ليس من السهل رثاء فنان كان قديراً في تمثيله، راقياً في خلقه، وسيماً في طَلّته، مثل هشام سليم، بما كان يمثله لي ولجيلي مع الراحل ممدوح عبد العليم، من نموذج للشباب بكل رومانسيته وعنفوانه وطيبته وتمَرده. كان فنان متمكن لم يَنَل عُشر ما يستحقه من تقدير وتسليط للأضواء، لأنه لطالما حُسِب على نجوم الصف الثاني، رغم أنه كان يمتلك كل مقومات النجم الأول من موهبة ووسامة تؤهله للوقوف الى جانب زملاءه من نجوم الصف الأول، لذ إستعان به بعضهم بأدوار مفصلية ضمن أعمالهم ليضيف إليها من موهبته وروعة أداءه، فيما تجَنّبه آخرون خوفاً من أن يغطي بريقه على بريقهم. ظلمته نمطية النقد والإعلام التي كانت العدسة التي يَنظُر جمهور السينما والتلفزيون من خلالها الى نجومه، واللذان تعودا تسليط الضوء على النجم الأول. ظلمه أيضاً تواضعه الذي لم يدفعه لمحاولة إثبات نفسه لأنه كان واثقاً من إمكانياته وقدراته التي كانت تترك أثراً في كل شخصية يؤديها. كما ظلمته عِزّة نفسه النابعة من تربيته الراقية التي منعته من تسَوّل أدوار البطل الأول، رغم أنه كان يستحقها بجدارة، وحينما جائته لحد عَندو كان أهل لها، لكنه لم يتكالب عليها ورَضيَ بدور البطل الثاني، لأنه كان يعلم بأنه سيجيده ويترك بصمة تخلده في ذاكرة الفن والمشاهدين.

الجمهور المُلتزم لم يتبع النقد والإعلام وثَمّن موهبته، وإحترم تواضعه وعِزة نفسه، وأحبّه وقَدّره لذلك، كذلك فعل بعض المخرجين أصحاب النظرة الثاقبة، الذين إستعانوا به في أغلب أعمالهم الكبيرة حتى عندما كان صغيراً، لأنهم يعلمون بأنه قد يكون أحد جوكرات نجاحها، وقد كان فعلاً كذلك، بدئاً من حسين كمال ويوسف شاهين الذين إستعانا به صغيراً في "إمبراطورية ميم" ثم "عودة الإبن الضال"، مروراً بيحيى العلمي وأشرف فهمي الذين إستعانا به شاباً في "تزوير في أوراق رسمية" و"لا تسألني من أنا"، وصولاً الى خالد يوسف الذي إستعان به في "إنت عمري". أما التلفزيون فكانت له فيه صولات وجولات في أعمال خادلة مثل "ليالي الحلمية" و "الراية البيضا" و "أرابيسك" و "هوانم جاردن سيتي" و "أرابيسك“. كما إستعانت به زوجة أخيه الممثلة القديرة يسرا في أغلب أعمالها مثل "ملك روحي" و "لقاء على الهوا" و "في أيد أمينة" و "كلام في الحب". هو من أبرز مظاليم جيله، من ناحية أدوار البطولة أو أضواء الشهرة، اللتان كانتا تقتربان منه أحيانا، ثم تحيدان عنه، برغم أنه لم يكن يرى نفسه كذلك، بل كان مقتنعاً بما حققه نوعاً، لا كَمّاً وتصَدّراً للعناوين، وهو بالفعل إرث لا يقدر بثمن من أدوار خالدة لا تنسى.

كان حالة من الرُقي متجَسِّدة في إنسان يتبَنّى الرُقي كأسلوب حياة، فقد كان راقياً في كلامه وهيئته وإبتسامته وتصرفاته، وفي التعامل مع تحديات حياته الشخصية، وفي إختياراته الفنية وعلاقاته مع زملاءه، فإستَحَق أن يكون مثلاً أعلى لجيل ومرحلة. ورث عن أبيه رُقي أخلاقه ووسامته لكنه لم يرغب بأن يكون أستنساخاً له، لهذا رَسَم معالم شخصيته وبَلوَر لها تركيبة وكاريزما خاصة ميّزته عنه، ثم باتت تمَيّزه عن زملاءه، فأمسى مختلفاً لا يشبه أحد، وإنسَحب هذا التمَيّز على طريقة أداءه التي أبهرتنا في كل أدواره، التي لن نجد بينها دور ضعيف أو عمل هابط. كان ينسحب تكتيكياً حينما لا يجد دور يناسبه وعمل يليق به. جَمعَه للمَجد من طرفيه، أولاً لكونه إبن الأسطورة صالح سليم، وثانياً لكونه الفنان هشام سليم، لم يدفعه للغرور، بل زادَه تواضعاً، وهو أمر كنا نلمسه في لقائاته التلفزيونية، وأكده جميع زملاءه الذين تعاملوا معه.

يَصِف الكثيرون هشام سليم بالمُتمرد في أدواره، لكن هذا الكلام ليس دقيقاً 100%، فالكثير منها حتى في شبابه لا علاقة لها بالتمَرّد بقدر تعبيرها عن روح الشباب، فهو ليس أحمد رمزي أو حسن يوسف أو محمود الجندي، بمعنى أنه لم يكن بشقاوتهم، أللهم بإستثناء دوره في فيلم تزوير في أوراق رسمية، وهو مِن بين عشرات الأدوار التي تنَوّعت بين الشاب المَبدئي في "الرايا البيضا"، أو الوصولي الشرير في "محمود المصري"، أو الشاب الأرستقراطي المستهتر في "هوانم جاردن سيتي" أو رجل المخابرات في "حرب الجواسيس"، أو الشاب الأرستقراطي العقلاني في "ليالي الحلمية"، أو العمدة في "المصراوية". إن هذا الكلام ينافي طبيعة شخصيته الفنية، وميزة أنه كان ممثلاً تلقائياً ومُحترفاً ليست لديه شخصية فنية نمَطية نراها تتكرر في جميع أدواره ونقول ها هو هشام سليم، بل كان يتقمص أي شخصية يؤديها بحرفية تجعلك تنسى أن مَن تشاهده هو هشام سليم، وتنشغل بطبيعتها وكلامها وتصرفاتها، فتحبها أو تكرهها، وتقسو عليها أو تتعاطف معها بعيداً عنه. كان من مدرسة الممثلين الذين يتقمصون الشخصية لا العكس، لذا نتذكر أغلب أدواره لأنه ترك في كل منها بصمة مختلفة عن غيره، ولم نرَه هشام سليم فيها جميعاً. من بين أبناء جيله هو لم يكن برومانسية ممدوح عبد العليم ولا بشقاوة محمود الجندي، كان حالة وسط بينهما أقرب للكثيرين منا.

مَن يُريد أن يُقَيّم موهبة هشام سليم عليه أن لا يَنظُر الى أدواره الأولية رغم رَوعتها، والتي ظهر في بعضها شاباً مُتمرداً، وهي الشخصية النمَطية التي يُصِر البعض على إلصاقها به، دون وجه حق، بل عليه أن يتابع أداءه الخرافي في مُسَلسلين شارك فيهما بذروة نضوجه الفني، هما "محمود المصري" الذي جَسّد فيه شخصية الوصولي الشرير أكرم زهدي في مواجهة شخصية الطيب العصامي محمود المصري التي جَسّدها الأسطورة محمود عبد العزيز، و"المصراوية" الذي جَسّد في جزأه الأول شخصية العمدة فتح الله الحسيني ليحل محله في جزءه الثاني صديق عمره الراحل ممدوح عبد العليم، اللذان أراهما أهَم أدواره التي للأسف لم يسلط عليها الضوء كثيراً. فقد وقف في الأول كبطل ثاني نِداً لمحمود عبد العزيز الذي كان غول تمثيل، لا يَملأ الدور الذي يُجَسّده فحسب، بل وكل أجواء المسلسل بحضوره الآسر وأداءه الساحر، لذا ليس سهلاً أن يُزاحمه مَن يُمَثل معه هذا الحضور، لكن هشام فعلها بتجسيده لشخصية أكرم زهدي في المسلسل. ووقف في الثاني بأحد أدواره النادرة كبطل أول مُجَسِّداً شخصية صعيدية بعيدة عن نشأته الأرستقراطية، فكان العَمل والدور إختبار لقدارته في أن ينجح كبطل أول، وتحَدّي لنفسه في أن يُوَفّق بتجسيد الشخصية، وقد نجح فيهما بإمتياز مع مرتبة الشرف، بل كان الأكثر نجاحاً بتجسيد شخصية العمدة من ممدوح عبد العليم، الذي قام بتأدية الدور في الجزء الثاني، رغم تجربة ممدوح السابقة الناجحة في دُور مشابه بمسلسل "الضوء الشارد"، ليس لضعف في أداءه فهو ممثل موهوب وقدير، لكن لأن أداءه عموماً كان يغلب عليه التأثر بتركيبة الشخصية التي يؤديها والمبالغة في التعبير عَنها من خلال تعابير وجهه وحركاته، أما أداء هشام سليم للشخصية فقد كان كعادته تلقائياً، لكن محسوب بالمِلّي، لذا كان أكثر إقناعاً، وبقي أغلب الناس يتذكرون شخصية الحُسيني الذي قام بتجسيده هشام سليم، أكثر مما يتذكرون ممدوح عبد العليم حينما قام بتجسيد شخصية الحُسيني. قد يقول قائل أن أدائهما في مسلسل "ليالي الحلمية" كان مُتعادلاً، وقد يذهب البعض الى أن أداء ممدوح كان أكثر بريقاً ويُرَجّح كفته على هشام، والجواب هو أن التركيز في حبكة المسلسل كان على شخصية علي البدري أكثر مِن عادل البدري، رغم ذلك أقنعنا هشام بالشخصية الى أبعد الحدود، واليوم حينما نتذكر المسلسل نَجِد عادل البدري ضمن أبرز شخصياته التي عَلّقت في ذاكرتنا. في ليالي الحلمية وُضِع كل منهما في الدور الذي يُناسب شخصيته، بمعنى أن عادل البدري رغم تمَرده في صباه، إلا أنه شخصية عقلانية تناسب أداء هشام سليم العقلاني، أما علي البدري فشخصية إنفعالية رومانسية تناسب أداء ممدوح عبد العليم الإنفعالي العاطفي. وأمس إلتحق عادل البدري بأخيه علي، وهشام سليم بصديقه ممدوح عبد العليم، اللذان جمعتهما غرفة واحدة على مدى أربع سنوات، ضمن كواليس مسلسل ليالي الحلمية، فوَثّقت بينهما أواصر صداقة وأخوة حقيقية إستمَرّت حتى رحيلهما.


[email protected]