يكتب اميل عامر قصيدة تسعى أن تكون في حركة الزمن المتشظي بين الماضي والحاضر ففي بعض قصائده التي يستعيد فيها شخصيّات منها ما كان له حضور شعرياً كبيراً يتمثل في شخصيتي الشاعرين العراقيين الراحلين : جان دمو وسركون بولص وشخصيّات عاديّة طواها الموت بشكل استثنائي والبعض الآخر في شخصيّة الشاعر وديع سعادة الحيّة الحاظرة بقوة بمسيرتها التي مازالت تتجدد بعيداً عن الغياب والصمت، ،وكأن لحظة الكتابة الشعريّة عند اميل هو سيرة الذين كتبوا الشعر وأبدعوا بكتابته ومن مسيرتهم تتراءى الحياة التي يسعى أن يسألها في قصائده عن خطأ يتكرر دائما في عدم اكتمال الوجود الذي يسعى أن يجعل منه متماهي مع البهجة التي تأسر الطير ليغني من على شجرته أو عندما تلبس الأغنية الغيمة مثلما هو عنوان مجموعته الشعريّة الأولى الصادرة عن دار المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر للعام ألفين وواحد وعشرين والمكونة من احدى وثلاثين قصيدة تفاوتت مستوياتها الفنيّة ومعانيها بين قصائد ذاتيّة غير نرجسيّة وقصائد غير ذاتيّة لها عمقها الانساني الشمولي وهمها الكوني الفلسفي كتبها الشاعر بعفويّة وصدق جاءت عبر صور تنسجم تماما مع حساسيتة للقاموس الشعري الذي يعتمد على ادراك و فطنة كل شاعر يصطاد منه بمهارة ودراية.. أحيانا تأتي مع الحرفة والخبرة الشعريّة الطويلة في الكتابة ولقد لاحظت أن اميل عامر ينتقي كلماته بذكاء بعيد عن الوحشيّة والاطناب والتكرار مثلما يقع البعض من الشعراء خاصة وأنّها المجموعة الشعريّة الأولى...

مبتعدا عن التهويم والفنطازية والغرابة
الخادعة التي توهم قارئ قصيدة النثر وهي القصيدة الأصعب بين الفنون الشعريّة حيث يعتمد ايقاعها الداخلي الموسيقي على حركة النص الجوانيّة المقرونة اصلا بانزياحة اللغة التي تصل إلى الدهشة الجماليّة التي تختلف براعتها من شاعر إلى آخر..

يقول الشاعر في قصيدة ؛ تشريح جثة اللغة؛

الفضاء الذي كان يلخص نفسه في بؤبؤ عينيها
بات محبوسا في مرآة متروكة في بيت مهجور
في فمها كان الليل ينام نهارا
وفي الليل كانت الشمس تنام في حنجرتها
صوتها صار ثوباً تلبسه الخمائل في الأفق
من جداول انفاسها اصطدّت أياما لرئتي
حتى صار الهواء تائها في غابات شعرها
ولا أعرف إن كانت الاتجاهات تذوب
أم أن البوصلة شلحت ثياب
الزمن ونامت ؛

أن أنسنة اللغة التي تكشف عنها القصيدة بعد أن تفشي أسرارها وهي المعجزة الوحيدة التي يمتلكها الانسان أقصد اللغة مثلما يقول الشاعر زاهر الجيزاني : " الأنسان يتكلم " في احدى قصائدة المكتوبة في مجموعة الأب في مسائه الشخصي الصادرة عام ألف وتسمائة وتسعين في بغداد..
تضعها تحت المشرط الشعري لتعيد ترتيبها وتجردها من التسميّة لتجعلها مطلقاً خارج التسميات عبر التشبيه الأخير الذي يلغي الزمن بمحدوديته التي تحددها البوصلة التي تشير إلى الجهات.. وفي نظرة دقيقة لهذه القصيدة نجد كيمياء المفردات التي تتطابق تماما بمعانيها المختلفة وتشبيهاتها المتعددة مثلا :
فضاء واسع_ يقابله انحسار محدود في بؤبؤ
محبوس في مرآة
ليل مظلم _في فم مغلق نهارا
ليل _شمس..حنجرة
صوت_أفق
ثوب_خمائل
أنفاس_رئة
جداول_ صيد
هواء_تيه
غابات_شعرها
شلح أو نزع_ذوبان

وفي قصيدة ثانية بعنوان :" محاولة تخريب"
يقول الشاعر :
أحاول فك مسبحة الصلاة
لأربط فيها دموع الذين لم يمارسوا الحب مع الشمس
أيها العباد !!
لماذا يظل دخان المعابد جائعا
لاحتساء نار تحرق أجسادنا
ولماذا تظل مائدة الإله غير مكتملة
والقرابين تتساقط
فضلات على سقف أنفسنا؟؟

يحاول الشاعر في هذه القصيدة الواضحة والعميقة أن يطرح سؤالاً يبدو عفوياً للوهلة الإولى لكنه بالحقيقة سؤالاً معرفياً أشتغلت عليه كل النصوص الفلسفيّة الماديّة التي أرادت أن ترسم صورة للإله بمعزل عن النص الديني الذي يجعل صورة الخالق ومقدساته وكأنها سلطات مطلقة
تعمل بآلية قمعيّة نفعيُة غرائزيّة تبتعد كثيرا عن الصورة الروحية النفاذة المتقشفة والملائكية التي ابتكرتها مخيلة الكائن حينما حاول أن يخلق معادلاّ له مختلف تماما عن طبيعته التي تتصارع فيها قوتا الخير والشر ،،
بالإضافة لهاتين القصيدتين وجدت الكثير من القصائد التي تستحق الوقوف عندها..

اجمالاّ جاءت المجموعة الشعرية الأولى لاميل عامر بتجربة واعدة تستحق القراءة والتأمل وأعتقد بإن مجاميعه الشعريّة القادمة ستكون أكثر تركيزا على ابتكار شعرا ينطلق كالسهم النافذ دون أن يتوقف وأضنه قادر على ذاك ..

هذه مقاطع متفرقة من قصائد المجموعة الشعريّة:

أركب الضوء هربا من الزمن
حشود الساعات تنتظرني
في مفرق الأنطفاء

في ذلك اليوم الهارب من جيب التقويم
زارني الألم
ليستأصل ما تبقى من هواء في رئتي

أحدق في باب الأرصفة ، فأرى ظله يسكن
الصدى المتكسر في أشلاء الأثير

على الأرصفة أصوات وهمسات وبقايا انعكاسات
أحاول الآن البحث عنها في جيوب التراب

أنا الغجري يا صاح
أمشي حاملا غضبي المجهول طفلا
لا يكبر على أكتافي

رأيتك وأنت تخرج من ضميرك المنفصل، لتستتر في كل الضمائر

لماذا صرتَ رمشة في عين الفضاء

الليل يلتف حولي كمنارة
تعبت من انتظار سفينة النوم

عطري الجديد كان يرفرف مني كراية
تتزحلق على زلاجة الهواء
٠
من يحرر الحرية من حريتها
والدودة تعرف
أن الأمل الذي فوقها
ليس ضوء القمر
بل ظل حذاء القدر الأعمى

ففي خريطة جيناتي حضارات وشعوب ضلت طريقها في جثة التاريخ

ولكن لم أنجح في نزع الضوء عني
ظلام الليل كان رقعة ملتصقة بجسمي

أدفن الوأد في تراب
كان يوماً أجساداً لأجدادي

عندما تلبس الأغنية غيمة
في ليلة لاصقة على كأس الويسكي

الظلام في غرفتك ليس التابوت
بل اندثار الضياء

باحثاً في البحر التائه في دمعة
عن أسطورة تبصر الحقيقة ملحمة تتموج

في مركبة الحلم
أتقلٌب كموجة تبحث عن أحضان اليابسة

وعندما وقف الصمت عن الغناء في أزقة جسد الليل المليء بالمدن
خرجت قرية تستوعبين أعمدة أنفاس النائمين.

أستراليا..١/٧/٢٠٢١