فيه تركيز “الديستوبيا” ضمن كل هذه الأهوال على نهاية الإنسانية.
صرخة تدمر واستغاثة من الراهن وموقف ارتياب ورعب من الآتي
تكشف “الديستوبيا” عن الوجه الآخر للتخييل الأدبي حين يتنبأ بمآسي مدينة منهارة، بدءا مما قد يخدش ظاهر صورتها من قبح معماري مرورا بما قد ينخر نظامها من استبداد وظلم وفوضى وتدهور تام للقيم، وصولا الى العدمية وانتفاء انسانية الإنسان.
ولا يملك صانع السرد إزاء كل ذلك إلا أن يرسل صرخات تدمر واستغاثة من حاضر متمادي في قساوته، ويطرق أجراس الإنذار من قادم كارثي أكثر إيلاما ورعبا.
وبحسب النقاد، يأخذ الرعب داخل النص الأدبي “الديستوبي” لونه من مسبباته التي قد تتمثل إما في “حروب نووية، أو انفجار ديموغرافي، أو استنزاف للطبيعة، أو تحول ظاهرة الفساد الى مؤسسة، أو الإجهاز على حرية التعبير، أو في انهيار سياسي بسبب اكتساح الشعوبية للحياة السياسية، أو غيرها من الظواهر”.
ومن هذه الزاوية، تبرز “الديستوبيا” الكيفية التي يتحول بها الخيال في الأدب الى نذير شؤم ومثير للمخاوف، وكيف به يتأرجح بين الحلم المستحيل ب”المدينة الفاضلة” والواقع المثخن بالجروح والمفاسد، الآيل الى حتفه في حكم المجاز والحقيقة.

كما تميط اللثام عن الكيفية التي تغوص من خلالها شخصيات البناء الحكائي في أعماق مخاوف لا حصر لها من مستقبل قاتم، يتأسس، في الأصل على واقع مرير ومصيدة من الإحباطات لا تسمح، في اقصى حدود التفاؤل، غير الوقوف بكل استغراب وتَهَيُّب أمام تغيرات قد تحيل المستقبل الى ماض تَخَلَّفَ عن إدراك موقعه الحقيقي من التحولات المفترض أن تكون منقدة للأنا والآخر وصانعة لتوازنهما واستقرارهما في قلب عالم على شفير الهاوية.

وفي المحصلة، يبدي هذا النوع من الأدب، الذي نجح في التكهن باستفحال معضلات شتى كالتلوث والفقر والانهيار المجتمعي وسيطرة الأنظمة الشمولية وغيرها من الأدواء، حالة من العجز عن مقارعة شروط الواقع، والاكتفاء بدل ذلك بإفراغ تنبؤات سوداوية عن مآله مستقبلا واستحالة أو عسر تجاوز حتمية هذا المصير. ولعل العجز عن إحداث تغيير في الواقع وإيجاد مخارج حاسمة، مستدامة لمآزقه، والإخفاق في استيعاب شروط المستقبل الآمن، هو ما يفسر هذا المهرب التخييلي الموغل في التشاؤم وهو بالتالي ما يعزز ربط هذا التوجه، تخييلا وقراءة، بأوضاع مستعصية قد تكون سياسية أو اقتصادية أو صحية أو هي معا، كما هو الأمر اليوم في أكثر من منطقة في العالم مع جائحة “كورونا” وتداعياتها السلبية على مختلف القطاعات. ومما يزيد من فيض هذا التوجه في الوقت الحالي، بحسب الكثير من النقاد، “تعاظم تكنولوجيا المراقبة والتقاط المعطيات” والوعي المتزايد بالإمكانات التي تتيحها هذه التكنولوجيا لانتهاك الخصوصية والتأثير في الميول والمواقف في مجالات شتى أقربها الاقتصاد والسياسة، يوازيها وعي مماثل بتنامي المخاطر البيئية والبيولوجية، الى جانب اتساع مجال الانتشار السريع للمعلومة الصحيحة والزائفة على حد سواء، ومن جهة أخرى الميل، الذي لا يمكن إنكاره، الى تمجيد والثقة في المعطيات العلمية، وهي عناصر قمينة بأن تشكل المدد العلمي لإغناء المتخيل السردي للديستوبيا.

مساحة الخيال وحدوده في الديستوبيا

بين خيال مغرق في التشاؤم يحتكم الى الاحتمالات المقبولة علميا، وآخر، بقَصْدِية أو بِدُونِها، يتخطى كل ذلك ليحلق بعيدا خارج كل الضوابط، توجد مسافة فاصلة بين الحقيقة الممكنة والعجائبي الخارق.ينسج “أدب الديستوبيا” جانبا من سردياته بالاستناد إلى الخيال العلمي، الممزوج بكثير من الظلال القاتمة للتنبؤ بعالم قادم يحكمه الشر ويسوده الخراب وتنتفي فيه معاني الإنسانية والفضيلة. غير أن الإغراق في مفارقة حدود الإمكان ينتقل بالسرد من منطق الخيال العلمي في ممكناته الرحبة ليقترب به من النفس العجائبي. ويظل هذا التراوح عند التماس بين حدود العجائبي والانغماس في الخيال المسنود بخلفيات رؤيوية علمية محكا لحدس مدى توازن السرد، وحري به، على هذا النحو، أن يضع القارئ ضمن دائرة القناعة باحتمالية حدوث تنبؤاته، مادامت تنبني على حد معقول من أسانيد ذات مرجعية يمكن التحقق منها علميا.
ألا بضدها تتميز الأشياء تقف “الديستوبيا” و”اليوتوبيا” على طرفي نقيض، إذ في الوقت الذي تنذر فيه الأولى بمآسي مدينة مقبلة على الانهيار، تبشر فيه “اليوتوبيا” ك”بنية تاريخية بديلة مبتغاة”، بمدينة فاضلة آمنة مستقرة تعج بالخير والطمأنينة والبهجة والسلام، وتستند إلى مبادئ الأخلاق، في مقدمتها مدينة أفلاطون التي كشف عن معالمها في محاوراته السياسية تحت مسمى “الجمهورية”.

ولم يقف الحلم بهذه المدينة عند الثقافة اليونانية بل انزرع في كتابات من ثقافات عدة، بما فيها الثقافة الإسلامية، واغتنت ملامحها عبر ذلك بزمن بعيد قبل أن يجهر السياسي والفيلسوف والمؤرخ والروائي توماس مور في كتابه “يوتوبيا” (1516) برؤيته عن مدينة تقوم على نموذج اجتماعي وسياسي جديد ينظم حياة الأفراد وفق مبادئ العدالة والحرية والمساواة، ويرسخ أعراف وقواعد تحتفي بالخير للجميع وتحتفل بالطبيعة وتحث وتعمل على حمايتها، وتفلح بالنتيجة في بناء شخصية مواطن ملتزم بأحكام قانون هو أساسا من ساهم فـي صياغته.

وفي الطرف النقيض، جاءت رواية “عالم جديد شجاع” للكاتب البريطاني ألدوس ليونارد هكسلي، لتؤسس بوضوح ل”أدب الديستوبيا” وتتنبأ بعالم غريب يتمادى فيه الباحثون في توظيف هندسة الجينات والاستنساخ بغية السيطرة على الأفراد، عبر التحكم في طبيعة الولادات وفق تصميم مراد له أن يسفر عن خمس فئات اجتماعية “النخبة، التنفيذيون، الموظفون، وفئتان يتولى أفرادها القيام بالأعمال الشاقة”، وهي فئات يتم توصيفها بالأبجدية اليونانية “ألفا، بيتا، غاما، دلتا، ابسلون”.

وفي هذا المشهد السوريالي، تبدي الصورة نظاما شموليا يستخدم القمع ويعدم أبسط الحريات الطبيعية، ويحكم سيطرته على الجميع في سجن مفتوح، كل من فيه عبيد، بدون استثناء، حتى المصنفين منهم في عداد النخبة، ما داموا مبرمجين جميعا ليكونوا ما هم عليه، لا يملكون البتة اختيار ما يودون فعله بحيواتهم سواء في الحال أو الاستقبال.

وتناسلت عن هذه الصورة للمدينة الفاسدة نماذج “للديستوبيا السياسية” تغرف من ذات المستنقع، ما كشفت عنه الرواية التأسيسية الأخرى لهذا النوع الأدبي لجورج أورويل “1984”، حين رسمت حياة ساكنة مدينة يعيشون تحت وقع الاستبداد والقهر والمحاسبة، مسلوبين من أبسط ما تمنحه الحياة من حرية، مطوقين بكاميرات مراقبة وضعها النظام لترصد بدقة جميع تحركاتهم، مستهدفة بالمراقبة والمحاسبة أفكارهم أيضا.

وتندرج ضمن نفس القائمة روايتا جاك لندن (1876 – 1916) “الطاعون القرمزي” (1912) التي تتنبأ بكارثة وباء سيحل بالعالم سنة 2013 ليقضي على الكثير من سكانه، و”العقب الحديدية” أو “كعب القدم الحديدي” (1908)، التي حملت نبوءة صعود الفاشية، وتَسَلُّط طبقة طاغية في الولايات المتحدة.

وتطول قائمة الروايات التي تندرج ضمن نفس التوجه بتنويعات تتمثل في ما صنفه بعض النقاد ب”الديستوبيا الثقافية”، من قبيل رواية “فهرنهايت 451” للأمريكي راي برادبوري (2012-1920) والتي توقع فيها أن تشهد أمريكا والعالم عودة لحقبة من الإرهاب الفكري والثقافي المنطلق من أحكام سياسية مسبقة ومواقف شمولية.

وتترجم الرواية، الصادرة عام 1953، هذا المعطى من خلال تصويرها لمستقبل يُمنع فيه تداول الكتب كليا، ويتم إحراقها إن وجدت على درجة 451 فهرنهايت، ليتم الاستعاضة عنها كليا بالتلفزيون.
أدب “الديستوبيا” وخيبات العالم العربي

اعتبر بعض الدارسين أن ازدياد عدد الروايات العربية الدستوبية، في الآونة الأخيرة، يفيد بأن هذا النوع الأدبي، الذي ألحق به عربيا توصيف “أدب ما بعد الثورات”، اقترب من أن يكون ظاهرة عربية بامتياز، يحفزها من قلب المعاناة البحث عن جواب لسؤال وجودي مقلق وهو “ماذا بعد؟”.

والإجماع ثابت لدى النقاد على أن جملة من أزمات و إحباطات الواقع العربي على أكثر من صعيد، وما صنعته من تحولات بنيوية في التركيبة السوسيو-ثقافية، هي ما كان وراء تنامي حجم الكتابة في هذا النوع، مدفوعة بخلفية تاريخية لا خلاف حول ما تتسم به من صعوبات شديدة التعقيد. وهي صعوبات لا تكتفي، حين تدقيق الملاحظة، بما هو من قلب دائرة رقعة الوطن العربي وهواجسه آنا واستقبالا، بل تشمل أيضا، في ظل عولمة المآسي والصفعات، ما يطال باقي بلدان العالم وما تعصف به الرياح في كل الشطآن والمرافئ وما يتدافع نحوها وبينها من زوابع.

وهو ما جعل نقادا يؤكدون أنه إذا كان القرن العشرين هو “العصر الذهبي لأدب الديستوبيا، فإن القرن الحادي والعشرين هو العصر الذهبي للديستوبيا الحقيقية المتجسدة على أرض الواقع، ديستوبيا الدول الفاسدة، ديستوبيا الحرب والدمار” والأوبئة المستعصية وما يترافق معها من تباطؤ أو نكوص اقتصادي. وهو وضع لم يعد، بالدليل القطعي، يستثني أحدا، لأن المحنة باتت عالمية. وإن بدا أي تفاوت في وقعها ومصابها، فبحسب ما كان متراكما من أزمات، على الأقل قبل حلول الأزمة الصحية والوهن الاقتصادي، وبحجم الاستجابة الفعلية لما يجري وما ينبغي تداركه.

وتتزاحم الروايات العربية “الدستوبية” التي تلعن في العمق شروط واقع قائم وتتنبأ بمصير أكثر سوداوية يلف خلاله الفساد والخبث والأوبئة وجه المدينة العربية ويكبل ساكنتها في قلب مستقبل مقلق محفوف بالخوف من المرض والقمع والتنكيل والنزعات المادية المجنونة وغيرها.. ويمكن، في هذا الصدد، مثالا لا حصرا، استحضار رواية “حرب الكلب الثانية” للأردني من أصل فلسطيني إبراهيم نصر الله، و”اللجنة” للروائي المصري صنع الله إبراهيم، ورواية “وليمة لأعشاب البحر” للروائي السوري حيدر حيدر، ورواية “إيبولا 76” للطبيب والروائي السوداني أمير تاج السر، ورواية “يوتوبيا” التي تندرج ضمن نوع “الديستوبيا” بالرغم مما يوحي به عنوانها، للطبيب والروائي المصري الراحل أحمد خالد توفيق عراب أدب الرعب عربيا، وأيضا رواية “ذاكرة الماء.. محنة “الجنون العاري” للروائي الجزائري واسيني الأعرج، وأيضا روايته “2084 حكاية العربي الأخير” التي تستقي نسغها الدستوبي من رواية “1984” لأورويل والتي كانت هي الأخرى تحمل في البدء عنوان “آخر رجل في أوروبا” قبل أن يتم تغيير عنوانها الى رقم يؤشر على تاريخ المرحلة المرعبة المتنبأ بمقدمها.

غير أن ما يميز الرواية “الديستوبية” العربية، والتي لا يزيد عمرها عن عقدين، هي أنها لا ترمي بنفسها كلية في أحضان نظيرتها الغربية، ولا تحلق كثيرا في مراتع الخيال العلمي المجازف، كما أنها لا تطل على قارئها بقصد الترفيه، وإنما تتأسس، بحسب قراءات تحليلية، على “نوع من الالتزام بالواقع السياسي والاجتماعي (…) وتحذر من مغبة استمراره وديمومة تَرَدِّيهِ”. وتتوارد عند مقاربة الأعمال المصنفة ضمن هذا النوع الأدبي أسئلة متعددة، لعل أقربها البحث في مدى ما يملكه تنبؤ النص السردي بمستقبل فاجع من قوة على منح الإنذار الكافي ليتم استدراك الأمور قبل أن تؤول الى الأسوأ، وحيز واقعية ومصداقية هذه التنبؤات، وكذا القيمة الأدبية النوعية التي تحبل بها هذه الأعمال أو تبشر بها ضمنيا، خاصة على مستوى المشهد العربي، وأيضا موقع الأدب المغربي عربيا من هذا اللون من الكتابة السردية.

أسئلة كهذه وغيرها كثير، تفرض بالدرجة الأولى أبحاثا وقراءات محايثة للنصوص الروائية، وحري بها من هذه الزاوية أن تثير شهية النقاد وأيضا الباحثين على مستوى الجامعات.