اصدرت كتابا ملونا ، سنة 2015، بـ 464 صفحة من القطع الكبير، عن عمارة القصور الاموية المبثوثة في صحراء الشام وبواديه، (ازعم بانه مهم، واهميته تكمن في موضوعه وما تمثل تلك الموضوعة من اجتهاد تصميمي، دعيته "بالعمارة المدنية" الاسلامية). انه كتاب يتناول لاول مرة منجزات العمارة الاسلامية في "الموضوع" المدني فيها وليس الديني الذي نعرفه معرفة واسعة. احد امثلة ذلك النشاط هو "قصر عمرة " (712 -715) في بادية الاردن . وعن ذلك القصر الاستثنائي في اهميته وبمنجزه الفني والمعماري، كتبت عنه وعن "معيد" اكتشافه <الويس ميوزيل> (1868-1944) Alois Musil.، ما يلي:
"تختزن" عمارة مبنى <قصير عمرة>، احد القصور الإموية ، الواقع في بادية الاردن، ثروة فنية عالية الاهمية من الانجاز الفني، إن كانت من الناحية "الموضوعاتية " ام في الجانب التطبيقي – الادائي. انها كنز من الرسوم الجدارية التى تبلغ مساحتها حوالي 450 مترا مربعا، رغم ابعاد المبنى المتواضعة. لا يوجد حسب علمي، في تاريخ العمارة العالمي، مثالاً من ذلك العصر، يضاهي، الاعمال الفنية التى يكتنزها قصير عمرة!. لست انا الوحيد الذي يقول ذلك. يقوله، ايضاً، كثر من الدارسيين والمهتمين في منجز العمارة الاسلامية. صحيح إن الممارسة المعمارية العالمية، سابقاً، عرفت مثل هذا النشاط، المتمظهر بحضور طاغٍ لسطوح احياز ذات غزارة مفرطة من التزيينات التشكيلية، مثل مقبرة السقارة بمصر الفرعونية، حيث يعود تاريخها الى نحو 3500 سنة، زمن "تحتمس الثالث" (الفرعون الاسطورة)، والتى زينت جدرانها وسقوفها بتزيينات تشكيلية مع احرف هيروغليفية مستلة من "كتاب الموت". وهي الى جانب قيمتها التاريخية والفنية، فانها ربما تعد، اول مثال معروف لعرض اللوحات التشكيلية بذلك الاسلوب من الغزارة الفائضة في حيز واحد. ويشار أيضاً، في هذا الصدد، الى "اطلال تيكال" Ruins of Tikal، في غواتميالا، والتى تم اكتشاف جدارية تزينية ضخمة في نفق عميق في أدغال البلاد تعود الى حضارة "المايا" مشغولة قبل نحو 2000 سنة. وثمة ممارسات مماثلة او قريبة من ذلك "الاطناب" التشكيلي، ربما نراها عند الرومان، أوحتى عند البيزنطيين، بالاضافة الى ما هو معروف من وفرة واسراف في توظيف التشكيل في حضارة وادي الرافدين، وفي الحضارات الصينية والهندية والفارسية. بيد ان بعض وحتى كل تلك الممارسات لم تكن معروفة جيدا، وقتها، لدى فناني "قصير عمرة"، بل وإن معظمها لم يكن مكتشفاً بعد، وبالتالي لا يمكن لها ان تكون في عداد "ملهمات" اؤلئك الفنانيين. ذلك لاننا نتحدث عن زمن بداية القرن الثامن الميلادي، وليس زمن آخر!
... وفي اختصار شديد، فان مبنى "قصير عمرة" يظل يمثل حدثا مهما واساسيا في سجل الاحداث التى اسست لظهور العمارة المدنية الاسلامية وعجلت في بلورة مفاهيمها. ولهذا فهو يحتل مكانة بارزة ورائدة في تاريخ تلك العمارة وقيمها. من هنا، وجدت منظمة "اليونسكو" مسوغاً مناسبا، في إضافة "قصير عمرة" عام 1985، الى قائمة التراث العالمي، الواجبة الحفاظ. لكن سؤال المقال الرئيس يظل قائما، من هو، ياترى، الشخص الذي "أعاد إكتشاف" القصر، مقدماً ومعرّفاً إياه الى المجتمع الدولي؟ إنه، بالطبع، <الويس ميوزيل> (1868-1944) Alois Musil. لكني أود قبل إن أحدثكم عن مصائر هذا العالم الجليل، إن أوضح، ولو بايجاز، إسلوب مقاربتي تجاه موضوعي هذا؛ أو اي موضوع آخر، قدرّ لي ان اتعاطى معه.
ثمة ولع ممزوج بالانبهار، أكنه دائما لانجاز الآخرين. واذا تكلمنا بتحديد اكثر، فانه إنجاز العمارة والمعماريين. يدهشني العمل المعماري الجيد. يغمرني سرور طاغ في رؤيته والتحدث عنه. واتوق الى معرفة كل ما يحيط به. في بعض ألاحيان، اتماهي بشغف مع المنجز المعماري الحصيف. اعترف ان إحساسي هذا، قد لا تجيزه، ولا تقبله المعايير الموضوعية في رؤية العمل المعماري وادراكه ونقده. فثمة إشتراطات "مهنية"، أو ما يعرف بالاحترافية Professionalism ، يتعين مراعاتها. بيد إني احياناً، اتجاوزها. مفضلا أن "امكث" في دائرة " الهاوي" المندهش والمشدوه، على ان اكون "خارج" تلك الدائرة، أنظر الى المتحقق التصميمي بمسافة، و"ببرودة" أكاديمية. اجعل من "عماراتي" المنتقاة، بمثابة أصدقاء لي، اتمتع برؤيتها، وازورها (كمعارف قديمة!)، إن كانت في مدن آخرى. وابلغ تحياتي لها، في حالة لم استطع رؤيتها او زيارتها، عبر اصدقاء قدر لهم الوصول اليها. سعيت الى نقل أحساسي هذا الى متلقي كتاباتي. ويتذكر طلابي (هل حقا لا زالوا يتذكرون؟ لقد مرت عقود طويلة من السنين!) باني "اجتهدت" في نقل "محبتي" تلك اليهم، "واغويتهم" بهوى العمارة وبشغف المعماريين. اذكر هذا، لاني سأتي على ذكر "الويس ميوزيل" اياه: رجل "قصير عمرة" الشهير، ومعيد إكتشافه، وبالتالي فهو بعمله هذا، أضحى "صديقي" العزيز والمبجل، هو الذي "نبهنا" بأهتمامه وولعه عن قيمة ذلك المبنى البارز، الذي اسس لظهور عمارة جليلة ومتميزة، لم تأخذ حقها من الدرس بما يكفي.
بالنسبة اليّ، اعد "ميوزيل"، عدا كونه مؤرخ ورائد في بحثه عن قصير عمرة، شخصية متنورة وملهمة. ذلك لان تعاطيه مع "الآخر" المختلف، وتقبله له (وهي إطروحة، ما فتئت، تشغلني شخصياً: مهنياً وابيستمولوجياً)، وبالصورة التى رغب ان يقدم نفسه بها، تثير إهتمامي وتجعلني قريب منه، هو الذي كتب، مرة، في كتابه "صحراء العرب" المطبوع في نيويورك سنة 1927، مايلي: " بجانب الامير (رئيس قبيلة الرولة)، وقف الامير "نواف"، وهما باسطين ايديهم نحوي، يتبعهم طابور من إصدقائي المخلصين القدامي. قبلوني وعانقوني جميعهم قبل ان أدخل الى الخيمة. اجلسني نواف بينه وبين والده. ومن جميع الانحاء انسكبت علىّ التحايا والاستفسارات عن صحتي. احسست بحرية كبيرة، وانا بين اؤلئك الناس الطيبيين، بحيث شعرت باني في بيتي وبين أخوتي." (ص. 419).
ولد "الويس ميوزيل" في 30 حزيران 1868 بأطراف مدينة "فوسكوف" Vyskov ، من اعمال "مورافيا" في القسم الشرقي من "بوهيميا"، في اقليم "جيكوسلفاكيا" الذي كان، وقتذاك، جزءاً من الامبراطوية النمساوية- الهنغارية. ومن إجل مساعدة عائلته الفلاحية الفقيرة، اختار لنفسه ان يكون "قساً"، والذي سمى به عام 1891. كما نال شهادة الدكتوراه في علم الاديان سنة 1895. بعد ذلك، في سنة 1896، توجه الى القدس/ فلسطين، لاتمام دراسته عن "العهد القديم". ثم مالبث ان غادر المدينة المقدسة الى لبنان، ليكمل تعليمه الديني في جامعة القديس يوسف في بيروت (1897). واثناء دراسته الدينية، وإهتمامه وإكتشافه للمواقع الاثرية والتوراتية في المنطقة، انجذب الى دراسة سكنة تلك المناطق والتعرف على طريقة عيشهم وعملهم، وخصوصاً استهواه اسلوب معيشة ناس القبائل الصحراوية. كان قريبا جدا ومعروفا من زعماء قبيلة "الرولة"، مثلما كان قريباً ومعروفا ايضا الى قبيلة "بنى صخر"، القبيلتان اللتان كانتا في صراع دائم على الارض والكلأ. وبما اننا اتينا على ذكر اسميّ القبيلتين، اللتين ستشغلان حيزاً كبيراً في حياة وعمل مكتشف "قصير عمرة"؛ فاننا سنتوقف قليلا عندهما، كي يمكن إدراك ومعرفة نوعية ذهنية واهتمامات هذا العالم الاوربي المحب للمنطقة وآهلها.
تعد قبيلة الرولة، التى سيكتب "ميوزيل" عنها كتابا خاصاً بعنوان " تقاليد قبيلة الرولة وعاداتهم"، اكبر قبائل عنزة، والتى هاجرت من نجد واستقرت في شمال الجزيرة العربية، وامتدت حدود تواجدها من الجوف جنوبا فالحماد ووادي سرحان فالبادية السورية حتى اطراف دمشق شمالا والعراق شرقاً. ولقبوا اهل هذه القبيلة بهذا الاسم لانهم "يتراولون" في المشي، أي يسرعون. وتمتعت القبيلة بعلاقات جيدة مع الدولة العثمانية، بفضل زعيمها الشهير "النوري بن شعلان" الذي يلقبة "ميوزيل" بالامير. هو الذي تولى رئاسة القبيلة مدة ستين عاما، وهو الذي منح "ميوزيل" اسم " الشيخ موسى الرويلي" وعرف به في اوساط البدو، طيلة فترة تواجده بين ظهرانيهم. وثمة لقب آخر ناله العالم النمساوي وقتذاك ، باسم " موسى بن النمسا"، وكذلك لقب "الشيخ موسى". اما قبيلة بنى صخر، فتعود بجذورها الى منطقة حايل، لكنها انتقلت شمالا، وعقدت عدة تحالفات مع قبائل المناطق الجديدة، وهزم هذا التحالف الجديد قبائل عديدة، بضمنها عنزة، مما اضطر الاخيرة النزوح الى الشمال نحو بادية الشام، واصطدمت بنى صخر مع قبيلة الرولة مرارا. وكما تعرف ميوزيل على رئيس قبيلة الرولة الامير "النوري بن شعلان" وابنه "نواف"، واضحى قريباُ منهما؛ بات قريبا ايضاً، من رئيس قبيلة بني صخر الامير طلال وقتذاك.
في صيف سنة 1898، كان "الويس ميوزيل" بصحبة الامير طلال، رئيس قبيلة بني صخر، وهم يستعدون لغزوة قبيلة الرولة، لكن "ميوزيل" كان مستعدا لإمر آخر، منتظرا بفارغ الصبر، زيارة القصر، والتأكد، ميدانياً وشخصياً، من مسموعاته العديدة عن صورالمبنى الجدارية "الاسطورية"! انها لحظة هامة في حياته، لو قدر ان ماسمعه سابقا عن القصر، يمتلك نصيباً من الصحة. وما ان حل نهار اليوم الثامن من يونيه (حزيران) ،1898، نادى الامير طلال علي ميوزيل قائلا "- موسى! خلف تلك التلة، (سيكتب ميوزيل لاحقاً، عن تلك اللحظات الحساسة، في كتابه <عمرة الساحرة>) توجد }عمرة{، هي التى تبحث عنها منذ أجل طويل. أذهب اليها مع بخيت". ابتهجت كثيرا، لان أملي، في الاخير، قد تحقق. كان بخيت ممتطياً فرس الامير، وانا اتبعه راكباً بعيري. "-لا تبقى طويلا في <عمرة>. واذا احتجت الى وقت اطول، فبإمكانك ان تفعل ذلك في طريق العودة. أسرع الآن، محفوظ بالله!، فاننا لا يمكننا ان ننتظرك طويلاً". بعد حوالي نصف ساعة وصلنا عمرة. دخلت مباشرة الى المبنى، ورأيت أثار الرسوم في كل الانحاء. كنت اركض من غرفة الى آخرى، وانا مبهور بما اشاهده، اذ كانت جدرانها مغطاة كلها بالرسوم واللوحات الجدارية. عند ذاك، تمالكت انفاسي، مدركاً قيمة وأهمية اكتشافاتي، وحمدت الله على ذلك! حاولت ان التقط صور. واثناء انجازي لاللقطة الاولى، صاح رفيقي، الذي كان مستلقياً على سطح المبنى، باعلى صوته:
- "العدو، اعدائنا، يا موسى، أعدائنا!". اخفيت كاميرتي، وعدونا نحو الشرق. كان هناك ثلاثة او اربعة فرسان يتعقبوننا من جهة الشمال"! (الويس ميوزيل <عمرة الساحرة>، براغ، 1932).

معمار وأكاديمي


الصور:
1- غلاف الكتاب
2- قصر عمرة (712 -715 م.)، بادية الاردن، منظر خارجي عام.
3- قصر عمرة (712 -715 م.)، بادية الاردن، رسومات جدارية داخلية.
4- قصر عمرة (712 -715 م.)، بادية الاردن، رسومات جدارية داخلية.
5- "الويس ميوزيل" (1868-1944). بالملابس العربية.