تخيلتُ أنني مواطناً بريتورياً، أبيضَ كالثلج، ولا علاقة لي بنضال الأغلبية. كان يوم عيد، لهذا رحتُ أركل الحجارة الصغيرة، الحجارة التي كانتْ بريتورية بالطبع، لكونها في شارع جانبي من مدينة جوهانسبورغ.

أركل حجارة فقط لا غير، ثم بعد قليل صرتُ أركل حجارة وأفكر: ما معنى أن تكون بريتورياً وتركل حجارة بريتورية في عاصمة بريتوريا؟. مجرد أسئلة معلقة في هواء قاتم أمامي.

بعدها بلحظة، تخيلتُ أنني أسير وسط غابة في الربع الخالي، يبريني الهيئة بملامح استوائية، أعبر الغابة حاملاً سلة خبز، ليس فيها مكان لقطعة خبز واحدة كي تزاحم رؤوس البط التي رتبتها بعناية حتى تتسع لرؤوس خمسة وثلاثين بطة يبرينية، بالطبع ستكون يبرينية بحكم أن البحيرة تقع على طرفة غابة الربع الخالي الشمالية. كنتُ أسير في طريقي فقط لا غير، ثم بعد بضع دقائق كنت أسير في طريقي وأفكر: ما معنى أن تكون مواطناً يبرينياً وتحمل رؤوس بط يبريني وتتجه الى وسط الغابة التي تحتضن كوخ جدتك المريضة، والتي لن يبتلعها الذئب على أية حال، فهي شرسة إلى درجة أن تخافها الذئاب والماعز وعناكب الغابات الاستوائية.
حين وصلتُ كوخ جدتي، طرقتُ الباب ليصلني كالمعتاد صوتها الموهن وكأنه ينبعثُ من قعر جب:

- ادخل يا صغيري
بالمناسبة، احتفلتُ قبل يومين في شوارع جوهانسبورغ بعيد ميلادي الخامس والستين، وشربت مشروبات بريتورية حادة الطعم، وركلتُ حجارة صغيرة.
- جدتي، رؤوس البط.
ضعها بجانب سريري، سيأتي والدك ليقوم بشوائها ثم سيضع عليها الملح ويعلقها في السقف. هكذا ستبقى معي لمدة عام أو أكثر.
- لماذا لا تريدين أن تكوني مواطنة بريتورية يا جدتي؟
- يا صغيري، جئتُ إلى هنا قبل سبعين عاماً، كنت يومها نشطة ولا أزال شابة، ربما في الخامسة والخمسين حينذاك. وهنا تعرفت على جدك، وعشنا في الغابة. بريتوريا لم تعد تعني لي شيئاً.
- متى سيأتي الذئب ليأكلك يا جدتي؟.
- عندما أنتهي من أكل رؤوس البط المجففة يا صغيري.

في اليوم التالي تخيلتني ألتقط حبات الزيتون في جزيرة كريت، الزيتون الكريتي بالطبع، فقط أجمع حبات الزيتون المتناثرة على تلال جبل يحتضن قريتنا، ثم بعد ربع ساعة تقريبا كنت ألتقط حبات الزيتون وأفكر: ما معنى أن تكون مواطناً كريتياً، وتلتقط الزيتون.
..

توفيت جدتي وفاة طبيعية، ودفنتْ على ضفاف بحيرة يبرين في الربع الخالي، حتى يتسنى لها اصطياد البط من البحيرة والاستمتاع بشواء رؤوسها، يقال أن الموتى ينشغلون بتذكر تفاصيل ماضيهم فقط لا غير، ربما ستنشغل جدتي بتذكر تفاصيل حياتها السابقة، وتفكر: ما معنى أن تكون ميتاً يبرينياً ولديك ثلاثة أحفاد يتمتعون بالبلاهة.