أمطار آب تغسل وجه المكان
عودة الحياة الطبيعية إلى أجواء الضاحية الجنوبية

تصوير عصام سحمراني من ضاحية بيروت الجنوبية

إذن دخول إلى حارة حريك وبئرالعبد حيث أعمال إزالة الردم_خاص إيلاف

عصام سحمراني : نفضت الضاحية الجنوبية الغبار عن نفسها بعد أكثر من شهر من الصمود البطولي. صمود بوجه آلة تدمير لا ترحم وزّعت بصماتها الحاقدة على المباني المدنية للمكان الذي تشتت أضلاعه. مجزرة من هنا ومجزرة من هناك وبقيت الضاحية الجنوبية وستبقى رمحاً في أعناقهم عصيّة عليهم أجمعين.

وهطلت أمطار آب في غير موعدها لتغسل سماء المكان بَركة وكأنّها هدية السماء للأهالي الذين عادوا إلى ضاحيتهم يمارسون نشاطاتهم شبه المعتادة ويتأقلمون مع الأوضاع الجديدة تماماً. شهداء، جرحى، دمار، كهرباء مقطوعة، عجقة سير، تطوّع.. وآمال كبيرة بإعادة إعمار كلّ شيء أفضل ممّا كان. تلك هي روح الضاحية الجنوبية التي لها وليس لسواها طائر الفينيق المزعوم.

عودة حياة
quot;آه يا أبو عدنان آه كيف استهديت على مكان الخزانة!!؟quot; يطلق شاب صرخته التعجبية وسط أصحاب له كانوا يراقبون جارهم وهو يتسلّق ركام ما كان بناية يسكنها في أحد شوارع بئر العبد التي يمنع الدخول إليها إلاّ بموجب إذن دخول صادر عن عن إحدى هيئات حزب الله. أبو عدنان كان ينقذ مع ولديه ما استطاعوا من ملابس رسمية لا زالت في أكياسها التي وضّبها أبو عدنان فيها قبل تركه للمنطقة. هو استغلّ غياب المهندسين المشرفين على إزالة الردم بجرافات عمالهم وآلاتهم الثقيلة ليصل إلى ثروته الباقية؛ quot;هذا كلّ ما بقي لناquot; يتحسر.

تشييع شهيدين لحزب الله في روضة الشهيدين_خاص إيلاف
إذاً فقد تشرّد آلاف من سكّان الضاحية الجنوبية دون أن ينقذوا حتّى ما أنقذه أبو عدنان. لكنّ ذلك لم يشكّل سوى عقبة حلّت بالنسبة لكثيرين منهم مع تحقيق وعد التعويضات الذي أطلقته قيادة الحزب. وقد شملت التعويضات الأوّلية كلاً من مالكي المنازل والشقق ومستأجريها على حدّ سواء بمبالغ ترضي معظمهم إلى حدّ كبير؛ quot;أنا شخصياً يرضيني المبلغ فقد كنت مستأجراًquot; يعدّ أبو نمر آلافه الثمانية من الدولارات.
تلك الخطوة بقدر ما أراحت المواطنين على صعيد السيولة بقدر ما أتعبتهم على صعيد العثور على شقق جديدة للإيجار أو للبيع في منطقة أصبح ربع أبنيتها تقريباً أثراً بعد عين. وبطبيعة الحال فقد اتجهت الأنظار مجدّداً نحو المناطق التي لم تتعرّض للقصف على شاكلة حيّ السلّم وما يتبعه من صحراء الشويفات والأجنحة الخمسة وحيّ الجامعة بالإضافة إلى برج البراجنة والأوزاعي والجاموس. بعض هذه المناطق مكتظ أصلاً وهذا ما ساهم بشكل كبير بمضاعفة اسعار الإيجارات الشهرية للشقق فيها وهذا ما يتحدّث عنه ربيع الذي سوّيت شقته المستأجرة بالأرض.

ربيع وزوجته وطفلاه ما زالوا يسكنون، منذ عودتهم من سوريا مع نهاية العدوان، لدى أهل زوجته في منطقة حي ماضي. المنزل الصغير لم يعد يتسع لهم بعد مجيء أخت زوجته ومعها أطفالها الكثر أيضاً إليه. الأمر الذي دعاه إلى تكثيف جهوده في العثور على شقّة صغيرة تأوي عائلته الصغيرة. وبطبيعة الحال فقد كانت المناطق الشعبية من الضاحية هي الهدف المنشود لشخص مثل ربيع لا يملك من المال سوى ما قدّم له كتعويض. ويأتي حيّ السلّم الشهير في طليعة تلك الأحياء الشعبية التي بحث فيها ربيع لأيّام عديدة quot;بلا فايدةquot; حتّى وجد ضالته أخيراً في شقّة صغيرة للغاية هناك لا تتعدّى الغرفتين المعلّبتين وبسعر مئتي دولار أمريكي شهرياً؛ quot;وانشالله ما نحطّ الباقي على الاطباءquot; يشير ربيع إلى الحالة التعيسة للشقة المليئة بالرطوبة والتي لا تدخلها الشمس إلاّ لماماً.

تطوّع في بئرالعبد_خاص إيلاف
أزمة السكن لم تكن الوحيدة في الضاحية الجنوبية في الأيّام التي تلت انتهاء العدوان بل تعدتها إلى عدد من الأمور أهمّها عجقة السير الخانقة التي يردّها حسن مباشرة إلى؛ quot;قطع العديد من الطرقات والجسور بفعل القصفquot;. وعلى الرغم من أنّ أسعار البنزين عادت إلى هيأتها الأولى ما قبل العدوان فإنّ عدداً متزايداً من سائقي الأجرة (السرفيس) قد عمد إلى رفع أجرته خمسمئة ليرة لتصبح ألفاً وخمسمئة ليرة لقاء الراكب الواحد أي ما يعادل دولاراً أمريكياً واحداً. ويبرّر quot;الشوفيريةquot; ذلك بازدحام السير أيضاً وأيضاً في مناطق الضاحية؛ quot;عم نبقى أكتر من ساعة بالمشوار الواحد داخل الضاحيةquot; يقول أحدهم.

الأزمة الثالثة المهمة كانت انقطاع الكهرباء ومعه جميع الوسائل البديلة من شمع وبطاريات وارتفاع أسعارها في حال توافرها. ويعتبر الأمر غير ذي أهمية كبرى في حال اقتصر على المساكن لكنّ الضاحية الجنوبية وكما بات معروفاً منطقة مصانع ومشاغل متعدّدة الإتجاهات وهذا ما ساهم بشكل كبير في إقدام أصحاب تلك المصانع التي تضرّرت شبكات الكهرباء في مناطقها على شراء المولّدات الكهربائية؛ quot;الأمر الذي رفع أسعارها تلقائياً من المصادر أيضاًquot; يقول صاحب أحد محال بيع المولّدات.

علي قام بشراء مولّد كهربائي صغير لمشغله يمكنه أن يشغّل ماكينة واحدة. والأمر لديه لا يقتصر على السعر فحسب بل على عدد من الأمور هي؛ quot;مصروف البنزين والصوت والقدرةquot;. وقد وفّق علي إلى شراء المولّد الصينيّ الذي بلغت قدرته سبعة امبير بسعر ثلاثمئة وخمسين دولاراً هو الأرخص من بين جميع المولّدات الأخرى. وقد كانت المواصفات التي طلبها علي مطلوبة على الرغم من الإزعاج الذي سيصيب سكّان البناية التي يقع مشغله فيها وهو يشغّله في الطابق الثالث منها؛ quot;فليتحمّلونا قليلاً!quot;.

وشهداء

تلّة ركام في المربّع الأمني_خاص إيلاف
quot;يا سيّد حسن قدّمت لك ولدين لا واحداً فقطquot; ترفع والدة الشهيدين صوتها المبحوح وهي تذرف الدموع غزيرة ولا تكاد تستطيع متابعة المسير نحو مكان تأبين ولديها المقاومين اللذين استشهدا في إحدى المواجهات مع العدوّ في إحدى القرى الجنوبية الحدودية. ترفع صوتها وتناجي أمين عام حزب الله فتؤثّر على كلّ من حولها من الأهل والاقارب والرفاق الذين أدّت النساء منهم مشاهد الدموع وحدهن أمّا الذكور فقد كانوا أكثر صلابة ونظاماً وكانّهم قد اعتادوا على مثل تلك المواقف.

لفّ الشهيدان بعلمين صفراوين لحزب الله وحملا إلى داخل روضة الشهيدين في الشيّاح.. تلك المقبرة التي حمل إليها قبل انتهاء العدوان أكثر من ثلاثين شهيداً من السكّان المدنيين الذين أعطوا الشيّاح إسماً لمجزرة جديدة تعلّقها على صدرها وساماً ما بعده وسام. هناك صلّى عدد من رجال الدين الشيعة ومسؤولي حزب الله عليهما أمام حشد كبير تآلف مع طقوس موت الشهداء عبر ترداده التلقائي للطمات كربلائية وأناشيد خاصة بالمقاومة بالإضافة إلى مبايعة عالية الصوت لأمين عام حزب الله الذي زفّ الشهيدان إليه.

أمّا أكثر ما قد أثّر في الجمع فقد كانت الكلمة التي ألقاها والد الشهيدين حين أعلن احتفاله بهما ودعا النساء إلى عدم البكاء فنظر إلى ولديه نظرة الوداع الأخير مهنّئاً غير مكترث بغياب لهما؛ quot;لقد قاما بواجبهما تجاه أمتهما لردّ كيد أمريكا وإسرائيل وعملاء الداخل إلى صدورهمquot; هكذا قال.

المتأثّر الأكبر كان عمّ الشهيدين الذي كان شعلة نشاط ضربت المكان. العمّ الذي سحبهما من ساحة المعركة قبل يوم واحد وفي اليوم الأوّل لانتهاء العدوان quot;جثثاً متفحمة ومقطّعة الأوصالquot;. وعلى الرغم من عدد من الإجراءات الأمنية والميدانية الخاصة بالمجاهدين فقد استطاع ذلك العمّ إنقاذ الأخ الثالث لهما بعدما ضاع في أرض المعركة في أحد الأودية الجنوبية مصاباً في قدمه ليعود به إلى القرية ويباشر بعدها رحلة البحث عن ابني أخيه اللذين وجدهما ومعهما رفيقان لهما أيضاً بعد صراخ باسميهما داخل ذلك الوادي الذي أحرق بفعل مئات الصواريخ والقذائف المدفعية بالكامل. كان يتأمّل أن يردّ أحد منهما عليه لكنّ ذلك لم يحصل ولن يحصل بعدها أبداً. لا يتحدّث أبو محمّد عن الحالة التي أصابته حال رؤيته للجثث بل عن الجثث نفسها التي quot;احترقت بالكامل وتقطّعت أوصالها وخرج من بعضها الدودquot;. يخنق دمعة وبالكاد يتفوّه بكلمة؛ quot;لم أعرفهم من بعضهمquot;.

عاد إذاً سكّان الضاحية الجنوبية لممارسة أعمالهم ونشاطاتهم اليومية بصورة شبه طبيعية بعدما غاب بعضهم لأكثر من شهر عن أجواء المكان. عاد السكّان رغم الدمار ورغم التهديد اليوميّ الذي ما زالت أصوات طائرات quot;الأمّ كاquot; تنقله إليهم بين الفينة والأخرى. عادوا وكلّهم إصرار على إعادة بناء ما دمّره العدوان من مبان ومؤسسات. عادوا ليزرعوا وردة مكان كلّ شهيد سقط وما زالت روحه الطازجة في سماء المكان ترفرف أجنحتها عليهم جميعاً. عادوا ومعنوياتهم أكبر بكثير من أشياء شتّى.. أكبر من إسرائيل نفسها.

[email protected]

ردم في حارة حريك_ خاص إيلاف

رفع أنقاض في بئرالعبد_ خاص لإيلاف

موقع مجزرة الشيّاح وقدتحول إلى باحة عزاء الأحدالماضي- خاص إيلاف

ينقذون ماتيسّر في بئرالعبد-خاص إيلاف