رميلان (سوريا): اعتاد عبد الكريم مطر على رائحة كريهة تنبعث من نهر صغير يمر قرب منزله ومياه ملوّثة أتت على محصوله الزراعي وحتى على ماشيته جراء بقع نفط ضخمة تسرّبت من إحدى المنشآت القريبة في شمال شرق سوريا.

في محيط منطقة رميلان الغنية بالنفط ومنشآت تكريره اليدوية، والتي تخضع منذ سنوات لسيطرة الإدارة الذاتية الكردية، باتت التسرّبات النفطية جزءاً من حياة مواطنين يعتاشون بشكل أساسي من الأراضي الزراعية ورعاية الماشية. وبات أقصى ما يتمنونه اليوم ألا تقضي على المزيد من الأغنام أو محاصيلهم وتؤثر سلباً على صحتهم وصحة أطفالهم.

في قرية أبو حجر، يقول مطر (48 عاماً) "يؤثر هذا النهر على الأراضي الزراعية والمياه الجوفية، وتنبعث منه بشكل دائم روائح الغاز الذي يُسبب بخمول لدى الأهالي".

يخرج مطر هاتفه الخلوي ويشير إلى صور التقطها تظهر أرضه وقد تلفت ثمار البطيخ فيها.

ويشرح "يؤثّر النهر على المحاصيل الصيفية كالقطن والبطيخ والخضار، كما يتسبب بتكاثر الحشرات والذباب، وأصبح بؤرة للأمراض خصوصاً الجلدية"، موضحاً أن تسربات النفط تجتاح الأراضي الزراعية وتبقى فيها بعد فيضان النهر في فصل الشتاء.

ويقول "تضرّر الكثير من المزارعين، حتى أن خيولاً عربية أصيلة نفقت".

ويضم حقل رميلان الجزء الأكبر من الآبار النفطية الموجودة في محافظة الحسكة، وهو واحد من حقول الغاز والنفط الكبرى التي تسيطر عليها الإدارة الكردية. وتوقف العمل فيه عام 2012، إثر انسحاب قوات النظام منه وبسط المقاتلين الأكراد سيطرتهم على المنطقة قبل أن يعيدوا تشغيله معتمدين على وسائل وإمكانيات بسيطة. وقد تمّ إنشاء مصاف بدائية وحراقات صغيرة محلية الصنع لتكرير النفط.

وتوجد في المنطقة جداول وأنهر صغيرة عدة يصبّ بعضها في نهر الخابور.

ولتلك المنشآت أثار كبيرة على البيئة، سواء الهواء أو التربة أو المياه. وبحسب تقرير لمنظمة "باكس للسلام" الهولندية المعنية بأبحاث عن النزاعات والسلام، أصدرته في يونيو، تدور شكوك منذ عام 2014 عن تسربات نفطية من أحد منشآت التخزين قرب قرية تل عدس في منطقة رميلان.

وسُجل آخر حادث في مارس الماضي، حين تسبّب أنبوب مكسور بتسرّب كبير طالت أضراره أراض واسعة في المنطقة تقدّر مساحتها بـ 18 ألف متر مكعب.

على مر السنوات الماضية، بحسب "باكس" والشريك المؤسس لموقع "تانكر تراكرز"، الذي يتعقّب ناقلات النفط، سمير مدني، تسربت آلاف البراميل النفطية إلى النهر لتهدد عشرات القرى والبلدات على ضفافه.

أغنام "سوداء"

وتفاقمت خشية الأهالي خصوصاً بعد تسرّب من محطة تل عدس إلى النهر الذي يخترق العديد من القرى بينها السكيرية.

على أطراف القرية ذات المنازل الطينية الصغيرة، ينتظر حسن عبد المحمد بقلق عودة قطيعه، أملاً ألا تعود أغنامه هذه المرة سوداء اللون، مشيراً إلى أنه تمكن من إنقاذ اثنتين بصعوبة سقطتا في المستنقعات السوداء التي تركها النهر خلفه في الأراضي.

ويقول الشاب وهو في الثلاثينات من العمر "بعد الأزمة، باتت المياه المتدفقة من منطقة تل عدس ملوّثة ومليئة بالنفط، وأغنامنا هي أكثر المتضررين"، مضيفاً "تفوح رائحة النفط والغاز الكريهة بقوة في وقت المغرب".

يتجمع حول عبد المحمد عدد من أهالي القرية يتحدثون عن المعاناة ذاتها. ويروي بعضهم كيف نفقت أبقاره بعدما شربت من المياه الملوثة.

ولا يقتصر الأمر على المحاصيل والماشية، إذ تطال الأضرار الأطفال أيضاً. ويوضح عبد المحمد "غالباً ما نأخذ الأطفال إلى الطبيب ليضعهم على آلات التنفس الاصطناعي جراء الحساسية التي تتسبّب بها الروائح والأوساخ الموجودة في الوادي حيث يمر النهر وبقع النفط".

وبحسب معد تقرير "باكس" ويم زويننبرغ، يُرجّح أن يتسبب النهر أيضاً بتلوث المياه الجوفية في المناطق الواقعة على ضفاف النهر، ما يعيق قدرة سكان المنطقة على الوصول إلى مصادر مياه نظيفة، وهو ما يشكل ضرورة قصوى اليوم مع تفشي فيروس كورونا المستجد، وإن كانت المنطقة الواقعة تحت سيطرة الأكراد سجّلت ست إصابات فقط، وفق الأمم المتحدة.

قنبلة موقوتة

وتُعتمد آليات استخراج وتكرير يدوية، ما يفاقم أزمة التلوث في المنطقة، التي تقع قربها قاعدة للقوات أميركية المنضوية في صفوف التحالف الدولي بقيادة واشنطن.

وتقول نائبة مسؤول البيئة في الإدارة الذاتية بريفان عمر لفرانس برس "إنها إحدى المشاكل البيئية الكبرى، لكن الحلول في الوقت الحالي صعبة وتحتاج لإمكانيات مادية كبيرة ولخبرة" غير متوفرة، في ظل غياب أي دعم خارجي يمكّنهم من تطوير قدراتهم.

بين الحين والآخر، تعبر صهاريج النفط الخام من محطة تل عدس إلى حراقات يدوية في محيط القرى المجاورة، يتم فيها تحويل النفط الخام إلى بنزين وكاز ومازوت.

وتتصاعد من ريف مدينة القحطانية أعمدة الدخان الأسود من عشرات الحراقات البدائية حيث يعمل رجال تشققت أياديهم واتشحت ثيابهم بالسواد، يلفون وجوههم بأوشحة علّها تخفف من تنشقهم للرائحة المنبعثة من حولهم.

بعدما احترقت رجله خلال عمله وباتت آلام الرأس لا تفارقه، حاول أحمد التاجر (37 عاماً) البحث عن وظيفة أخرى، لكنّه لم يوفّق.

ويقول "أعلم أن العمل هنا خطر لكنني مجبور". ويضيف "هذه الحراقة عبارة عن قنبلة مضغوطة ولا نعرف متى تنفجر فينا".