طلبات أم سالم لا تنتهي، تريد منا أن نذهب أنا وأبنها عادل لشراء ديك من أم عباس بائعة الدجاج في السوق العتيق..

اليوم هو الخميس وتريد ذبح الديك ثوابا لروح الحاج أبو سالم .. اعتادت نساء الجيران على الطبخ وتوزيع أطباق الأطعمة المختلفة ثوابا على أرواح موتاهم. .

بالعادة يجري تبادل تلك الأطباق عند أبواب المنازل معظم الأحيان مصحوبة بنفس الجملة .. اقرأ الفاتحة على روح فلان ابن فلانة أو فلانة بنت فلانة. .

فلانة - نكتم ضحكتنا الطفولية بعد أن نسمع الأسماء الغريبة لأمهات الموتى. . تقول أمي يوم القيامة تقوم الملائكة بالنداء على الأموات بذكر أسمائهم وأسماء أمهاتهم فقط . .!

الحمد لله لم يفعلوا ذلك بالمدرسة لكانت كارثة حقيقية. . أين تذهب من سخرية الأولاد، سوف يلاحقك العار أين ما تذهب الأولاد الأشقياء يهمسون ابن فلانة. . هذا المسكين عادل الوحيد المفضوح بين الأولاد، الجميع يعرف اسم أمه. .

العبور والوصول إلى السوق العتيق مهمة شاقة وفكرة مخيفة. .

نعم يتطلب عمل خطة لكي نجتاز ثلاثة أزقة تطل على الطريق الرئيسي للوصول إلى نهاية الحي وبعدها تأتي مساحة من الأرض الشاسعة التي يقع فيها هذا السوق الأشبه بحصن تحيط به الأزبال وبقايا نفايات الباعة وسط المياه الآسنة.

لماذا يطلبون منا نحن الأولاد الصغار القيام بتلك المهام الصعبة. .!

في كل زقاق من تلك الأزقة المشؤومة عصابة من الأولاد الصغار تسيطر على المداخل والمخارج المطلة منه على الطريق الرئيسي والمؤدي إلى السوق، كانت تلك الأزقة منطقة محرمة علينا، لا نستطيع اجتيازها، لأننا منعنا أولاد تلك الأزقة من الذهاب إلى السوق الجديد (العصري) الذي يقع وسط الحي والذي يطل مدخل زقاقنا على الطريق المؤدي إليه.

لا أحد يتجرأ منهم بالمرور فإذا تورط أحدهم ووقع بأيدينا. . سوف تكون نهايته سيئة، في إحدى المرات أمسكنا حمزة الكردي زعيم أخطر تلك العصابات، أردنا أن نجعل منه نموذجا يتذكره كل الصبية من أزقة الأعداء الأخرى ليعرفوا حجم

قوتنا. . كان حمزة أكبر منا سناً ومعروف بوقاحته وشجاعتة رغم نحوله الشديد. . كانت عظام ذراعيه بارزة تشبه أذرع الجراد، كنا ثمانية لا مكان للشجاعة في مثل هذه المواقف. .

معنا عماد (أبو حلگ) من أجبن المخلوقات، ميزته كان يمتلك حنجرة وصوت أقوى من صوت أم محمد، صراخه نرهب به أولاد الأزقة الأخرى. . لا أحد منا يعرف من أين يأتي بأنواع الشتائم والكلمات النابية المريعة التي لم نسمع بها من قبل . .

أنا من أوقف حمزة في تلك الظهيرة الحارة، صفعته بكل ما أوتيت من قوة ثم انهالت عليه الركلات واللكمات من كل جانب، بعد أن سقط أرضا وهو يبكي والدماء تسيل من أنفه. . كان الاتفاق أن نتبول عليه. .

لكن عماد أبو حلگ بلسانه الزفر . قال له. . في المرة القادمة إذا أمسكنا بك سوف نغتصبك. .!

ماذا. .! من أين جاء هذا الجبان بهذه الفكرة المقززة. . يتفوه بكلمات لا يعرف معناها وعاقبتها. .

بعد تلك الواقعة لم يتجرأ أحد من أفراد تلك العصابات بالمرور إلى السوق الجديد إلا برفقة أمهاتهم…

كان لا بد لنا من إيجاد طريقة للذهاب إلى ذلك السوق القذر ذو الروائح النتنة لشراء الديك. .

لم يكن مهما بالنسبة لنا إذا تعرضنا للضرب أو نرمى بالحجارة أو حتى يتبولون علينا، كانت لدينا حيل كثيرة للعبور من تلك الأزقة والتخلص منهم . .

كنا نغير من تلك الحيل ونبتكر طرق مختلفة للمرور وفي أغلب الأحيان كانت تنجح خططنا - مرة واحدة فشلت خطتنا - كنا ثلاثة. . آتيناهم مسرعين ورميناهم بوابل من الحصى والحجارة - خرجوا لمواجهتنا كنا نركض - تعثر عبد الباقي بدشداشته وسقط بينهم. .

لم يتمكن أحد من النيل منه. . بنيته القوية وأذرعه الطويلة حسمت الموقف لصالحة مما شجعنا للعودة والدفاع عنه، كانت صفعات كفيه العريضتين تسقط

خصومه الأولاد على الأرض مما جعلهم يحاولون المناوشة عن بعد. . لم يكن من النوع الذي يمكن من تخويفه بالاغتصاب. .!

لكن هذه المرة الأمر مختلف، كنا نخاف إذا امسكوا بنا سوف يغتصبونا. . لا أريد أن أتخيل المنظر، كلمات عماد الرعناء جعلتهم يرددونها على مسامعنا كل ما حاولنا العبور. . " إلى نلزمه نسوي ط. . . . زه شوارع. . شوارع أولاد القحبه".

لم يكن لنا خيار سوى ان نتوسل بهذا الأخرق عبد الباقي بالذهاب معنا. . هذا العملاق الصغير يمتلك ملامح رجوليه لا تمت لعمره بشيء. . عندما اتحدث معه عن قرب ويقترب بوجه مني أصبح مشتت الذهن – بشرته - لا أستطيع الكف عن النظر الى مسامات وجه الخشنه التي تشبه مسامات قشر البرتقال، وأنفه الذي ليس له شكل محدد، على كل حال اكثر ما كان يزعجني به هو صوته الذي يشبه تهشم الزجاج. . احدى المرات كدت ان استفرغ عندما أمسكت اسنانه الصفراء القذرة.

طرقت بابهم بعد ان ناديته من خلف الستارة المتدلية على الباب المفتوح، خرج لنا عبد الباري يرتدي دشداشة خطوطها الزرقاء عريضه بشكل طولي، كانت من بقايا ستائر قديمة رأيتها سابقا عندما ذهبنا أنا وأمي لكي نتحمد لأمه السلامة بعد ولادتها لأخيه الأصغر عبد الرزاق.

كان يبدو مثل المعتوه عندما خرج لنا. . شعره ما زال يقطر منه الماء. . مشط شعره بطريقه عجيبه ملتصقا خلف رأسه، كان يبدو مثل عجل صغير لحسته أمه من جبينه الى أعلى رأسه.

وافق عبودي بعد ان وعدته بالذهاب عصرا لشراء سندويش فلافل نقتسمه معه. . كانت نقطة ضعفه الفلافل. . يحبها اكثر من أمه وإخوته.

طلبنا من أم عباس ان تبيعنا ديكاً بعد ان أبلغناها تحيات أم سالم، لكن هذة المحتالة أعطتنا ديك مهلوس الريش؟ . .

ما هذا خاله أم عباس.؟ .. قالت .." ديك هراتي ". .

"نعم نعرف ذلك ولكن شكله مكروه ولا يوجد فيه ريش ". .

"أنتو شنو قابل راح تناسبوه. . هسه تفرح بيه الحجيه ام سالم لان بيه لحم اكثر".

الديك كان اكبر حجما من الديك الاعتيادي وبنيته العضلية القويه تتمركز في افخاذه الملساء ورقبته طويلة ليس له عرف وعيونه حمراء مخيفه وذيله منخفض الى الاسفل، على ما يبدو كان ديك مراهنات . . ويبدو حان وقت تقاعده.

وصلنا البيت دون ان يتعرض طريقنا احد، كان وقت الغداء وجميع الأولاد في بيوتهم لحسن الحظ. .

عندما رأت الديك أم سالم قالت. . " آيا شرنفص عله هل دكه. . أني اعلمچ ". .!

عصراً عدنا من محل ستار ابو الفلافل، أنا وعادل وعبودي، سمعنا أصوات صراخ وعويل تأتي من زقاقنا، ركضنا مسرعين، عند مدخل الزقاق كانت مجموعة من الأطفال تركض في جميع الاتجاهات وبينهم ديك مقطوع الرأس يعدو والدم يخرج من رقبته مثل مرش سقي الحشائش، ارتطم بسياج حديقتنا وعاد يتجه نحونا - تملكنا الذعر - سقط على الأرض قبل ان يصل إلينا. .

سقط محمد الصغير على وجه تحت اقدام الصبية الفزعين. .

خرجت أمه وهي تصرخ وتشتم هذا المخبول غانم. . " أنت تبقى زعطوط أو ما تبطل سوالفك. . من موت الكرفك ".

جائها الجواب من أمه سميعة بعد ان خرجت على أصوت الصراخ. .

.." شوف. . شوف. . منو يحچي. . أم حصان؟.. مو قبل أسبوع موتي حصان هم عندچ عين وتحچين ". .

غانم صاح بأمه . ." طبي جوه حجيه عوفيها ". . اراد ان يُسكت أمه. .

ارتفع الصياح بين الطرفين وخرج الجيران. .

ياله من زقاق نصفهم مجانين. .! ! !

أم سالم طلبت من ابنها غانم أن يذبح الديك ثوابا على روح أبوه. .

على الرغم من أنه يصغر سالم بعامين لكنه لا يفرق متى يكون المزاح مقبولاً ومتى يكون رعونة. . خرج به إلى باب البيت لذبحة وتجمع الأطفال حوله. . قطع رأس الديك ورماه على الأطفال.

كان دكان ستار أبو الفلافل مظلم وجدرانه مليئة بسخام حرائق قديمة - خالي من كل أنواع الأثاث - ولا حتى كرسي، لا أعرف إذا كان ستار يستطيع الجلوس أصلاً على غير صفيحته المعدنية الصدئة التي عليها صورة خروف وبقايا كلمات (دهن الراعي)، وضعها على باب دكانه. .

كرشه يبدأ من رقبته وينتهي بمفصل ركبتيه - قصير القامة - يتدحرج يمينا ويساراً بين الطاولة الوحيدة الموجودة في دكانه - عليها كل احتياجاته - إناء بلاستيك يشبه الذي تستخدمه أمي في نشر الملابس فيه عجينة الفلافل، إناء نحاسي آخر صغير يحتوي على الفلافل المقلية، قدر عميق فيها طن دهن يحتوي على شوائب كثيرة يغلي باستمرار، سكين، ملعقة - هذا كل شيء - نسيت وكيس الصمون معلق بمسمار على جانب الطاولة .. يبدو هو السبب بالثقب الموجود في بنطلونه.

أكثر شيء كان يثير الاشمئزاز. . هو إبهامه المبتور الذي يسحق به الفلافل داخل الصمونة مصدرةٌ صوت خشخشة. . لا أحد يستطيع الاعتراض حتى لو سقط رماد سيجارته في السندويتش. . " روح بابا ياله. . اذا ما يعجبك ما أريد اشوف شگلك بعد هنا ".. هذا جوابه لكل معترض. . .

وقفنا أمام دكانه ورائحة الفلافل وصلت الى أدمغتنا. . عبد الباقي بدء يشعر بنكهة الفلافل داخل فمه. . بدأ يمضغ الهواء.

كان يدخن بشراها كعادته والدخان يصعد على عينه اليمين الزجاجية الجامدة، أعطيناه كل ما جمعنا من نقود لشراء سندويش فلافل واحد وربع صمونه لعادل يغمسها بصلصة العمبة. .

قسمت السندويتش مع عبد الباقي وأعطيته النصف. .

قال. ." ليش النص مالتك أكبر. . أنطيني عضه منه ". .

نظرت الى أسنانه التي تعلوها طبقة صفراء من بقايا اطعمة منذ عهد حمورابي. .

قلت له. . " لا ما أنطيك عضه هسه لو تطلع نخلة برأسك ". .

نظر الي وأخذ عضه من النصف الذي بيده مثل الضبع. . " بعد لو تموت ما اروح وياكم ". .

"أحلف ". .

" مااااااا ". .

عادل كان رافعا ربع الصمونه التي بيده يحاول اللحاق بسيل العمبة الذي نزل على ذراعه. . يلحس خريرها الشريصي الأصفر …

زقاقنا لا يخلو من العجائب. . لا اذكر السبب. . ولكني أتذكر عندما مر البدوي وهو يمشي ويجر خلفه بعير محمل بأكياس الملح الخشن، ينادي. . ملح. . ملح. . ملح. .

ونحن نعبر ذهاباً وإيابا من بين قوائم البعير وهو يمشي. .

عندها انقطع سلك الكهرباء الرئيسي، سقط من أعلى العمود على الأرض أمام بيت أم محمد وتطاير الشرار منه مثل أفعى تنفث ناراً وأخذ يتلوى على الأرض مصدراً قرقعة مصحوبة بدخان عند احتكاكه بقير الشارع. .

أصيب البدوي بالرعب. . ساق بعيره وهو يركض مبتعداً عن زقاقنا.

ما زال الجزء الآخر من السلك معلق بعمود الكهرباء - خرج الجيران جميعاً - يصرخون بأسماء أبنائهم. . كثرت النداءات والجلبة.

لأحد يعلم إذا كان السلك لا زال فيه تيار كهربائي. . تبرع الصبيان بالوقوف بجانب هذا السلك لتحذير الناس من المرور، بعضهم ذهب إلى مكتب دائرة الكهرباء لإبلاغهم بالحادث. .

مجموعة من الكسالى، لم يحضر أحد منهم، لا أحد يعلم متى سوف يأتون. . تجمع الصبية من كل الأعمار على جانبي السلك، مرت ساعات طويلة، عندما صار العصر بدأت أم محمد كالعادة بغسل طارمة بيتها، هي ترش الماء وبنتها المقعدة ( نداء ) تكنس الماء. .

تزحف على مؤخرتها وترمي أرجلها العارية مثل قطعة قماش باليه حسب الاتجاه الذي تزحف نحوه. . الماء أصبح بالشارع مثل بركة والسلك بداخلها. .

لم ينفع معها صراخ الجيران بالكف عن الغسل. .

جاء مسرعا هذا الصبي بعربته الخشبية التي يجرها حصان أبيض. . طار منها وسقط على بعد عدة أمتار - رفس الحصان العربة - انقلبت عليه وأخذ يمخر بأرجله الماء وهو ممدد فيه، خرج الزباد من فمه. .

انقلبت عيناه وظهر بياضها، عض لسانه ومات. . كمية الضراط التي خرجت من مؤخرته لم تتوقف حتى بعد أن همد جسده. .

حدث هذا أمام الجميع بين صراخ الأطفال وعويل النساء، كان الجميع يجري بلا هدف. . لا يعرفون إلى أين. .

بعضهم امسك الصبي الذي كان يصرخ باكيا على حصانه.