بقلم علاء جمعة


كاڤن ماكسويل (1914-1969) كاتب إسكتلندي من الطبقة الأرستقراطية غيرت زيارته للأهوار مجرى حياته عندما رافق الرحالة الانكليزي الشهير اللورد ويلفريد ثيسكر في آخر رحله له لأهوار العراق شتاء عام 1956 - وقد استغرقت رحلتهم سبعة أسأبيع في داخل عمق الأهوار - وكان قد تعرف على ثيسكر من خلال مقالة كتبها عن قبيلة المعدان لمجلة ناشونال جيوغرافيك ، لم يصدق ماكسويل بأن هناك مكان بهذا العالم ما زال بذلك النقاء الطبيعي لم يتغير منذ مئات السنين .. أذهلته كما يذكر ما كتبه ثيسكر عن طريقة عيشهم البسيطة في مكان معزول لم تدخله المدنية بعد.

وكانت الرحلات التي أعتاد ويلفريد ثيسكر القيام بها داخل الأهور كل عام رحلات أغلبها علاجية لأسباب أنسانية ، وكان قد أخذ معه في رحلتهم تلك أربع طرادات مائية محملة بمضادات البنسلين الحيوية وأنواع أخرى من الأدوية والعلاجات المختلفة ومعظمها على نفقته الخاصة ومن متبرعين بريطانيين ليقوم بعلاج سكان القرى النائية في أعماق الأهوار من الذين لا يستطيعون الوصول الى الأطباء في المدن أما لعدم معرفتهم أو خشيتهم تهيبهم بالذهاب الى الأطباء والمدن المزدحمة ولم يكن النظام في ذلك الوقت مهتما بتوفير الرعاية الصحية لهم ولذلك كانت نسبة الوفيات بين سكان الاهوار عالية جدا وخاصة الأطفال وكان ثيسكر يقوم برحلاته في فصل الشتاء لأنتشار الأمراض الصدرية والألتهابات بينهم وعند وصولة الى أي قرية من قرى الأهوار يمكث فيها يومين أو ثلاثة ثم ينتقل الى القرية الأخرى وكان أيضا يقوم بختان عشرات الأولاد الصغار وحتى البالغين وبعض الاحيان يقوم بختان حتى الرجال ممن لم يتم ختانهم ، ويذكر ماكسويل بأن ثيسكر قام بختان رجل كان في الخامسة والعشرين من عمره في أحدى القرى.

وبعد عودتهم بعام أصدر كاڤن ماكسويل كتابه عن الأهوار (قصبة اهتزت بالريح) وكان قد اقتبس العنوان من الأنجيل - واعتبر هذا الكتاب في حينها واحد من أفضل كتب أدب الرحلات في القرن العشرين - ويبحث في مقدمة الكتاب عن جذور سكان الأهوار وينسبهم الى السومريين مرورا بثورة الزنج في البصرة إبان العصر العباسي .. ثم يصف وصوله مع ثيسكر إلى بغداد ويؤكد على طبيعة كرم الناس وطيبتهم وزيارته لأسواقها ولقائهم ببعض رجال السياسة الذين لا يفكرون فقط بمصالحهم ومكتسباتهم المادية ويصف أنفصالهم عن الواقع والمجتمع الذي يعيش أغلبهم في فقر وحاجة ويعبر عن أمتعاضة منهم ومن أحاديثهم ، ومن بغداد انطلقا الى البصرة التي يصف الحياة فيها والأسواق بشكل مسهب ثم يبدأ بوصف رحلتهم إلى هور الحمار والچبايش وبعدها إلى أهوار العمارة.
وعند عودتهم جلب ماكسويل معه حيوان برمائي من الحيوانات التي تعيش في الأهوار ( القضاعة) ويسمى في جنوب العراق (چليب ألماي) وأطلق عليه اسم مجبل على اسم شيخ كان قد استضافهم ، وأخذه للعيش معه إلى إسكتلندا حتى قتله أحد المزارعين بالخطأٔ ، وفي عام 1960 بعد مقتل مجبل كتب كاڤن ماكسويل رواية عنه - تعتبر أهم مؤلفاته - عنوانها (of Bright Water Ring).. حقق الكتاب انتشار واسعاً وبيعت منه قرابة المليون نسخة في السنة الأولى لصدوره في الولايات المتحدة وحدها وقد تم أنتاجه على شكل فيلم سينمائي سنة 1969 قبل وفاة ماكسويل بأشهر قليلة بمرض سرطان الرئة في الخامسة والخمسين من عمره.

ومن المشاهد الطريفة التي يذكرها في كتاب الأهوار ، حين يصف أمسيه غنائية أقيمت على شرفهم في مضيف أحد الشيوخ وكيف كان الرجال يجلسون في صف واحد متجاورين وفي حركة موحدة من أيديهم يطلقون أصوات تشبه الرصاص من أصابعهم ( كانوا أيطگون أصبع ) ويقول جميع الرجال جالسين وأرجلهم اليمين ممدودة أمامهم ويضربون بكعوب أقدامهم الأرض حتى تركوا حفرا عميقة تحتها ، ثم يصف حركات الراقصين بتعجب لسرعة ارتجاف أكتافهم ورقابهم…

وفي مشهد آخر يذكر عند وصولهم إلى إحدى القرى داخل أعماق الأهوار والتي تقطنها قبيلة الخزاعل ، كان الجميع في استقبالهم وقد عبروا عن سرورهم البالغ بقدومهم وطلبوا منهم المساعدة لأنقاذهم من هجمات الخنازير البرية المنتشرة في مناطقهم والتي اصابت منهم الكثيرين إصابات قاتلة ومنعتهم من الخروج للعمل وحتى الخروج من منازلهم .. وكان ثيسكر وماكسويل يحملان معهم بنادق صيد وكذلك دليلهم عمار بن ثكب - ويقول قتلنا في يوم واحد 37 خنزيرا برياً كان حجمها بحجم الحمار.

ترك ويلفريد ثيسكر قبل وفاته 38 ألف صورة سالبة (نكتف) لمتحف تابع لجامعة أكسفورد اسمه (Pitt Rivers Museum) من بينها 4000 صورة لمناطق الأهوار وكردستان العراق صورها خلال رحلاته بين الأعوام 1949-1956 ولم تعرض هذه الصور لحد الآن ، وقد إقام المتحف معرضا عن سكان أهوار العراق عام 2005 عرض فيه خمسين صورة بأحجام كبيرة من تلك المجموعة المهمة ، ومن الجدير بالذكر تقدمت دولة الإمارات قبل سنوات بطلب لشراء مجموعة صور من المتحف كان ثيسكر قد صورها في خمسينيات القرن الماضي خلال رحلاته للأمارات وقد شيدت لهذة المجموعة المصورة متحفا في أمارة العين..

وعلى الساحل البحري الأسكتلندي في مونريث يوجد نصب تذكاري من البرونز لكلب الماء مجبل تخليداً لذكرى ماكسويل ، ويقف مجبل عالياً على الصخور المطلة على الخليج وهناك نصب برونزي تذكاري أخر أيضاً لمجبل في جزيرة سكاي الأسكتلندية حيث كان يعيش مجبل وماكسويل ..
وقد وثقت قناة BBC فيديو قصير جدا ونادر لمجبل وماكسويل بعد عودته من أهوار العراق الى لندن بعنوان (gavin maxwell & mijbil 1956) موجود على اليوتيوب.