للمرأة حضور قوي في الأعمال الأدبية والفنية، يعكس وزنها السكاني، وأدوارها الاجتماعية، ولما كانت الرواية تتمتع بقدرة كبيرة على تصوير الواقع الاجتماعي ورصد ظواهره، فقد انتبه كتاب الرواية العربية لواقع المرأة، فصدرت أعمال روائية شتى، لكتاب كثيرين، تناول كل كاتب موضوع المرأة من زاويته.
وفي هذا السياق، صدر للشاعر الباحث في الثقافة الشعبية والأنثروبولوجيا المصري محمد شحاته العمدة روايته "عوالي" عن دار "شعلة للطباعة والنشر" بالقاهرة.

الرواية: عوالي
الراوي يحكي لصديقه نصير قصة "نخلة صالح"، مفادها أن المسمى "منازع" تزوج لم يرزق بذرية، فزوجته أمه بابنة خاله الأرملة "عوالي" التي حملت منه، فأثار الحمل حنق "أخيه "صديق"، لأنه أصبح مهددا بمنافسة ابنها في الإرث، فأشاع "صديق" بين سكان القرية أن الحمل سفاح، والجنين ليس ابن أخيه "منازع"، ما أدى إلى تعريض "عوالي" لسخرية الناس، ولعنف زوجها، فحاولت الانتحار مرارا، ثم قررت اللجوء إلى صالح ليحميها، هذا الأخير رفض حمايتها، فتركته وخرجت هائمة على وجهها بحملها، مخلفة ابنتها في القرية، ندم صالح على التخلي عن عوالي، فخرج يطلبها فوجد جثة اعتقدها لعوالي، فقام بدفنها، فأقام لها قبرا نبتت عليه نخلات، وتكفل بتربية ابنتها.
منازع غادر القرية إلى قرية أخرى، فتعلم فنون البناء، وعاد إلى قريته، فوجد أخاه صديق استحوذ على بيته وأرضه، فطارده صديق، الذي لجأ إلى صالح، وعند وفاته، دفنه عند النخلات، بجوار قبر عوالي المفترض
ابن صالح تعلق بأمل، فقرر الزواج بها، وافق والداه على مضض، فتزوج ناصر ابن صالح بأمل، وانتقل للعيش معها من قريته الجنوبية إلى القاهرة، بعيدا عن قريته، تجنبا لكلام الناس، في القاهرة اشتغل وتحسنت أحواله، وأنجبت زوجته، ثم قرر العودة إلى القرية بعد وفاة والده، وأخلص في خدمتها ومساعدة أهاليها.
ابنة أمل وردة هي حفيدة عوالي تصبح طبيبة، يخطبها أحد زملائها نصير الذي هو حفيد عوالي، ثم تظهر الحقيقة في منزل عوالي، التي قدمت نفسها لابن صالح، ووالد وردة.

حضور المرأة في الرواية
حضور المرأة يتمثل في البطلة عوالي، وابنتها أمل، وأيضا في الأم والأخت، فالمرأة حاضرة من خلال شخصيات متعددة.
كانت القضية التي تتحرك في إطارها المرأة ضمن هذه الرواية هي دائرة الزواج، والإنجاب، والعنف الزوجي، والظلم الاجتماعي، والإرث، ضمن الحياة الاجتماعية في واقع ريفي مصري تقليدي، محكوم بالتقاليد البالية، التي تكشف عن مدى مأساوية الأوضاع الاجتماعية والنفسية التي تعيشها المرأة في ظل تعسف المجتمعات الشرقية القائمة على السلطة البطريركية التي يجسدها الأب. استعرض الكاتب ذلك بأسلوب سردي مغلف بتعاطف يكسب البطلة تضامن القارئ ومساندته لها.
المرأة الأم وهي إحدى الشخصيات التي تلعب وراء الستار، وتسهم في تدوير الأحداث وتواليها، أم تقليدية محافظة، تعيد إنتاج الثقافة التقليدية، بالتمسك بالعرف والعادات الاجتماعية، التي تشدد على زواج الأقارب، فهي تختار زوجة ابنها من بين قريباتها، وبذلك تسهم في تقوية أواصر القرابة، وتنمية الإرث العائلي، كما يتيح لها هذا التقليد الفرصة لفرض هيمنتها على الزوجين معا.
فلولا الأم، لما تزوج منازع من عوالي، أما أم ناصر، فقد كانت ترغب في تزويجه بابنة عمه، وكادت أن تعصف بحلم ابنها في الزواج بأمل التي يحبها.
البطلة عوالي: أم أمل، ترملت، ثم تزوجت ابن عمتها منازع، أملا في منحه ذرية ترثه، ولما حملت، اتهمت في عفتها، فخضعت لعنف وتحقير، لكنها، حرصا على نجاتها خرجت من وضعية الانغلاق والجمود التي فرضها المجتمع عليها، فبعد صبرها المرير، وتحملها الإهانات والعنف الزوجي، قررت الهروب، لاختيار مسار حياتها الجديد الذي يضمن لها أن تعيش بكرامة، على الرغم من أن التقليد الاجتماعي لا يضمن هذه الكرامة ولا يوفرها.
الكاتب في روايته هذه يصور لنا حياة عوالي التي مرت من مرحلتين، المرحلة الأولى وهي تلك المرأة المحافظة التقليدية البدوية، التي عادة ما تصبر على كل الظروف والصعوبات ولا تتمرد رغم كل ما يحل بها.
في حين أن المرحلة الثانية تجسدها الزوجة الهاربة من جحيم العنف الزوجي والنظرة الاجتماعية الظالمة، حالمةً بغد أفضل في المدينة، واختيارها العيش تحت أشعة الشمس الحارقة، بدل "ظل راجل" والأم المناضلة من أجل تحسين حالها، وضمان حق ابنها في التعليم، الواثقة من التعليم كأداة للارتقاء الاجتماعي وضمانة للحرية واستقلالية القرار، والتي سوف تقطف ثمار اجتهادها ونضالها من نجاح ابنها وأحفادها.
لعل المقولة أن "أحسن طريقة للانتقام هي النجاح" تصدق بشكل قوي على هذه الحالة، فعوالي لم تتصيد الفرصة للانتقام من أحد، بل انشغلت بذاتها، وحرصت على حماية نفسها من كل أشكال التحرش، وتفرغت لابنها، واجتهدت في تربيته. سمت عوالي بنفسها وترفعت عن الدناءات الاجتماعية ولم تسايرها، لأن تجربتها المؤلمة مع زوجين، وفي وسطين عائليين مختلفين، أنضجتها وأكسبتها خبرة، فراهنت على ابنها لتستثمر فيه، حتى حققت نجاحها من خلاله، وهذا الموقف يجر تعاطف القارئ، وتفاعله معها، فبعدما ظنها ميتة تحت النخلات، إذا بها تظهر فجأة في أسيوط، جدة، سعيدة، تحوط ابنها وأحفادها بالمحبة والرعاية، في حين أن مجتمع قرية البداري الظالم الذي احتقرها وظلمها، انتقمت منه الأقدار انتقاما شديدا، فلقي ثمن ما تسبب فيه من آلام للمظلومين. هذه النتيجة أكسبت عوالي تعاطف القارئ وتفاعله معها، وانتشاءه لانتصارها. وتتفاعل عواطفه مع مكنوناتها، ويلقي كل اللوم على الوسط الذي تعيش فيه، أو الزوج الذي عنفها، والمجتمع الذي تنكر لها ورفض حمايتها.

الصعيد: فضاء الرواية
تجري أحداث الرواية في الصعيد، في مكانين مختلفين منه، أولهما قرية البداري في الجنوب، ومدينة أسيوط. وتحديد الصعيد فضاء للرواية، عامل هام في إبراز ملامح شخصياتها، وطرق تفكيرهم، وعاداتهم وتقاليدهم، وهي تختلف عن نظيرتها في الحواضر الشمالية، ما أضفى على الرواية طابعا محليا مميزا، يدركه القارئ.
وأكثر من ذلك، فإن المؤلف لم يدخر جهدا في التعريف بكثير من مظاهر الحياة الصعيدية المرتبطة بالنيل ومواسم فيضانه، والنخيل، وفنون العمارة الطينية، والخرافات السائدة، إلى جانب الأعراف والتقاليد في المسرات والمآتم، وعادات الثأر، والدور التحكيمي التصالحي للأشراف العرب، وغير ذلك مما لا يمكن حصره من مكونات الثقافة الصعيدية التي عنى بها المؤلف، وبسطها للقارئ، في شكل إحالات وهوامش تشرح له ما يحتاج إلى توضيح بخصوص هذه العادات والمصطلحات. فأثرى السرد الروائي ببطاقات فنية إبداعية يوظف فيها قاموسا لغويا محلّيا، تساعد القارئ على تكوين صورة واضحة المعالم، للمجتمع الصعيدي بأدق تفاصيله، من عاداته وتقاليده.

[email protected]