رسالة أخيرة على حافة الموت..
اتركوني أعيش حرا ‼
نورالهدى غولي:لم يكن فعل الانتحار قبل سنوات قليلة بالكثرة ولا بالتساهل الذي هو عليه الآن، فقد كانت المدينة تشتعل بالأسئلة والاستفسارات عن سبب قتل الروح الذي يلجأ إليه الشباب ويجتاح السخط النفوس ..فان كان الاستنكار والدهشة وعدم التقبل الكلي لهكذا فعل يسيطر على المجتمع فانه تحول اليوم الى quot;الفعل العادي quot; بسبب التكرار الذي أزاح هامش الغرابة والحيرة.
في وقت مضى كانت عائلة المنتحر تشعر بالعار الكبير عقب الحادث الذّي يضطرها في مرات كثيرة إلى حزم أمتعتها والرحيل عن المكان لدرء العار والابتعاد عن النحس الذي جلب لهم مثل تلك quot;المصيبةquot;، يدفن المنتحر من دون الصلاة عليه، ولا يتلقى كلمات رحمة ولا أيّ نوع من التعاطف، مادام الفاعل هو الذي جنى على نفسه، مهما كانت الظروف التي دفعته للانتحار.
اليوم، ومع تزايد هذه الظاهرة عوضا عن انحسارها، وبسبب تزايد الوعي صار المختصين والمهتمين بحيثيات واسباب هذه الظواهر الاجتماعية يصرّون على طرح الموضوع بكل جديّة للمناقشة والسعي لايجاد الحول عوضا عن التستّر والخفاء والاختباء خلف تصنيفها بالـquot;طابوهاتquot; التي لا يجب الاقتراب منها بحجة تحريم الخوض في مثل هذه المواضيع الخطيرة.. إذ يشبه حال المبتعدين عن مناقشة هذه الآفة المستفحلة في المجتمع بحال الزرافة التي تغمض عينيها عند اقتراب الخطر المحدّق بها. هي لا تتحاشى الضربة المتجهة نحوها، وإنما تعالج الأمر بسطحية غريبة.
أخطر ما في هذه القضية هو التستر عن هذه المعضلة المتواترة، الأمر الذي يزيد الامر سوءا . وقد لاحظ عدد من الباحثين بعض الاختلاف في تعامل الإناث والذكور مع حالات الانتحار، ففي الوقت الذي تلجأ فيه الفتيات إلى تناول مواد سائلة خطيرة، فإن الشبان غالبا ما ينفذون مخططهم الانتحاري باعتماد الامكان المرتفعة والبنايات العالية التي تتضمن لهم بشكل قطعي .
معظم حالات الانتحار التي يتم رصدها في مناطق مختلفة في الجزائر هي تنحصر في سن المراهقة التي يعيش فيها المرء نوعا من الفراغ الذي يصاحبه الكثير من الأسئلة والاستفسارات المعلّقة، اضافة الى التغيرات النفسية والجسدية ما يزيد من حدّة شعور المراهق بالخطر المحدّق به..
عدا هذه الهوامش المشتّتة لذهن الفرد في تلك المرحلة، فإنّ سوء تعامل الأهل والمجتمع بصفة عامة مع هؤلاء الذين يمرّون بمرحلة عمرية حساسة جدا سيزيد من الطين بلّة، ومعه سيشعر المراهق أنه عضو زائد في تركيبة المجتمع، خاصة إذا ما قوبلت كل رغباته وطموحاته بالرفض والنهيّ الحاد.
بيّنت دراسة أكاديمية لخبيرة نفسية جزائرية أنّ ردّ فعل البنت عقب حالة من حالات اليأس يكون أكثر عقلانية من تلك المتعلقة بالذكور إذ تلجأ الفتاة إلى نوع من الحيلة لحل المعضلة التي ترى نفسها حبيسة شباكها، فتقدم على تناول مواد معينة تؤخذ على إثرها إلى المستشفى من أجل المعالجة والغسيل التّام للمعدة.. وعليه منح إشارة واضحة للأهل منبّهة اياهم للوضع الكارثي الذي تعيشه والذي يحتاج إلى أكثر من التفاتة.
في المقابل فان حالات اليأس عن الذكور غالبا ما تكون أكثر درامية بسبب استحالة إنقاذ الشاب المنتحر، فالحال هذه المرة يختلف كثيرا عن السابق، وذلك أنّ رغبة الذكور في الانتحار تكون منبثقة من منطلق quot;فحوليquot; خاطئ، فهو لا يريد أن يستدرّ عطف الآخرين من أجل معالجة مشكلة يعتبرها quot;شخصيةquot; بالدرجة الأولى، وعليه فهو يقدم على الانتحار من أجل حلّ جذري للمشكلة _طبعا كما يراها هو_ بعد أن تملكه اليأس من كلّ السبل الكفيلة بمنحه حقه المشروع..
سعاد، فتاة في الثالثة والعشرين من العمر، استنفذت كل الوسائل لإقناع أهلها بمواصلة دراسة الموسيقى، الأمر الذي رفضه الجميع . فلم تستطع أن تحتمل رؤية احلامها تذوي وتختنق امامها ، فأقدمت ذات مساء على تناول مادة خطرة غير مميتة ولم تستيقظ إلا بعد غسيل تام لمعدتها في المستشفى، وحولها كانت عائلتها التي رضخت لطلب البنت بعد لوم وعتاب.
الا ان هذه الساليب التحذيرية لا تجدي نفعا لدى الذكور،فهم يريدون تنفيذ انتحارهم بشكل تام ولا يعنيهم لا من قريب او بعيد وسائل الانتحار غير المضمونة.وعليه فان الجسور تعتبر من المواقعquot;الاكثر شهرةquot; للانتحار،فان لم يمت المقدم على الانتحار من شدة الارتفاع فان ، فإن (الواد)/ الماء المترصبة لهم في الأسفل لن تمنحهم فرصة جديدة، وسيقضي عليهم أحد الخطرين لا محالة..
ومع الحديث عن درجة الوعي التي يمتلكها الذكور والإناث، ترتفع بصورة أكبر فكرة نزعة الحياة من أصلها، وهي فطرة متساوية عند كل بني البشر، وعليه تغدو حقيقة الانتحار أمرا أكثر من جريمة بحق النفس، مادام الوضع المتربص بالفرد يكاد يكون نفسه عند الجميع. مع بعض أو كثير من الاختلافات التي يتجاوزها المرء إذا ما فكّر في وضعه بعقلانية أكثر.. لكن أنّى للمراهق بوعي نوعي يمنع عنه شدّة الصدمات وصعوبة التغيّرات التي تطرأ عليه؟
لهذا فإنّه لا مناص من التأكيد على ضرورة ايلاء الاهتمام اللازم لهذه الفئة، التي يبنى عليها أساسا جيل مستقبلي يراهن عليه الوطن، بعيدا عن كلّ شعور بالنقص والدونية، وبعيدا خاصة عن كل قيد يضيق من الفعل والحركة عند من هو في فورة العطاء والقول.
التعليقات