نسرين عزالدين: وفجأة تظهر صورة دودة بعينين واضحتين واسنان كبيرة مقارنة بتصورك لحجم الدودة . يضع الطبيب مسطرته على اسنانها ويقول لك منفعلا quot;هذه الدودة تعيش في جسدك quot;.تقلب شفتيك امتعاضا ، انت تعلم انه لا بد ان قام بتكبير حجم الصورة مئات المرات كي يرعبك فقط .
quot;هل تعاني من صداع مزمن quot;. تهز برأسك ايجابا .
quot;هل تعاني من قلة الشهية ..لا تحب الطعام . تشعر بإرهاق دائم .تغضب بسرعة quot;..تتابع هز رأسك إيجابا فيعاجلك بإنفعال اكبر quot; كل هذا بسبب هذه الدودة quot;.
تشعر برغبة عارمة في سلخ جلدك عن جسدك او شرب سائل ما يذيب كل ما قد يقطن في جسدك .
يهرع الطبيب الى صور اخرى اكثر رعبا من الاولى وهنا ينفذ صبرك فتقلب المحطة سريعا لاعنا الطبيب والدود والدواء اللعين الذي يسعى لترويجه.
تواصل تنقلك بين المحطات ..السخافة المعتادة .
نشرات اخبار .. تصريحات متتالية تهديد ووعيد وتكرار ما قيل مئات المرات سابقا ، حوار لا حوار ، خرائط جنبلاط وسلاح المقاومة والـ1559 والمخيمات الفلسطينية مزارع شبعا وترسيم الحدود وسوريا .
وبحكم فضولك كلبناني _وان كنت قد قررت منح نفسك اجازة طويلة من كل ما يحدث ومن نشرات الاخبار_تجد نفسك ملزما بالمتابعة بين حين وآخر . فهم لم يملوا بعد ، ما زالوا بنفس الحماسة ..اما انت فمللتهم جميعا ومللت تصريحاتهم وشجاراتهم وبياناتهم وبياناتهم المضادة وظهورهم المتكرر على التلفاز وعلى صفحات الجرائد .. لذلك تتابع الطبيب وديدانه التي على قرفها افضل واجمل من كل ما يحدث .

تلجأ الى الجرائد _هربا من صوت وصورة السياسين والانحياز الاعمى لكل نشرات الاخبار _كمصدر اقل ازعاجا، فهي على انحيازها المماثل للتلفزيونات تظل اقل وطأة ، فانعدام الصوت والصورة يخففان من حدة الازعاج.
تقلب بين صفحات الجرائد ، تقرأ هنا وهناك .مقالات وتحليلات وتحقيقات لاشخاص كما يقال quot;من ما هب ودبquot; .
تقلب شفتيك بالامتعاض نفسه الذي باغتك حين رأيت الدودة .
..من النافذة يمكنك رؤية السماء الملبدة بالغيوم ، لم يستقر الربيع بثقله بعد .
تبدو الامور على ما يرام في الخارج، فالشوارع تغص بالسيارات وقريبا ستغص بالناس أيضا.تمر بين حين اخر سيارة ثورية تصدح بأناشيد الحرية وقد تطربك احيانا في ساعات الفجر الاولى.. ثم يطربك اخر بشتائم تنهال على صاحب السيارة ، فيرد بالمثل ..وتتواصل الشتائم الا انه لا يترجل من السيارة لاخذ حقه بيده.. هل لانه حضاري لا يؤمن بالعنف؟ من المرجح ان الجواب سيكون لا . فهو سيعود قريبا بطابور من السيارات quot;الثوريةquot; لاعادة تبادل الشتائم وحينها قد يترجل من السيارة.
وهكذا تتكرر القصة يوميا ..وصاحب السيارة واسطوله ومطلق الشتائم واسطوله ما زالوا يتمتعون بالقدرة على تكرار نفس الاحداث بالترتيب نفسه.
تراقبهم وتتمنى لو يتم هذا العراك الازلي وتنتهي يومياتهم هذه. فليتعاركوا ويتقاتلوا بأيديهم أو بالاسلحة لا فرق.. فلينفسوا عن طائفيتهم وعنصريتهم وتعصبهم لعلهم حينها يدركون سخفهم وغبائهم لانقيادهم خلف تحريضات زعمائهم .ولعلهم ينتبهون الى فقرهم والى عجزهم وعجز دولتهم ، ولعلهم يبدأون البحث عن حكومة أخرى تقوم بخدمتهم بدل استعبادهم .
يراودك بين حين اخر شعور بالغضب العارم من الشعب اللبناني، تضحك وانت تصرح عن رغبتك بإقامة دعوى ضد الشعب الذي ينتخب هكذا حكومات تنهب شعبها ..انت لم تنتخب يوما ولن تنتخب.فليتحمل من اتى بهم مسؤولية خيارهم وليتم تحريرك من الديون التي فرضتها عليك الدولة ومن ضرائبها وفواتيرها وبدعاتها المتواصلة .
ولانك لبناني فمن الطبيعي ان ينقلب مزاجك بسرعة فائقة ، فتقرر الثرثرة قليلا على الهاتف، تتصل بصديق كي تمضي بضع دقائق في المزاج.
وهكذا يتحول مسار الحديث كالعادة . يخبرك صديقك عن نظرية سياسية جديدة له عن إسرائيل هذه المرة وكيف لا يراها عدوا لانه quot;قرفquot; من لازمة العروبة ولم يعد تؤمن بالقضية الفلسطينية . فلماذا يجب ان تكون اسرائيل هي العدو.

لا عليك لا تستغرب فهو ليس وحده بل هناك الآف ممن يتبنون نظريته ، فالعداء لاسرائيل تحول مؤخرا في لبنان _ ان لم يكن منذ البداية _ الى امر يخص الشيعة تحديدا واهل الجنوب وحزب الله.
تنفعل ..تغضب منه ، تبسط له الامور .تروي له قصصا بعضها شهدتها بنفسك وبعضها الاخر سمعت عنها . تحكي له عن منزلك وعن جيرانك وعن الاجتياح وما فعلوه بك وبأهل قريتك. تروي له كيف وقفت كطفل تشاهد الدبابات الاسرائيلية تطحن اجسادا أرغمت على اعتراض طريقها.وعن عجوز هرع للاطمئنان على محصوله في حديقة منزله فاخترقت رصاصة رأسه.تذكره بإعتداءات نيسان وقانا والمنصورة والنبطية .
ويأتيك جوابه ..لعل من شاهد يشعر بالعداء اكثر ممن لم يشاهد .
تصمت لم يعد هناك ما يقال .لم يعد لديك ما تقوله ..فكما مرت ذكرى قانا والمنصورة واعتداءات نيسان برمتها من دون ضجة تذكر على رغبتك في الانفعال ان تصمت هي الاخرى.

تعود الى عزلة منزلك ، حيث تشعر بالطمأنينة .توصد الباب على كل ما هو مقيت في الخارج فلا يطالك شر احد.
هناك في الداخل يخطو مجد الصغير خطواته الاولى ، لكن مجد يعاني من رهاب الارض الصلبة فيرفض رفضا قاطعا السير عليها و يفضل ممارسة شغفه الجديد بالمشي داخل سريره . هو يعلم انه لن يصاب بمكروه لو تعثرت خطواته هناك .
هذا الحرص يتلاشى وبشكل غبي جدا حين يقرر القفز من كرسيه.
يبكي. ثم يعيد الكرة.
هو لا يعرف ان الارض صلبة حتى يطأها..ولا بعرف وهو متربع على كرسيه ان الارض تحته حتى يرتطم بها .
مجد لا يعرف الى الان انه لبناني ..غدا على والديه اعلامه بذلك ومن المرجح ان ردة فعله ستكون القفز من كرسيه مجددا .
لكن لمجد والدة تهرع اليه حين يقع ، تحمله وتقبله وتخفف المه ..ولمجد والد يخاف عليه ويساعده على السير باعتدال.
اما لبنان فلا ام ولا اب له.. وحين يقع ارضا لن يهرع اليه احد ولن يمسح دموعه احد.
سيخرج اولاده من احشائه ويدوسونه فهم ما لبثوا quot;ينطنطونquot; حوله كي يسقط ..ولن يتأخر كثيرا بالسقوط.
هي مسألة وقت لا أكثر..