بقلم كامل المرّ


الشاعر شوقي مسلماني، في مجموعته الجديدة "رأس الدم"، اختار لها أن تكون أفكاراً مكثّفة، ومواقف مبدأية، في إطلالة على المدى الإنساني، أو أنّه يحاول حشر المدى الإنساني بأبعاده الفلسفيّة والاجتماعيّة في عبارة، وبمفردات منتقاة: "الزئير زئير \ حتى ولو كان حشرجة \ والسمُّ سمّ ولو فيه شفاء". و"الإنسان \ دجّنَ الخيلَ، الجملَ \ والكثيرَ من الكائنات \ التي استنسبها \ في الطريقِ العمياء \ الهرّةُ \ دجّنت ذاتها \ ربّما هي تدجِّنُنا \ من يدري؟ \ ومنذ أكثر من مئتي ألف سنة \ هوموسوبيان ـ إنساننا الإفريقيّ الأوّل \ يدجّنُه العملُ ووعيُه \ ولا يزال بحظٍّ قليل، ليتصالحَ مع ذاتِه \ ومع الآخَر \ وإن بأملٍ أكثر". وقد يصحّ أن نفترض كيف نظر ذلك الانسان يوم نظر الى فوق ورأى: "مجرّةُ "درب اللبّان" \ كانت هي الكون كلّه \ فيما حقّاً هي واحدة \ من 200 بليون مجرّة \ لم يدركْ ذلك "مونوسوبيان" ـ \ إنسانُنا الإفريقيّ الأوّل \ نحن ندرك". ويمضي بعرض نظرته الى الكون ليقول بكثافة عمليّة التكوين: "نحن الذين ندرك \ أنّ المجرّات كلّها، ومعاً \ عمارةٌ طبعُها أن لا تستقرّ \ أو لم تُنجَز بعدُ". ويجنح خياله أيضاً: "هذا الفضاء \ فوضى إلى أقصى نقطة \ تجعلني أجزم أنّي لو لي يد \ لأقتربتُ على نحوٍ أرقّ، أشفّ. \ ما حاجتنا لأحزمةِ الصخور، \ لأي حاجة تولد نجوم، \ تولد كواكب، أقمار، \ وتموت نجومٌ اختناقاً أو إنفجاراً \ ومعها عوالم لا عدّ ولا حصر لها، \ جاهدتْ لتكون ذرّةً ذرّةً، \ ولبلايين السنين، \ كأنّ كلّ هذه العمارات الهائلة، \ المضيئة، المظلمة، المبصرة، المغمِّضة، \ الواقفة، القاعدة، الماسيّة، الذهبيّة، \ الفضيّة، الحجريّة، المائيّة، الغازيّة، \ لكي تغرق ممزّقةً في الثقبِ الأسود، \ الذي عنده يتجمّد حتى الوقت. \ ما سبق أقلّ من رأس إبرة \ في مجرّتنا ـ درب اللبّان \ التي هي واحدة \ من بين أكثر من 200 ألف مليون مجرّة، \ ومجرّتنا ذات المئتي بليون شمس \ وترليون كوكب وقمر \ وسُحب لا تنتهي من الحجران والصخور \ هي مجرّد ربّما طفل يحبو \ بالنسبة لأجسامِ زميلاتها ـ الديناصورات. \ وبالمناسبة مشت الديناصورات على الأرض \ قبل 65 مليون سنة، \ كان بعضها بطول 10 طوابق، \ ولكنّه الكون الذي كلّه فوضى، \ لكنّها الفيزياء، الكيمياء، ما تشاء، \ في جبروتِ وعظمةِ المادّةِ الساخرةِ الخالدة". وما تشاء المادّة الخالدة غير أن تنتظم بقاعدة الحركة التي تنظّم حركة الكون، فإذا اضطربت لسبب حدثت فوضى في الطبيعة، لكنّها تعود وتنتظم وفق قانون الحركة ذاتها.
ومن خلود المادّة يطلّ على الفلسفة وهي بين المثاليّة والماديّة، ويقرّر أنّه "من / سوء حظّ / المثاليّة / أنّ الفيزياء / مادّية". ومن الفيزياء والكيمياء وحركة الكون يعرّج على حركات الشعوب والأمم: "جنكيز خان آخر العصور القديمة \ مفتتحاً العصورَ الجديدة، حياتُه شكّلتْ نهرَ دمّ \ فاصلاً نهايةَ عصورٍ، بحبِّها وحربها، بمائها ونارِها \ وبدايةَ عصورٍ جديدة، بحبِّها وحربِها، بمائها ونارِها ونورِها وظلامِها \ وكم يشعرُ إنساننا بعدُ أيضاً بالإنكسار". إلى العصور الحديثة التي تحمل من العصور القديمة بربريتها ودمويّتها إلى أرضٍ سكّانُها : "خرجوا في زمان الحلم / مع الماء والشجر والزهور / مع النمل، الفراشات، العصافير/ نظروا الى الرمل، أصغوا للنهر / تحدّثوا مع الريح / قمرٌ كبيرٌ قمرُ البلاد الشاسعة / أسماؤهم قوسُ قزح، الرئة يوكولابتس \ خرجوا في زمان ِ الحلم \ أبوريجنال أستراليا - السكان الأصليّون". لم يكمل الشاعر لوحة خيبات أهل الحلم، وآثر أن يكمل في سياق سير العصور، ومتى: "انخفض منسوب الوعي الطبقي / ارتفع منسوب طنين الذباب الازرق". ثمّ: "المشهد / في كلّ حقبة / هو غيره / الكسور كثيرة / في رأس الدم". لينتهي قائلاً: "وسمع صمت / أعقبته صرخة". ومن هذه الصرخة الى "غريق أخر"، فإذا لوحة عشق مكتوم، يقتبسها الشاعر حبّاً وترسمها الحياة بمرارة: "أيّها السادة / لي فيكم بنفسج". والحبيب: "كان أجمل شباب المدينة / لم يتخلّق بما ينفّر الناس / وليس فيه شيء من الدنايا / التي تذهب بالمروءة..". والحبيبة: "قسيمة ، وسيمة، غضّة ، لطيفة / عطريّة كأنفاس البنفسج..". وأيضاً: "كانت أجمل حسان المدينة". \ والتحق بسفينة حتّى غدا ربّاناً / خبيراً بدرجات الشمس، واسع الدراية بمواقع النجوم / عارفاً بأحوال الرياح، والأنواء، \ عليماً بمعالم اللّجج / ومواضع الشطوط والصخور..". ومرّة: "رأى كروع كرمة ضخمة / تنمو وتعرّش فوق سفينته / عساليجها تعلق بالقلوع وبالمجاذيف / تلتفّ أظافيرها حول الحبال / ألقى نفسه في البحر الذي كان يفور ويثور / وتلاعبت به أمواجه / وفي غبشة الصبح كان شيء صغير / يتأرجح على صفحة اليمّ، \ آه إنه غريق آخر". وانطوى حلم.
"رأس الدم" للشاعر شوقي مسلماني يطلّ من نافذة بإطلالة تقمّص: "الحياة قطعٌ ـ وصلٌ / هل تعلم انّ الأشكال الهندسيّة / هي بالأصل أرقام / وانّ أمّ كلثوم / كانت في حياتها السابقة ملاكاً حارساً"؟. وكثيراً ما تتردّد مقولة "الآخر" في حياتنا العامّة الى درجة ضاعت معها المفاهيم ، ليحسم الشاعر شوقي قائلاً: "الآخر ورأي الاخر / ولكن لا أقصد الذين باعوا / بثلاثين فضة". فالخيانة ليست وجهة نظر، والخيانة تجعلك بين : "أنياب ومخالب / أحد بعد لا يقدر على اللّحاق / شعوب أبيدت وشعوب تباد". ولا ينسى: "داني غاردنر / صديقي الشاعر الاسترالي / بالنيابة عن أمّي، وعن قلب أمّي / وعيون كلّ الغرقى في البحار البعيدة / وعيون كل المعذّبين في مراكز الإحتجاز / عندما ترفرف كلماتك: إسمك مزين بالغاردينيا". ولا ينسى: "العين التي تبحث عن الحبّ / العين التي لا ترى ما هو أو من هو / أعلى من عتبة البيت - الوطن / يا جليل بيضون في شقائق النعمان / وفي أكثر الشمس الرقيقة". ولا تغيب الحرب الكونيّة الثانية حين: "شبيبة هتلر وهم بالآلاف / يهتفون: ألمانيا لنا اليوم وغداً الأرض قاطبة " \ ويقول معرّف المهرجان النازي مقدّماً الزعيم: \ "نحن نؤمن بالله انّه ارسلك لتنقذ المانيا ، / نحن نؤمن بذلك حقّاً / ويقول هتلر في خطبته الناريّة / "يجب أن أكمل المسيرة التي بدأها السيّد المسيح، / نحن مسالمون ولكنّنا شجعان"./ ويقول صديقي الذي كان يشاركني مشاهدة الوثائقي \ : "لم تكن شجاعة من هتلر \ أن تعلن بريطانيا وفرنسا الحرب عليه، / وصراعه معهما له جذور، / وأن يعلن هو هكذا الحرب على الاتّحاد السوفياتي، / كانت منه حماقة الحماقات التي أزالته / بعد بضع سنوات من الوجود، / وكان يطمح ان يسود "رايخه" ألف سنة". وبمقدار ما تكون الأديان حجّة لحروب بمقدار ما تكون أداة سلام: "قداسة البابا فرنسيس ـ الكاثوليكي / وغبطة البطريرك كيريل – الارثوذكسي، / أخوان مسيحيّان، استمرّت العداوة بينهما / منذ التقيا آخر مرّة سنة 1054 الى عام 2016 / حيث التقيا، تصالحا،\ العداوة بينهما عمرها قرون، / ولكن الدِّين المسيحي، والحقّ يقال، / تبدّل، تكيّف، استصلح بمقدار سنوات ضوئيّة. / مرحى للبابا، مرحى للبطريرك، / وعقبال "جماعتنا".
و"الآخر هو أنا الآخر / لكن لا يعني أن أسكت"، ومن يسكت عن مذبحة دير ياسين التي كانت من شروط قيام كيان للغاصب : "دير ياسين ، / من الخامسة فجراً الى 11 ظهراً -/ 9 نيسان 1948 / هم حازمون ، أنتم كلٌّ منكم في قاع جرحه، / ذئاب هم ، وأنتم كلٌّ منكم جنازة، / عيونهم متمرّسة / أنتم بالكاد بعد منكم رأس ، \ عين هولوكوست 9 نيسان 1948 – شرط 15 ايار 1948. / بقروا البطون، سرقوا المصاغات، / الساعات، النقود، المواشي، السكّر، الطحين. / أنتم موضوع طهارة سلاحهم. / وقال شاهد عيان \ عمل طبيباً في الجيش البريطاني/ كلّ سنوات الحرب العالميّة الثانية: / "مثل ما رأيتُ في 9 نيسان 1948 / لم أرَ طوال خدمتي في الحرب الكونية الثانية، / نساءٌ ، شيوخٌ، أطفالٌ، شبابٌ .. وانهال الرصاص، / صبيّةٌ، قتلوا طفلها بالرصاص أمام عينيها،/ وفيما يغمى عليها قتلوها أيضاً،/ شابٌّ هزيل ارتدى تنكّراً ملابسَ أمِّه،/ اكتشفوه، ضحكوا منه، وقتلوه / وأحرقوا جثته أمام الصحافة العالميّة./ جثث متناثرة في الطرق،/ جثث متكوّمة في زوايا البيوت./ وقال شاهد عيان بريطاني آخر / أنهى حديثاً خدمته في الجيش: / حقّاً ما أكثر الجرائم قي الغالم". مذبحة دير ياسين – هولوكوست 9 نيسان 1948 – لم تكن الوحيدة، ولا هي انتهت عام حدثت بل تتسلّل على نحو أو آخر في غزّة هذا الزمان. وغزّة ملحمة نضال: "وأكثر من الفي جريح في غزّة / أعلى كثافة سكّانية في الأرض / غبار هذا المجتمع الدولي / 350 كلم مربّع واحة كرامة \ في 14 مليون كلم مربّع – رمل / يا مليون ونصف مليون / موتوا جوعاً وعطشاً./ حربٌّ بلا هوادة / ضدّك يا غزّة / يا غزّة "غيفارا غزة" / يا غزّة الفجر الآتي / من أقصى هذه العتمة / لكِ السلام يا غزة هاشم / دمُكِ منارة".
وأيضاً يستقي بفنيّة: "لا كلام يعلو فوق قامة غزّة، / كلّ قول فيها نقصان، وحيُها لا يكتمل،/ حوصرت من كلّ الجهات، افتتحت بجراحها طريقاً، / لا سبيل للتخلّي عن سلاح المقاومة / مهما كان عدد الشهداء الأطفال، \ أطفال غزّة صنّاع مستقبلها، / ومهما أبيدت عائلات من شجرة فلسطين / باقون في فلسطيننا الى الأبد". ليختتم: "الشمس / لا تشرق من جهة واحدة، / تشرق، وفي الآن ذاته، / من جهة الجنوب / بكلّ أهله الذين ابدعوا "تموز". / السلام عليك يا ابن الأرض، \ السلام عليك وعلى إخوتك الذين يتجرّأون، / لكم الافئدة والعيون، / السلام عليك يا سيّد البلاد / يوم ولدتم، يوم وقفتم، يوم انتصرتم، / يا حاضر البلاد، يا جبالها، يا شمسها. / لا تشرق الشمس من جهة واحدة، \ تُشرق، وفي الآن ذاته، من جهة الجنوب / بكلّ أهله الذين أقدامهم ينابيع، أكفّهم حقول، / جباههم شامخة ، وظهورهم صخور. / سلام عليك وعلى إخوتك / وجميع رفاقك الذين يتجرّأون / يوم قلت، يوم وقفت، ويوم انتصرت. / الشمس لا تشرق من جهة واحدة، / تشرق في الآن ذاته من جهة الجنوب / بكلّ أهله الذين لوّنوا الأفق، / السلام على الأشجار المباركة، / جذورها قويّة في الأرض مثلكم، / السلام على الطيور / التي تتلمذت في الطيران عليكم، / السلام على النسائم التي على رقّتكم،/ السلام على أنصاركم وجميع حلفائكم / الذين تجعل وفاءَهم ديْناً في عنقك. / السلام على القمر، السلام على الظلال، على الندى. / لا، لا تُشرقُ الشمس من جهة واحدة، / تُشرقُ، وفي الآن ذاته، من جهة الجنوب". منارة "رأس الدم" للشاعر شوقي مسلماني عالية.