السخريةُ هي واحدةٌ من الوسائل لكشفِ الخلل في منظومة ما. ورغم انها تُوظف أحيانا بطريقةٍ مبتذلة، لان المُبتذل منها، السطحيَّ والعابرَ يجلب لأوساطٍ لاهيةٍ من الناس السعادة، الا انها تبقى فناً رفيعا. فالمسارح ودور السينما تعجّ بسقط المتاع، قبل ان يتاح للمدقق الفاحص أن يلتقطَ من بين ركام الابتذال كوميديا حقيقية وعميقة. بالسخرية النقدية ستبدو عيوبُ امرٍ ما جليةً. انها قادرةٌ على انقاذِنا من استطياب النوم على وقع الهدهدة وانتشالنا مما درجنا عليه طويلا دون إعادة تقييم.
عن طريق السخرية اوضح أبو نؤاس موقفه من بنية الشعر العربي الكلاسيكي وطرح بديله الشعري. فاستهلاله غير مسبوق "دع عنك لومي فإن اللوم اغراء". سخر خصوصا من آليه الانتقال من غرض شعري لأخر ونصح الباكين على الاطلال ان ينصرفوا عنها الى غيرها.
عاجَ الشقيُّ على رسمٍ يُسائِله وعُجتُ اسألُ عن خمّارةِ البلد
ترد في البيت إشارةٌ الى موقعين على طرفي نقيض "رَسمٌ" وهي تعني الاثر لما تبقى من مكانِ إقامة و"خمارة البلد". ويتكرر فعل "عاج" مرتين. ومن خلال تكرار فعل "عاج" والصيرورة الى مكانين مختلفين صار اليهما هو وشاعره الافتراضي، انما يشير أبو نؤاس الى الذهاب الى غرضين من الشعر ونمطين من المعيشة. ففيما يذهب الشاعر الشقيّ باحثا عن اطلال وخرائب يناجيها، يذهب أبو نؤاس الى حانة ليشرب الخمر ويتغزل بها ثم ليشتم الاقوام التي سلفت دون ذنب اقترفته، انما ليقول انه ساخط على الماضي ويعيش اللحظة وان على الشعر ان يتخلص من سطوة هذا الماضي. وفيما نجد انه على حق في سعيه الى فك اسر الشعر من ربقة الماضي نجد انه لم يفطن الى أن بنية القصيدة التي استنكرها، هي انما ابنة زمانها وأن قصائد ذاك الزمان قد شحذها واضفى الالق على قوة تعبيرها الألمُ الممضُ لفراق الحبيب وترحاله المستمر، وهي التي، في نهاية المطاف، أسست القواعد ليتمكن ان يبني عليها فيصل الى ما وصل هو اليه.
ثم ليتمادى في سخرية من الباكين على الاطلال في موضع آخر:
قل لمن يبكي على رسمٍ درسْ واقفاً ما ضرَّ لو كانَ جلسْ
يخطر على البال ما قاله امرؤ القيس في "قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل" وزهير ابن ابي سلمي "وقفت بها بعد عشرين حجة... فلأيا عرفت الدار بعد توهم". لكنّ الوقوفَ هنا ليس نقيضَ الجلوس الذي يدعو أبو نؤاس اليه، بل هو بالأحرى نقيضُ السير والمرور العاجل، وهو في حقيقته ليس سكونا بحتا، انه سكونٌ تأملي، يحيط بالمشهد بتوظيف مجموع الحواس ويفيد ما يلزم من احترام الذكرى وتبجيلها. فقولنا وقفَ على الشيء انما تعني رعاه واهتم به. هنا أجد إنّ هذا الامر لم يكن غائبا عن ابي نؤاس، لكنه أراد ان يعمق الجانب الساخر من المشهد باستغلال ازدواجية المعني، فيقول: اجلس وابكِ. لماذا تبكي واقفا! أليس من خصال الشاعر ان يرى الأشياء بحساسية أكثر مما تبدو للآخرين ويكشف الدفين والمموه منها؟ وهذا التلفيق الذي صار أبو نؤاس اليه مبررٌ بحكم مُراده والغاية التي يُنشدها.
يسخر بيتا الشعر هذين من الالحاح بالتمسك ببنية الشعر العربي الكلاسيكي حتى مع زوال مسبباتها. لكنها حقيقة عامة، أن يكون للأفكار والصور وانماط التفكير قوةُ استمرارٍ حتى مع زوال القاعدة الارتكازية لنشأتها.
سنرى في ابيات الشعر التي تلت هذين البيتين أن أبا نؤاس لا يدعو الشعراء مباشرة الى بديل اسلوبي. انه لا يملك الا أن يدعوهم الى التمتع بالخمر والتغني بها، انه يدعوهم الى العبث بدلا من أن يصيروا اسيري الحزن بمناجاة الاطلال، أن يعيشوا اللحظة الراهنة بدلا من الماضي. ويطرح أبو نؤاس بطريقته البديل الابداعي. ففي شعره دعوات للتحديث، اذ مواضيعُ شعره ولغتُه توّفرَتا على إشارات ابتكار غير مسبوقة.
لا شك في أن الصور الشعرية التي نشأت في الجزيرة العربية كانت متقدمة جدا في اطارها الزمني وحتى خارج هذا الإطار. لقد بقيت الكثير من قصائد ذاك الزمان حية وممتعة رغم مضي ما يقارب الألفي عام عليها. فلا يوجد شعر معاصر تعرض لحياة الصعلكة والعبث والغزل والحب واستنباط الصور كما لوصف الحياة البرية وحياة الحيوانات والنباتات كما فعل الشعر العربي القديم. ففي عجز بيت شعرٍ واحد يورد لبيد في معلقته ثلاثة أنواع من المطر:
رُزقت مرابيع النجوم وصابها ودْقُ الرواعد جودُها فرهامها
والصياغة تفيد وجود تعاقب زمني لهذه الأنواع المتتابعة من المطر بما يوفر صورة ديناميكية للمشهد. وأسماء المطر هنا وفي العموم ليست مرادفات وانما هي أسماء مختلفة تتبعُ نوعَ المطر. هذا يرينا كم كانت المراقبة دقيقة لظواهر الطبيعة.
ويرِدُ في نفس القصيدة:
فعلا فروعُ الايهقان واطفلت في الجهلتين ضباؤها ونعامها
والعين ساكنة على اطلائها عوذا تأجّلُ بالفضاء بهامها
ويعكس بعضٌ آخر من الشعر العربي صورا لا تُجارى. ففي وصفه لاستعدادات الأعداء نجد تبنيا مبكرا جدا لاعتماد الصورة في الادب ويبدو الحارث بن حلزة كمن ينظر بعين الطير الى معسكرهم فيقول:
اجمعوا امرهم عِشاءً فلمّا أصبحوا أصبحتْ لهم ضوضاءُ
من مــنادٍ ومن مجـيبٍ ومن تصــهال خيل خـلال ذاك رغاءُ
تبدو الصورة هنا كما لو انها اُعدت من كاتب سيناريو أفلام.
لِما قبل انتشار الإسلام كانت اللغة العربية متلائمة مع حاضنتها الاجتماعية والفكرية في الجزيرة العربية. لم تكن متطابقة وليس لها ان تكون. ففي صلب قوانين التطور ان يكون هناك تباين في مستويات تطور أجزاء من البناء التحتي يقابله مقدار يسعى ان يكون موازيا في البناء الفوقي. لكن ديناميكية ضبط التوافق كان تسير بسلاسة، خصوصا وان العصر لم يكن ليشهد انعطافات كبيرة انما كان يسير في خط تطور هادئ حتى ظهور الإسلام.
بظهور الإسلام تحقق امران، الأول: بداية اضمحلال اللهجات السائدة في الجزيرة العربية وانتصار لغة قريش بدعم من القرآن. ثانيا: انتشار الإسلام على رقعة جغرافية واسعة وَضَعَ اللغة العربية امام تحدياتٍ كبيرة. فلم تعدْ اللغةُ العربية محصورة بالجزيرة العربية، بل جعَلَ انتشارُ الإسلام الجزيرةَ العربية نقطةً في محيط شاسع ناطقٍ باللغة العربية التي توجب عليها ان تتعامل مع محيط مختلف كليا عن الحاضنة التي نشأت بها. في ظرفٍ مثل هذا تواجه كل لغة احتمالين: اما ان تستجيب للمستجدات او تموت، ونحن نعرف أي واحد من هذين الاحتمالين انتصر.
ما جعل اللغة العربية تصمد امام تحديات الانتشار خارج حاضنتها، انها، بادئ ذي بدء، لغة المنتصرين وبالتالي لغة التعامل. ثم لأنها لم تقف مكتوفة الايدي، بل تطورت واستوعبت الجديد، وهذا مرتبطٌ ١. بمرونتها ٢. بثرائها، ثم ٣. لان الداخلين في الدين الجديد من غير العرب، خصوصا من الجيل الثاني وما بعده، قد اختاروها وسيلة للتعبير عن أفكارهم، بل ان البعض منهم قد ساهم مساهمة فعالة في تطويرها ووضع قواعدها. فبتعاملها مع ثقافات مجاورة أعطت اللغة العربية أكثر بكثير مما اخذت.
توضع قواعد لغة ما بعد مرور زمن طويل على ظهورها ووصولها الى درجة من النضج. وتبلغ كل لغة درجة متقدمة من التطور دون الحاجة الى القواعد، حيث يتحدث المتكلمون بها دون العودة للقواعد، بل بحكم التوارث والفطرة.
قد يبدو ثراء اللغة العربية امرا غريبا إزاء كون الجزيرة العربية ذات طبيعة قاحلة، تسود البداوة اغلب مناطقها. ونحن هنا، ومرة اخرى إزاء احتمالين:
الأول هو ان تكون الجزيرة العربية قد شهدت تحولات مناخية أفقرت الطبيعة متأخرا. يدعم هذا، ان صورا فضائية لشبه الجزيرة دلت على وجود سابق لانهار ووديان غمرتها المياه. وحتى ظهور الإسلام وفي القرون التي سبقت ظهوره، نجد شواهد كثير على غزارة الامطار في الشعر العربي. ولولا غزارة المطر، ما صير الى الإشارة الى أنواع عديدة منه كما سنشير في ابيات شعرية ما قبل ـ إسلامية.
الثاني، وهو ما أرجحه: ان الافتقار الى التنوع الشديد من جهة وانفتاح الافاق الشاسعة في الصحراء من جهة ثانية، جعل الناس تمعن في تقصي عمق الأشياء ورصد اختلافاتها كما في أسماء المطر مثلا ودرجات الحب. كان بوسع العربي مراقبة السماء بدون عوائق وكذلك البراري الشاسعة ونباتاتها وتنوع الحيوات فيها. لم يكن التفكير منشغلا في التقصي الافقي انما بالعمودي. وليس غريبا ان نجد ان سكان الصحراء والبدو حتى اليوم يحتفظون بفلسفتهم الخاصة إزاء الحياة والطبيعة تميزت بالتلقائية والصدق وكانت دائما بمنجى عن تراكمات الأفكار الشوهاء التي تغربت عن المراقبة المباشر والتجربة الحسية.
التعليقات