*إلى سلوى الجراح


... يموت ببطء..
من لا يسافر..
من لا يقرأ..
من لا يسمع الموسيقى..
من لا يعرف كيف يجد شيئا..
بفضل عينيه..
...
...
يموت ببطء..
من يصبح عبداً للعادة..
يعاود كل يوم نفس المسافات..
من لا يغير أبدا معلمته..
لا يجازف أبدا بتغيير لون ملابسه..
أو لا يتحدث أبدا مع غريب..
...
- بابلو نيرودا

قد لا يعرف كثر، اليوم، "مارون طنب" (1912 – 1981)، لكن هذا لا يبخس من قيمته، مثلما لا ينفي اهميته الفنية كاحد الفنانيين القديرين: المجتهدين والمتنورين، التائق لنشر الثقافة الفنية والمعرفية في اوساط مجتمعية واسعة. فهو الفنان الفلسطيني / اللبناني المولود في حيفا بفلسطين، تبناه فنيا سنة 1929 عضو اكاديمية برلين ومدرس التصوير بالمدرسة العليا للفنون التطبيقية بحيفا. وبعد ان عمل في احدى المؤسسات العامة بفلسطين، غادر سنة 1948 بعد النكبة إلى لبنان، وعمل رئيسا للقسم الفني بشركة نفط العراق بمدينة طرابلس، ثم أكتسب فيما بعد الجنسية اللبنانية، ولاحقا انتخب في سنة 1968 سكرتيرا لجمعية المصورين والنحاتين.

عين زالة بريشة الرسام مارون طنب (ألوان مائية من الخمسينيات)

نظم واقام عدة معارض شخصية في طرابلس اعوام 1950، 1955، 1969. كما نظم المركز الثقافي الفرنسي معرضا شخصيا له في سنة 1967، واقامت قاعة دار الفن ببيروت معارض له خلال سنين عديدة، كما اقامت دار الثقافة ببيروت معرضا استعاديا سنة 1979 مثلما اقامت قاعة دامو بلبنان عام 1980 معرضا له، وتوفي قبيل افتتاح معرضه الثاني في ذات القاعة بايام سنة 1981. شارك في معارض جماعية لوزارة التعليم الوطني ما بين 1952 – 1968، وكذلك في بينالي الاسكندرية 1970. اقامت عائلته معرضا لمجموعته الفنية في ريو دي جانيرو بالبرازيل سنة 1982. واقام المعهد الثقافي الفرنسي ببيروت سنة 1987 معرضا استعاديا في ذكراه بعنوان "تحية إلى مارون توومب" بجونيا. والفنان "مارون طنب"، هو ذاته "مارون طومب" و"مارون توومب" ويوقع لوحاته دائما بـ M. Tomb، الا ان صيغة الاسم العربي "مارون طنب" هي الرائجة والمعروف بها هذا الفنان القدير على نطاق واسع.

تعود معرفتي (..واعجابي الشديد) بالفنان الفلسطيني/ اللبناني إلى فترة الخمسينيات، حيث كنت، وانا مجرد صبي يسكن في مدينة ريفية صغيرة، من المطالعين الدائميين لمجلة "اهل النفط" التي اصدرتها "شركة نفط العراق" IPC وقتها، وكان اسم مارون طنب يذكر فيها كمدير فني لها، واحياناً كان ينشر على صفحات كاملة "لوحاته" المائية الملونة عن مشاهد عراقية مختارة بعناية تعبر عن جغرافية بلدات ومدن بلادنا كما تحضر فيها معالم تلك المدن ونوعية "عمارتها" التى كانت تبهرني وتثير دهشتي واعجابي. واحسب ان كثراً من القراء، غيري، كانوا ايضا يتابعون الفنان ويتمتعوا بمشاهدة لوحاته والتعرف على فنه الراقي والجميل. وكأن الفنان بذلك النشر الدائم ومن خلال تلك المجلة المعروفة على نطاق جماهيري واسع، والمطبوعة في أناقة لافتة وحجم مميز، كأنه يمنح قراءها ومشاهدي لوحاته المائية دروسا في الثقافة الفنية، ويؤسس لذائقة جمالية جديدة لم تكن متاحة للكثيرين بالصيغة التى كان يوفرها ذلك الفنان التنويري!

البصرة بريشة الرسام مارون طنب (ألوان مائية من الخمسينيات)

كانت غالبية اللوحات المنشورة (ان لم تكن كلها!)، منفذة بتقنية الالوان المائية، التى كان يجيدها "مارون طنب" أيما أجادة. ثمة، دوماً، سماء زرقاء تتخللها غيوم "راكضة" بتشكيلات عفوية، مهمتها الوجودية اثراء اللوحة فنيا، وإكساب عموم "الرسمة" مزيدا من النور؛ ذلك النور الذي يغمر مفردات اللوحة واشيائها المرسومة بوهج خاص يكرس حضورها الفيزياوي! يدرك متلقوا لوحات مارون طنب، بسهولة نادرة، رقة الفنان وفائض حنينه تجاه المشهد المرسوم؛ فمن خلال ضربات الالوان السريعة التى بدت وكأنها تلقائية وحتى ساذجة، ومن مفردات عمارته التقليدية والمختزلة في آن، و"نخيله" العالي وتضاريس ارضه التى وطأ أَدِيمها كثر من اقدام مشاهديه، تتبدى تلك اللوحات وكأنها مستلة من مرأى جد مألوف، بل وكأنها مشهد من مشاهد "حارتنا" الحميمية، وكأن الفنان مثلنا يعرف خفايا واسرار ذلك المشهد وهو "مثلنا" ايضا منتمنٍ اليه؛ من هنا وفرة تلك الالفة والود و"الحنيـّة" التى تسري في العروق حالما نشاهد تلك اللوحات المائية.

في لوحته "الفاو"، وهو الميناء العراقي الوحيد، يكتسب الضياء المسرف في حضوره وشدته، دورا محوريا في اثراء الفعل "التلويني" للمشهد المرئي. ثمة "نخلات" باسقات منتشرات في اجزاء عديدة من حيز الرسمة، تشي بـ "فرتكالية"، يراد بها معاكسة افقية الخطوط المستقيمة المعبرة عن تمثلات عناصر مواضيع اللوحة المرسومة. فهناك في الافق البعيد يمكن ان تُرى احدى "افقيات" الضفة الاخرى من شط العرب، ثم خط افقي آخر لقافلة من جمال تسير على طرف شارع، تليها وفي منتصف اللوحة تقريبا خطوط افقية اخرى لعملية تحميل النفط، وكل هذا يتقاطع مع اتجاهات سدود ترابية تتجه بصورة عمودية لمسار اتجاه افقية تلك الخطوط التي اشرنا اليها. اي ان الفنان ينزع للمناورة في سير اتجاهات تلك الخطوط وتضادها لجهة منح رسمته مزيدا من الحيوية والدينامية، ويقلل في الوقت نفسه من حدة الضياء القوي الذي اوجده في لوحته المضيئة الدالة على خصوصية المكان.

عقرة بريشة الرسام مارون طنب (ألوان مائية من الخمسينيات)

تغدو لوحات" البصرة" و"عقرة" و"عين زالة" و"جسر عباسي في زاخو" وغيرها من الرسمات الملونة التى انجزها مارون طنب في الخمسينات، وخصصها لنشرها في مجلة "اهل النفط"، تغدو جميعها عنوانا لاسلوبه المميز المعتمد على حضور السماء بسحابها الشفيف التى تخلق خلفية لمفردات اللوحة وعناصرها الموزعة باتزان على سطحها. ثمة اهتمام واضح لدى الفنان في تبيان معمار اللوحة، هو المؤلف من تعدد مستويات/ طبقات Layers، وكل طبقة تتضمن مجموعة احداث (غالبا ما تكون متماثلة)، تتوالى الواحدة وراء الآخرى مرسخة بتوقيعاتها المتباينة منظور الرسمة الذي يجمع احداث تلك المستويات. جدير بالاشارة ان فن مارون طنب في عقود لاحقة اهتم اهتماما كثيرا في "تسجيل" المشاهد اليومية لمدينتة الاثيرة طرابلس التى عاش فيها لفترة طويلة، بالاضافة إلى محاولته "حفظ" مشاهد الحياة اليومية في لبنان بصورة عامة. ولقب جراء ذلك بـ "شاعر" المناظر الطبيعية اللبنانية لتمكنه في اقتناص لحظات العمل والراحة لمواطنيه اللبنانيين ومشاهد الطبيعة الخلابة في ذلك البلد الجميل!

يبقى اسم مارون طنب بالنسبة للكثيرين (يبقى بالنسبة اليّ شخصياً) مقترناً بالقدرة في ايصال الثقافة الفنية ونماذجها المعبرة إلى جمهور واسع وعريض من خلال اهتمامه الجدي ونشاطه المستمر وعمله الدؤوب بجعل منتجه الفني مادة متاحة للجميع عبر النشر الجماهيري الذي توفره الصحافة التى انشغل بها مارون طنب طويلاً باجتهاد ومثابرة. وبقدر ماكانت خصائص فنه حافلة بدلالات المكان، وظلت تتسم على وضوح ومباشرة، بل ويمكننا القول أنها انطوت، ايضاً، على "رعوية" <باستورالية> Pastoral نقية (لناحية براءتها وبساطتها)، ولهذا كانت مفهومة كثيراً ومقبولة كثيراً من قبل متابعيه العديدين.

الفاو بريشة الرسام مارون طنب (ألوان مائية من الخمسينيات)

لقد امتلك مارون طنب لغة فنية معبرة وصافية، نهضت بفنه لتكون بمنزلة: لغة آخرى آسرة، يمكن التحدث بها عن دروس معرفية اثرت ذائقة مشاهدي لوحاته ومتابعيه الكثر. وفيما يخصني شخصياً، ابقى مديناً لتلك الدروس "المارونية"، التى اغنت ثقافتي الفنية واثرت ذائقتي الجمالية في زمان ومكان لم يكنا متاحا فيهما الحصول على تلك المعرفة التنويرية بسهولة. وما مقالي هذا بعد اربعين سنة من وفاة الفنان وقرن ونيف من ولادته سوى ايماءة احترام وامتنان من احد مريديه: ذلك الصبي الريفي المولود في مدينة صغيرة والمقيم، الآن، في مهجر اسكندينافي، والمولع بفن ذلك اللبناني.. من اصول فلسطينية!