عندما تكون القوة هي لغة التفاهم الوحيدة
شريعة الغاب في مصر

أحمد عبد المنعم : لم تكن المعركة الحربية التي دارت رحاها في شارع بوليس حنا الذى يتوسط حي الدقي ndash; أحد اكثر أحياء القاهرة رقيا - صباح السبت الماضي واستمرت على مدى ست ساعات متواصلة بالحادث العابر الذي يزول من الذاكرة سريعا .

ولم يكن تصرف الدكتور نعمان جمعة رئيس حزب الوفد المخلوع باصطحاب مجموعة من أنصاره واقتحام المقر بقوة الأسلحة النارية سوى الطريقة التى باتت معتادة لانتزاع منصب أو الفوز بحصانة فى بلد السبعين مليون نسمة .

فاللجوء الى القوة واعتماد شريعة الغاب لم يعد مستغربا ، بل بات أمرا متوقعا عند انطلاق شرارة الخلاف بين طرفين حول منصب عام ، خاصة وان المصطلح الأخير لا يهدف الى خدمة الجماهير بقدر ما يهدف الى المظاهر والسعي الى استغلال النفوذ الذي تمنحه السلطة .


وأمام هذا النفوذ وتلك المظاهر يهون كل شيء حتى ولو كانت دماء عشرات من الأبرياء الذين لا ذنب لهم .

كان بالفعل مشهدا مروعا ولن يغيب عن ذاكرة المصريين ربما لسنوات طوال . جمعة يقتحم مقر الحزب ومعه عصبة من رجاله شاهرين الأسلحة النارية والبيضاء مصممين على المضي قدما فى طريقهم حتى وان كان الثمن اطلاق الرصاص الحي على الصحفيين العزل المتجهين الى مقر عملهم في الجريدة الناطقة بلسان الحزب .لم يتمالك البعض نفسه فأخذ يبكي كالأطفال عندما شاهد زملاءه يسقطون الواحد تلو الآخر برصاص المقتحمين .حولوا مقر الحزب الى ما يشبه الثكنة العسكرية ، الداخل مفقود والخارج أيضا مفقود . أكثر من 23 شخصا بين صحفي واداري يرقدون الآن في المستشفيات بعضهم فى حالة خطرة لا لذنب اقترفوه سوى أنهم قرروا الذهاب الى عملهم كما كل صباح ، وعندما فوجئوا باحتلال مقر عملهم أصروا على الدخول رافضين الخضوع أو الاستسلام فسقطوا على الأرض برصاص الغزاة لتظل قامتهم مرفوعة في السماء .

نقلوا داخل سيارات الاسعاف فى مشهد اعتاد المصريون مشاهدته على شاشات التلفزيون للجرحى الفلسطينيين .وهكذا استمرت المعركة - بطرفها الواحد - لست ساعات دون أن يحرك أي من أفراد الأمن الذين أحاطوا بالمقر ساكنا . فالأوامر بالتدخل لم تصل اليهم بعد . كيف يتدخلوا ؟! وماذا عليهم أن يفعلوا ؟! وأي طرف سيساندون ؟! . حالت تلك الأسئلة الشائكة دون تدخل أجهزة الأمن لوقف نزيف الدم السائل . وبعد أن اختلطت دماء الصحفيين بأقلامهم فى مشهد ميلودرامي جاء قرار النائب العام بالقاء القبض على نعمان جمعة وأنصاره .وبعد ذلك الحادث بيومين استيقظت لجنة شؤون الأحزاب من سباتها العميق لتحسم أزمة الصراع على رئاسة حزب الوفد وتعترف بقرارات الجمعية العمومية التى سبق أن عقدتها جبهة الاصلاحيين بالوفد وانتخبت خلالها مصطفى الطويل رئيسا للحزب .

احتاجت لجنة شؤون الأحزاب لنهر من الدم فى معقل الليبرالية المصرية لتحسم الصراع الذى ظل محتدما طيلة خمسة أشهر متتالية . صمتت لجنة شؤون الأحزاب دهرا ونطقت كفرا، فقرار الاعتراف بنتائج الجمعية العمومية لا يدخل ضمن صلاحياتها ولكنه جاء بمثابة محاولة يائسة لاخماد النيران المشتعلة فى قلوب الجرحى وذويهم وفي قلوب ملايين المصريين الذين هالهم ما رأوه على شاشات التلفزة. الوقوف الى جانب جبهة الاصلاحيين فى الوفد مقابل دماء الصحفيين .. هكذا ارتأت لجنة شؤون الأحزاب . مقايضة قد تكون جيدة بالنسبة للبعض ولكنها قطعا ليست كذلك لمن فقد ساقه أو يده أو اضطر للتنازل عن جزء آخر من جسده فى تلك المعركة التى كتب عليه خوضها دون أن يكون له فيها ناقة ولا جمل . لكن وكما يقال ليس باليد حيلة ..فما هو فاعل الان ؟ . لا شيء فعلا سوى ندب حظه العاثر الذي أوقعه فى بلد لا تعترف الا بالقوة كلغة تفاهم وحيدة .ولا يملك ..ولا نملك نحن معه ، سوى الصبر والدعاء الى الله كي يرفع البلاء عنا .. ولأن السماء لا تستجيب للضعفاء فلن يكون أمامنا سوى الاستسلام لشريعة الغاب ودراسة قوانينها علنا نلجأ اليها يوما عندما نتأكد جميعا أنها لغة التفاهم الوحيدة في أرض الكنانة !!