إيلاف من لندن: يشكّل كتاب "مراكز الحكم في الجزيرة السورية خلال القرن 18 ق.م - نصوص ودراسة" علامة فارقة في ميدان الدراسات التاريخية للشرق الأدنى القديم، لأنه لا يتعامل مع النصوص القديمة كمادة تفسيرية تابعة للمكتشفات الأثرية أو للسرديات القومية المعاصرة، بل يضعها في قلب البحث، كمصدر أوّلي لا يُتجاوز. أ. د. فاروق إسماعيل، في عمله هذا، لا يعيد رواية التاريخ، بل يعيد تحريره من التأويلات المعاصرة، محكّمه الوحيد هو النص المسماري ذاته، بوصفه الوعاء الوحيد المتاح لتلمّس ملامح البنية السياسية في شمال شرق سوريا في القرن الثامن عشر قبل الميلاد.
النصوص التي يتناولها إسماعيل ليست مجرّد وثائق جافة، بل هي روافد تُغذي مشهدًا معقّدًا من العلاقات الإدارية والسياسية المتفاوتة. وهي تُظهِر أن المنطقة لم تكن تخضع لمنظومة حكم موحّدة أو سلطة مركزية ذات سيطرة مباشرة، بل كانت تتوزع بين مستويات مختلفة من التبعية، تتراوح بين الارتباط الوثيق بمملكة ماري من جهة، والإدارة الذاتية المشروطة من جهة أخرى، إضافة إلى وجود مواقع ذات ولاء متغيّر بحسب السياق السياسي والعسكري.
هذا ما يجعل مصطلح "مركز حكم" الذي اعتمده الباحث ذا دلالة منهجية دقيقة. فهو يرفض اختزال هذه المواقع تحت مظلة "المدن" بما تحمله من إيحاءات مدينية ومعمارية لا تثبتها النصوص. في الواقع، ما يظهر في الوثائق هو مشهد من النقاط الوظيفية المتنوعة: بعضها كان يتولى مهام مراقبة، بعضها لتجميع المحاصيل أو نقاط اتصال عسكري، وبعضها الآخر يخضع لحكم محلي لا يُخفي ولاءه للملك، لكن دون أن يعني ذلك تدخلًا يوميًا من ماري في شؤونه.
الاختلافات في أنماط العلاقة بين هذه المراكز وماري تتجلى في صياغة النصوص ذاتها. أحيانًا نقرأ رسائل تحمل صيغة أوامر مباشرة، وأحيانًا نقرأ مراسلات مبنية على التفاهم والتقرير، وهو ما يشير إلى تنوع طبيعة السلطة من مركز إلى آخر. وهذا ما يرفض معه المؤلف القبول بالتوصيفات العامة، أو الحديث عن شبكة سلطة "مركزية" تحكم كامل المنطقة بشكل متماثل.
من النقاط التي يوليها الباحث اهتمامًا خاصًا، ويصحّح فيها تصورات راسخة، مسألة تعيين الحكام المحليين. فبخلاف ما رُوِّج له في دراسات سابقة، تُظهر النصوص أن هؤلاء لم يكونوا مجرد موظفين معيّنين من ماري، بل في كثير من الحالات كانوا من أبناء المنطقة نفسها، أعلنوا ولاءهم طوعًا للملك، فوافق على استمرارهم في إدارة الموقع. هذه الملاحظة الدقيقة تضعنا أمام صورة واقعية أكثر لطبيعة الحكم، وتفكك الأسطورة القائلة بقبضة مركزية كاملة من قِبل ملوك ماري.
يعالج الكتاب سبعة وعشرين مركزًا سياسيًا موثقًا، بالإضافة إلى إشارات عابرة لمواقع أقل أهمية. وتتوزع هذه المراكز جغرافيًا على كامل الامتداد بين دجلة والفرات، من الشمال الشرقي عند بورولو، وصولًا إلى توتول قرب الرقة. وما يثير الانتباه أن هذا العدد يكاد يتطابق مع عدد النواحي الإدارية في الجزيرة السورية المعاصرة، وإن لم يكن هناك أي محاولة لإسقاط مباشر، إلا أن البنية الشبكية للمراكز توحي باستقرار طويل الأمد لنمط التوزيع المكاني للسلطة.
يتميّز الكتاب أيضًا بموقف نقدي واضح تجاه عدد من الدراسات السابقة، سواء العربية منها أو الأجنبية، والتي لم تلتزم أحيانًا بالدقة النصية، أو وقعت في إسقاطات حديثة على معطيات لا تسمح بذلك. يشير إسماعيل إلى أن بعض الباحثين استسهلوا توصيف مواقع بأنها "مراكز دينية" أو "عواصم محلية" دون سند من النصوص، أو نقلوا مصطلحات من الدراسات الغربية دون التحقق من دلالاتها في السياق الأكدّي. هنا يظهر حرص المؤلف على المصطلح، لا بوصفه تعبيرًا حياديًا، بل أداة تحليل لا تُفهم إلا ضمن منظومة لغوية وسياقية دقيقة.
يعرض الكتاب كل مركز حكم ضمن وحدته الجغرافية، ويجمعه بسياقه السياسي، ثم يختتم كل قسم بتحليل تركيبي يربط بين المراكز، معتمدًا التدرج من الشمال إلى الجنوب، مما يمنح الدراسة نسقًا منطقيًا سهل التتبّع، رغم ثراء التفاصيل. وتدعم الفصول خرائط دقيقة وفهارس مفصلة، تجعل من الكتاب مرجعًا موثوقًا في هذا المجال.
لكن أهمية هذا العمل لا تقتصر على مضمونه، بل تتسع لتشمل المشروع العلمي الذي ينتمي إليه. فالمؤلف لا يكتب بحثًا معزولًا، بل ينفّذ خطة طويلة الأمد لنشر الوثائق الأكدية التي ظلت حبيسة اللغات الأجنبية أو محفوظة في الأرشيفات. وقد أعلنت دار الزمان أن هذا الكتاب سيكون الأول في سلسلة من أربعة كتب، ستصدر تباعًا، وتحتوي على مئات النصوص، خصوصًا المراسلات الملكية التي تكشف جانبًا غير مطروق من العلاقات السياسية والإدارية في الألف الثاني قبل الميلاد.
بهذا المعنى، لا يُعدّ الكتاب مساهمة فردية فحسب، بل بداية إعادة تأسيس للكتابة التاريخية عن الجزيرة السورية، كتابة تقوم على الوثيقة، لا على الاستعادة العاطفية أو التراكم الثانوي.
فاروق إسماعيل، مراكز الحكم في الجزيرة السورية خلال القرن 18 ق.م – نصوص ودراسة، دمشق: دار الزمان، 2025، 520 صفحة. الكتاب يوزع في القاهرة مكتبة إضاءات
التعليقات