مر أكثر من شهرين على غياب أبي .. تأخر كثيراً هذه المرة، حتى خيل آلي انه ربما لن يعود .. كانت أمي تستدين النقود من الجيران لتغطي مصاريف البيت.. لم يترك لها مبلغ كاف.. قال إنه سوف يتغيب أسبوعين أو ثلاثة ...
كدت لا اتعرف عليه عند عودته - كنت نصف نائماً - حين وصل منتصف الليل كان قد فقد الكثير من وزنه و طال شعره حتى كاد أن يلامس كتفيه..
.. لم يجلب لنا هدايا ، سوى أشياء رخيصة يبدو أنه اشتراها من الباعة الجوالين على أرصفة المحطات عند تجواله وتنقله بين عواصم الدول الاشتراكية ...
حجج كثيرة قالها عن أسباب تأخره وكيف تمت سرقته في براغ وضاعت حقائبه في صوفيا وأبتزه الغجر في بوخارست .. وقصص لا يصدقها حتى الأطفال صدقتها أمي ..!!
.." خطيه شصاير بحالة .. ساعة السودة على هل السفرة الگشره "..
.. لم يكن يمانع بأن يجلس أبنه المدلل معه عند زيارة أصدقائه لنا .. هكذا كان يقول لهم عني ..
.."هذا المدلل "..!!
كان محقاً لأنه جلب لي ولإخوتي تيشيرتات كلها بنفس المقاس والشكل ولو كانت رسمية العميه من اشتراها لعرفت بأننا نلبس مقاسات مختلفة ورغم ذلك أجبرني على ارتدائه وانحشرت فيه يدي ورقبتي حتى أحسست بأن نهايتي اقتربت لولا صوت أمي المرعوبة ..
.." الولد صار أزرك راح يموت "..
.." مو صوچك .. هو أنت مال بالنعال وعلى راسك "..
قالها وهو يتظاهر بالغضب .. لم يستطيع إخراجه من حول رأسي رغم التوبيخ والدفع والسحب حتى رضخ وقطعه بالمقص من حول رقبتي ..
كنت أستمع لمغامراته الجنسية وسهرات المجون الليلي في المراقص ، قصص مختلفة تلك التي كان يرويها لأصدقائه .. مختلفة جدا عن تلك التي ذكرها لأمي ..
على كل حال كانت فترة غيابة من الفترات المريحة والجميلة جداً لنا، زارنا خلالها الكثير من الأقارب..
.. لم نعد ننام الظهر كما جرت العادة المقيتة والتي كنا نتعرض بسببها لكل أنواع التنكيل والاضطهاد ..
..إذا كان أبي موجودا لا يحق لنا اللعب ولا الكلام أو حتى الهمس ويجب أن ننام بعد الغداء بالقوة ..
.. مع أمي كانت تجري الأمور بشكل مختلف ، كنا نتعرض للعض أو الضرب بالنعال الذي كان يخطأ الهدف في أغلب الأحيان عندما ترميه علينا مصحوب بالشتائم والوعيد .. الشيء المهم الذي حدث في تلك الأيام هو أننا لم نعد نخاف عضاتها لأنها أصبحت غير مؤلمة .. كانت تعضني وتمسح لعابها عن يدي لترى إذا كانت قد تركت أسنانها أَثَارَا مؤلمة.
رغم إفلاسها ودوامة غياب أبي الطويلة وتحملها لكل المسؤولية إلا أنها لم تتخلى عن نوم الظهيرة ، وعندما تنام تضع نعلها البلاستيكي الأسود قربها وتضرب به الأرض إذا علت أصواتنا ..
.." أولاد الكلب والله أذا اگوم أگطعكم بهذا النعال "..
اكتشفت عن طريق الصدفة عندما أكون بجانب التلفاز لا ترمي نعلها الصاروخي باتجاهي، فقط تكتفي بالشتائم. .
.." أنبشت سعدية "..
.." من يرجع أبويه ، آله أگله تسبين بأمه "..
لم تتحمل جوابي لها، رمت نعلها وكاد أن يكسر شاشة التلفاز ..
عضت على أصبعها ونهضت ..
هربت إلى السطح .. أقفلت عليّ باب السطح،..
.." لو تبوس القنادر ما أفتح لك الباب "..
كنت حافي القدمين و حرارة الشمس جعلت بلاط السطح مثل الجمر ، لم أستطيع الوقوف حتى لثواني فكرت بالقفز على أطراف أصابعي لم أستطيع كتم صراخي، كانت تقف وراء الباب وبيدها فردة النعال الثانية ..
فتحت الباب، وقالت .." فوت جوه لا تصير بيك ضربة شمس "..
.." ذبي النعال ياله أفوت "..
.." عليمن طالع غير على أبوك الكواد "..
جن جنونها وفقدت أعصابها عندما اكتشفت بأني أحمل معي بشكل دائم سكينا اشتريتها بثلاثة دراهم من رعد الأعرج .. كان قد سرقها من أخوه الكبير أغلب الظن ..
كانت السكين صغيرة بحجم اليد لونها أحمر قاتم وفي مؤخرتها حلقه معدنية وفي مقدمتها يوجد زر نحاسي يخرج عند الضغط عليه نصلها بشكل سريع ومباغت ..
.." سچينه أم الياي " ..
لا أعرف من أين أتت تلك التسمية ..
جربتها على أشياء كثيرة وفي أماكن عديدة، طعنت فيها الأشجار والأرض والوسادات التي جن جنون أمي عندما رأتها ممزقه ..
تدربت على إخفائها داخل أكمام بجامتي بعد أن ربطت الحلقة الموجودة في مؤخرتها بلستيك مطاطي على مرفق يدي .. وكنت إذا أحتاج استخدامها أقوم بسحبها من داخل الأكمام بيدي اليسار وأمسكها باليد اليمنى وعندما أريد إخفائها اتركها فقط .. فتنسحب وتختفي في داخل أكمام البجامة.
جربها عادل على الحمار الذي عضني من يدي عندما حاولت إنقاذه وسحبه من بين جمع الأولاد ..
.. أخذ عادل السكين مني وطعنه برقبته انتقاما لي - لم تكن ضربه كافيه لكي تنغرس في رقبته .. كان خائفا ، وأراد أن يستعرض ولاؤه التام لي..
.. كان حماراً سائباً وأغلب الظن مريضا ، تركه صاحبه يواجه مصيره ..
.. عثر عليه عبد الباقي وجلبه للساحة التي تقع في نهاية الزقاق ، ضربه الأولاد بالعصي والطابوق..
..حاول عماد أبو حلگ إدخال عصا في مؤخرته . .
المرة الأولى التي رأيت عادل يصاب بنوبة صرع كانت في ذلك اليوم الذي طعن به الحمار في رقبته ، والنوبات التي كانت تصيبه تستمر لجزء من الثانية ولربما لبضع ثوانٍ .. ومع ذلك كان يصاب بعض الأحيان بنوبات مخيفة تدوم أكثر من بضع ثوان..
.. كنت أشعر دائمًا بقدومها عندما يبدأ وجه عادل بالتهدل .. لم يكن هناك شيء يمكنني القيام به حيال ذلك ..
بعد أن تناولنا طعام العشاء، ذهبنا إلى الحمام نتدافع بمرح لنغسل أيدينا ، كل شيء كان بالنسبة لنا لعب ومزاح ..
سقط على بلاط الحمام وبدأ يحاول أن يزحف بتشنج ..
ضحكت معتقداً أنها مزحة ، أسقطت نفسي على البلاط بجانبه وزحفت .. كان الزبد يخرج من فمه. .
..شعرت بأنني داخل كابوس .. كان ذلك حقيقيا .. بكيت طلباً للمساعدة .. جاء اخوه الاكبر حامد على هستيريا صراخي ، حاول أن يطمئنني لأنني تخيلت عادل على حافة الموت...
في اليوم التالي كان الأقارب والجيران من الذين حضروا جميعهم مبتهجين يضحكون على العرض الذي لم يكن فيه شيء مضحكا ..
..كلهم مجتمعون في حلقة من حولي .. هربت فأمسكوني المتبرعين الطيبين منهم..
كذلك كل أصحابي موجودون ..تقف بينهم نورا .. !!!
تمنيت أن أختفي ..حاولت .. قاومت .. بكيت بحرقة.. رفست كل من حولي..
أمسكني (المطهرچي) وطرحني أرضاً مثل الخراف عندما يراد نحرها ..تعاون الجميع معه .. تبرع أصحابي الأنذال بفتح ساقي بكل قوة ...
كان مهرجانا سفكت فيه كبريائي..
.. أغمضت عينيّ.. لم تعد هناك أي جدوى للمقاومة فقد تكشفت أعضائي التناسلية أمام الجميع ..
..نورا كانت تنظرمعهم الى عورتي ..
وفوق هذا كله كانت الفرقة الموسيقية تعزف نفس الموسيقى في كل المناسبات منذ قرون وتمارس ضوضائها المحببة للجميع ..
.." شوباش .. شوباش "..
فتحت عيني كان أبو حازم يمسكني من كتفي ..
.." لاتخاف عمو .. خلص ".
هذا الرجل له روح مرحة كان الجميع يحب سماع أحاديثه ، لأن طريقته بالكلام تجعل الناس يضحكون حتى لو أعاد النكتة للمرة العاشرة ..
توفيت زوجته قبل أكثر من عامين وتزوج بدرية الخرسه .. كان يجلس مع أبي في الصالة وقهقات أبي ترج البيت. . يحكي له عن ليلة دخلته بعروسوته الخرساء والمواقف التي حدثت بتلك الليلة ، كلها بحركات من يديه وأصابعه وهو يقلد أصواتها المكبوتة ..
أبي ينادي على أمي .." الله عليچ تعالي ..تعالي ..هههههههه أسمعي أبو حازم "..
أحمر وجه أبو حازم ..
.." لا يمعود عيب .. هاي السوالف ما تنحچي"..
علامات الشؤم قد بانت منذ الصباح..
.. صراخ بدرية الخرسه مزق جدران بيتنا – لو كان للجدران آذان ..
خرج ابو حازم كالمجنون ..
اصطدم كتفه باطار الباب الخارجي الحديدي ..
..ارتفع والتف جسمه نصف التفافه وسقط على ظهره ثم ارتطم رأسه بالأرض ..
كانت زوجة أبنه حازم وسط الزقاق شبه عارية.. مزقت ثيابها .. حفرت بأظافرها أخاديدا عميقة بوجهها ..
.. تنوح عاليا وتضرب على رأسها ..
.. " حسوني ماما .. حسوني حبيبي "..
احتضنتها أم سالم وأجلستها أرضاً بعد أن غطتها بعباءتها .. بقيت ممسكة بها وهي ترفس بأرجلها العارية.
حسوني لم يكمل عامه الثالث ..كانت بدرية تحمله وساقاه وذراعاه متدليتين .. عيناه جاحظتان واحتقن الدم في وجهه المزرق .
التعليقات