عصام سحمراني :"…عيسى سلمان.. سبعة أيّام حبساً". وإنتقلت مع المحكومين إلى غرفة مضيافة تعرّفنا بها ساعة الغداء . وما أتعس الغداء داخل حرم المحكمة العسكرية في بيروت حيث تكدست رؤوس أربعون فوق وعاء فاصوليا ينهلون منه ما آستطاعوا به لسدّ جوع الساعات التسع الماضية التي امضوها في قاعة المحكمة يستمعون حيناً لمحاكمات أمثالهم من المتعاملين مع إسرائيل ، أو المهرّبين في مرفأ بيروت ، أو المتخلفين عن خدمة العلم _ كحالتي_ ويرافعون حيناً آخر عن أنفسهم أمام مجرّة من نجوم لا يصحّ الخطأ أمامها بأيّ شكل من الأشكال.
وهذه الغرفة ، ببابها الحديدي العتيد وفتحته الصغيرة المثقوبة الأنحاء، التي لا تفتح إلاّ بأمر من رتيب الشرطة العسكرية بناءً لإنضباطنا في الداخل، وبجدرانها المتآكلة العفنة، والحمّام المتواجد فيها – أو ربّما العكس – المسدود المجرى، والتدخين الكثيف وضيق مساحتها نسبة لأربعين شخصاً لم تتسع لهم سوى وقوفاً ، كانت مثالاً حيّاً لسجون الشرطة العسكرية فقد كانت "مشحرة" بكل ما للكلمة من معان سلبية.
خرجنا مغلولين كلّ إلى سجنه المحدّد وكانت مجموعتي تضمّ – بالإضافة لي – أربعة مجندين آخرين حكم عليهم الحكم نفسه. كبّلت يداي بأيدي الآخرين فصرنا سلسلة بشرية طويلة لفتت أنظار المدنيّين في محيط المحكمة العسكرية. إنطلقنا بالشاحنة مع رفقة طيّبة من أفراد الشرطة نحو سجننا في إحدى الثكنات العتيدة.
سلمّنا أغراضنا الشخصيّة ، وآستلمنا فرشاً عفنة . وكانت البداية…
نمنا كلّ في الزاوية التي آختارها ، نحاور الأطياف ونطير مع الذكريات المتاخمة للسجن ، فنتمتع بها قبل أن تمضي الأيّام حاملةً في طيّاتها السهو لكلّ ما في العالم الخارجي.
تحين ساعة الغداء، والكلّ متلهّف لسماع صوت الباب الحديدي في الطابق الأعلى للسجن يتعالى صريره ثمّ يغلق بسرعة قياسية معلناً إغلاق البصيص الذي نفذ إلينا صدفةً من الخارج.
يتنوّع الغداء من يوم إلى آخر . لكن دعونا نتفق على أمر معيّن في البداية، وهو أنّ طعام الجيش لا يؤكل في الأصل ! فكيف به إذا مرّ الوعاء أمام المجنّدين في الخارج ، ثمّ أمام الرتباء الثلاثة نزلاء الطابق الأعلى، ليصل بعدها إلينا – كما حدث في اليوم الثالث مثلاً – عوضاً عن الدجاج مع الأرزّ مع السلطة واللبن ، فقد كان الطبق حين وثل الينا دجاجً بأرزّ بسلطة بلبنٍ ؛" وكلوا من طيبات ما رزقناكم" والعنوا الجيش.
من هنا لم نشهد ذلك التنوّع اليومي في الطعام ، حيث إنّ المزج الكلّي كان يعطي البازيلا أو الفاصوليا النكهة نفسها التي يتمتع بها الدجاج أو غيره.
نعود للنوم ؛ سلوانا الوحيدة ، فينام رفاقي بينما أنصت لصوت الصمت تقطعه عليّ بعض المرّات قرقعة معدة فارغة إلاّ من بعض الفتات.
بعدها يتأخّر الوقت فيسلّم الذباب نوبته للبرغش. وباتت أجسامنا من جرّاء ذلك التسليم لا تستهويه في اليومين الأخيرين حيث لم يعد فيها مكان للسعاته. ناهيكم عن الصراصير المنتشرة هناك والتي آخيناها كي نستطيع النوم في ذلك المكان.
أيّام توائم تنازع فيها الساعة نزوع الميت وقت إحتضاره. لكنّ الأمر الحسن كان المدّة القصيرة التي حكم علينا بها. فلو كان عكس ذلك لكنّا أضعنا الليل والنهار واحترنا بينهما، لا لأنّنا اختبرنا عتمة السجون ، بل – وعلى العكس من ذلك – لأنّنا اختبرنا أنوار السجون! نعم أنوار السجون ومن طراز ثمانية بريجيكتورات قدرة واحدها 750 واط. فكان النور نقمة علينا جعلت المياه تخرج من أجسامنا غزيرة حتّى خلال النوم. وقد حاولنا حلّ تلك المشكلة عبر تغطية الشبابيك التي تفصلنا عن البريجيكتورات بواسطة ستراتنا العسكرية. وبإمكانكم أن تخمّنوا هشاشة السترات مكان وقوع الضوء عليها بعد مضيّ عدّة ساعات.
بعد الغداء مباشرةً تحلّ جلسة التنفس الإصطناعي، حين تصل شاحنات الجيش إلى موقفها المطلّ على نوافذ السجن الضيّقة. وتحمل إلينا كلّ يوم روائح المازوت الصحية كي لا تبعدنا عن جوّ لبنان الخارجي. نصاب حينها بضيق تنفس سرعان ما يتحوّل إلى إختناق كلّي عندما تركن شاحنة النفايات – وما أدراك ما نفايات الجيش – في مكانها المعتاد.
نجلس في زوايانا المعتادة. ننظر نحو بعضنا البعض. قد نتكلم ، لكنّنا نكتشف أنّ الأحاديث نفسها تتكرر كلّ نهار.نحاول استذكار بعض الأغاني فلا نفلح . نلعب اللعبة التي ابتدعناها من بذور المشمش؛ اللاقوط – وقد تعلّمتها في السجن .
ننظر إلى الجدران المهترئة ونقرأ عدداً من الأسماء ؛ أبو زهرة ، مشيك، ديب، نعمة … فنطمئن أنفسنا أنّ هنالك أملاً ما بمضيّ الوقت كما مرّ عند أولئك السابقين.
وأنا في هذا الجوّ أتذكّر مكان خدمتي السابق؛ والأيّام التي أمضيتها في تلك الصحراء القاحلة إلاّ من الأوامر العسكرية الإستفزازيّة، والذلّ، والتشرّد في غرف خجل الرحّل من السكن فيها.
حين أتذكّر خدمتي العسكرية أتمنى أن تطول إقامتي في السجن وأشكر ربّي على وجودي فيه. حيث أجد السجن العادي أفضل بمئات المرّات من سجن الأشغال الشاقّة.
… فما نفع الهواء الطلق حين لا نستطيع تنفّسه؟