هل ثمة علاقة بين الثلج والطفولة؟
ستكون العصافير شاهداً، والصخور التي كتب عليها كاوة همساته قبل ان يقتحم المغارة المظلمة، ستكون الفراشات التي رقصت فوق أجنحة الزهيرات البرية واقفة ترقب المشهد الأولي، فثمة ثلج طفولي ندياً طرياً مثل وريقات الشقائق، وثمة كتل ثلجية صلدة ناتئة مثل نتوءات الصخور النابتة في الجبل، ملساء كجلمود، وقاسية كصخر كردستان.
ومابين ارتفاع شجرة الجوز وبين السفوح ثمة طريق ملتو، لكنه ينتهي حين ترش خيوط الشمس أشعتها، وتبث دفئاً يسري بطيئاً بين العروق، وتصبغ الغيوم أثيابها بلون الثلج تنزلق بين السماوات، كلهم بشوق لنار تتراقص ألسنة اللهب الوامض من شباك كوخ فقير، يضيء النهارات المتعبة وينشر الفرح الغامر، فطيور الله تلتقط حبيبات الحنطة الكردية ، ثم تسكن شجرة الجوز في الأعالي صامتة تقديساً لزمنها.
مثل حبات المطر المتجمع بين ثنايــا الصخور تتجمع الكلمات تتدفق تصير نهراً وبيتاً وقصيدة، تلك وسيلة يعتمدها الشاعر النابت وسط محنة القلب، تلك بداية الجملة الشعرية، فشيركو بيكه س لاينزوي حين يكتب الشعر، شاعر بلا طقوس، ولابهرجة، ودون أقلام تلوين، انها كلمات تنبع من بين مسامات الصخور، بيضاء كالثلج تبهر الناظرين، ليس لها صدى، تتلقفها الأذن ثم تخزنها في الذاكرة.

إن بحثتم في زبدة أمواج
رذاذات ارجوانات ال ( زه لم )،
ستجدون فيها شقائق حبي
إن بحثتم في رغب الغابات القصية
ستجدون فيها الجذور العميقة
لآلام ( خاني ) و ( حاجي كويي )
هذه أصوات دقات نواقيس الكروانات التي
تسير فوق الثلوج....

رذاذ الكلمات ينزلق بأتجاه وميض الروح، تشعر وأنت تقرأ أشعار شيركو أنك ترحل فوق موج الابيات الشعرية، ترحل معه فوق نفث دخان سيكارته التي تلثم شفتيه كل مرة، تشعر انه يقتنص الصورة منك، فهي حكايتك ربما اخذها حالماً، ويستل منها خطوط المشاعر، غير ان مايميز الشاعر بيكه س أنه لايسجلها علامة فارقة، فهو ينثرها كما تنثر الحلوى فوق الرؤوس، كما صوت العنادل مشاعة للجميع، ومثل حبات المطر تغسل أوجاع الأرواح الهائمة أو الخامدة كلها، غير انها تنبت في أعماق الأرض، كما في الأناشيد الجبلية التي يغردها شيركو، يجريها لكل الناس دون ان يتعرف على سحنات وجوههم أو يستمع لأناشيدهم .

يتوهج – هيبت سلطان – البعيد
في لهيب قطة متربصة في الشرفة التي
في الداخل
في الخارج.. الاشجار حانية تحت اجساد الثلوج
وفي الداخل.. اوقد ( حاجي قادر ) نيران عينيه
وأنتصب واقفاً....

تجده يكتبها فوق ورقات الشجر الطري تكبر كلما أينعت، وتضوي كلما أزدهرت، ثم تنبت فوقها بعد اليباس، أنشودة جبلية يدخلنا فيها دمعات اوقفها الثلج وضحكات يبسها الزمهرير، غير انها ليس لها صدى تدور فوق صخور الجبال القصية، تتراقص فوق نثار الماء المتطاير بعد ارتطامه بالصخور، شلالا من الكلمات الملتفة بدفء السنة النار التي لم تزل تتراقص من موقد الكوخ الفقير والملتصقة فوق زجاج النافذة الأسود.

به ري خان، رحلت
( ينابيعي ) تشرب مني والوانها الفضية
تخرج من بين قعري
وانا اتدفق من بين نهديها...

وحين تستل من ابيات قصيدته كلمات ( الخبز، الفقراء، قافلة الجوع، عرق الاجسام، الجذور، اوكار السواعد، المشردة، النوم دون احلام ) تتيقن انه حقاً يحلم بكل مامر به من أيام رافق فيها الجوع ومشى بقوافله مازجاً عرقه بعرق السواعد الاخرى، دفاتر التبغ والسلاح والشعر المقاتل، لكنه كان له علاقة عشق أزلية مع المطر، ومن يدري فلعله يعجن الكلمات بحبات المطر، يطهرها ربما، ويقدمها طازجة. ولكن هل ثمة علاقة بين الثلج والطفولة؟

وكيف أليُ يصلون؟
ينبغي لك يا أمي
أن تحمليني في بطنك ثانية
فميلادي وأنبثاقي هذه المرة
لابد أن يجهض أمسك
أحب أن اكون حيا يا أمي
وأستمع الى مرثيتك
فهي طائر ذاك البكاء
فهي طائر ذاك البكاء
يلتقط بمنقاره
حبات الدموع .....

مثل ضوء الشبابيك في الليالي المظلمة تلك هي الكلمات، يانعة مثل سنابل القمح في الغبش، تنزل مع حبات المطر التي تنعش الحقل وتغسل أجنحة الطير، غير أنها تبعث على السكينة، فثمة علاقة أزلية بين الأرض وبين المطر، وثمة علاقة بين الطفولة وبين الثلج فكلاهما أبيض ، أجل كلاهما نقي وأبيض.
يقول شيركو في اخر قصيدته (( أنشودتان جبليتان )) المترجم من قبل فؤاد عبد الرحمن:

ها قد نام الفرات
ها قد نام المطر
حتى غرفتي نامت
ونام يريري
يا ( به ريخان ) للوطن الرمادي وورود الجنينة
أنا مانمت..

وحلم الشاعر بالفرات ونوم المطر هاجس يجيش في روحه المشتعلة لايطفأها الا عبور الشواطيء، وان يغطس كلماته في أنهر الله كلها فلم تتسع له كل شلالات الفرح ومياه المطر وبحيرات كردستان، فالكلام لم يزل نشيداًُ في جباله التي أنشد لها وفوقها وعليها. وكلماته المبللة بمطر كردستان، ونيسان الذي تتراقص فيه الأزاهير مثل رقصة زوربا، والامطار التي لاتتوقف ولاتنام، ووجه لوركا النحيل، والتقاء الانهار، وخرير القلوب، وشطآن الغروب الوحيدة، الينابيع المتدفقة، وكهوف وسهول شائكة، وشلالات ضوئية تحمل فوقها كلمات ينساب منها نشيد الجبال، أخضراً كالسهول التي تخبيء اسرارها وتحنو على فراخ السنونو، والخيام والمقابر وحد الفأس والطوفان، ولكن المطر لاينام.
والغائر في عمق الكلمات يجد المطر والماء والنهر والدموع والينابيع والشلالات والشطآن كلها دلالات على جريان الحياة التي لن يتوقف، وكلها أشارات ادخلها الشاعر في قصيدتيه الجبليتين برايموك واغنية الثلج وطفولتي و الرحيل.
ليس فقط الأنسيابية في التعابير التي يختارها شيركو بيكه س، كما ليس فقط القدرة على انتقاء المقاطع والصور، انما يكمن السر أنه يستطيع أن يغور في عمق الأحاسيس الأنسانية حتى يتخيل المرء انه الشاعر، او انه يشترك مع الشاعر في وحدة المشاعر.
ولهذا يستطيع القاريء العربي ان يشكلالصور التي يريد شيركو لها ان تكون حاضرة، بالرغم من أن القصائد ترجمت من الكردية الى العربية، ومع ان الترجمة كما قلنا غير مرة تفقد الكثير من الكلمات بريقها ورونقها، ولكن قدرة الشاعر بيكه س على تشكيل الصورة لايغير المعنى، بالأضافة الى كون الأحاسيس التي تختمر في روح الشاعر هي المشاعر المشتركة والمعاناة الواحدة التي يعانيها أنسان هذه الأرض، وليس أعتباطاً أن تتكرر مفردة الفرات والأهوار في العديد من قصائد الشاعر شيركو لكونه مسكون بكل الأرض العراقية، بالرغم من كونه أعطى للجبل أكثر مما يعطي لروحه المتمردة والثائرة.
ومع حزمة المعاناة التي اشعلت روح الشاعر وشكلت تجربته الأنسانية والشعرية، ومابين رحيل الشاعر الى مدن المنطقة الغربية مبعداً، غير انه ولفرط عشقه للفرات صاغ بعض روائعة وهو يناجي الجبل من شطآن حديثة وضفاف الفرات.
القصائد الطوال ميزة نهجها الشاعر شيركو في السنوات الأخيرة، بعد ان أنجز ( مضيق الفراشات ) الذي أصدره في بداية التسعينات والمترجـــم الى اللغة العربية، بالأضافة الى ( الصليب والثعبان ويوميات شاعر ) ، وهي مقاطع من قصيدة روائية، ومطولته ( إناء الألوان ) المطبوعة في العام 2002 – بيروت.
وأذ تعتبر القصيدة الطويلة من الأعمال التي تستنفذ القدرة الشعرية، الا ان الشاعر بيكه س أستطاع تطويعها لتصير منهجاً وطريقة وأسلوب للأبداع بالرغم من كل المشاغل والألتزامات التي تنوء بثقلها فوق ابداعه، لكنه لم يزل يمتطي أجنحة الريح يغازل الغيوم حتى يمكن ان ينزل ممتطياً زخات المطر التي يعشفها دائماً.

انا قادم ورغيف كلماتي زاد درب ( به ري خان )
انا قادم كي افرش الامي
واغطي بضباب وحدتي وفقري
هامة ( به ري خان ) الشامخة
انا الذي نسج وشاحها من خيوط صوت
جلبته لي صرخات بيادر النرجس
من قرية النار.....

أنشودتان جبليتان – قصائد شعرية طوال، ترجمة فؤاد عبد الرحمن ومراجعة دانا احمد وطبع بمطبعة شفان بالسليمانية 2003