مع نهاية كل عام يولد المسيح منتظرا من أبنائه التراتيل والشموع، تحل ذكرى رحيل الشاعر الكبير بدر شاكر السياب، وتكرّ الأسماء المعتادة كتابة الذكريات والمراثي بالمناسبة، غارقة في التمني والأسى والتذمر وتصفية الحسابات. وغالباً ما تنقسم الكتابات بين من عايش السياب في النصف الأول من القرن الماضي وبين من قرأه لاحقا ً وأعاد قراءته عدة مرات. وكالعادة ستسيح معاناة وحسرات على رحيله المبكر ودور القبائل السياسية في التعجيل بالرحيل، وصولا إلى نهاية الحكاية في دفن الشاعر في يوم ماطر من دون مشيعين ومراسيم دفن تليق به كإنسان وبموقعه الريادي في الشعر العراقي والعربي على حد سواء. وستنتشر على الضفتين أسماء ومواقف معروفة يشكل بعضها مؤسسات رسمية ومنتديات تعنى بنتاج الراحل ودراسته بشكل مختلف، وتتوقف عند هدمه لبناء الشطرين وإدخاله أساليب ومفردات ( المطر والحزن مثلا) جديدة في الشعر، ومعتقدة بأن نتاج الراحل لم يحن وقته بعد وبحاجة لقراءة جديدة ومستمرة تتطلب تجديداً للأدوات النقدية والجمالية ومرفقة بدعوة الشعراء والمريدين للذهاب إلى جيكور لحج بيت الشاعر والإمساك بشباك وفيقة بأطراف الأصابع بعد التَطَهّرْ بماء بويب. وسيقف على الضفة الأخرى ( المقاهي والشوارع الخلفية)أبنائه اللذين انبهروا بصنعة الأب وهو يشيد بنائه الجديد من حجارة الشطرين وموادها. الأبناء اللذين تمردوا بهمس بادئ الأمر وهم يشاهدون انشغال الثقافة والمثقفين فقط بالأوائل والمؤسسين على حساب الجديد الذي يحمله الأبناء والتابعين، ثم بصوت عال من أنّ الأرض لم تكن قبل قدوم السياب وحل وماء، وهو لم يأتي قبل الشعر فلقد سبقه إلى ذلك كثيرون. ويمرون بعد خفوت الأصوات على ركاكة بعض قصائده وضعف استخدامه للأسطورة وسطحية التجاور بين الكلمات والإيقاعات والصور، وتأثر صوره الشعرية بالشعراء الأوربيين كما في( الحزن والمطر).
المثقفون وهم يَتّذكرون الشاعر الراحل يعيدوننا إلى شوارع الطفولة وأيامها التي لا تعود. ليس فقط بسبب حاجتنا الماسة إلى وجود الأب ونزعتنا المستمرة في التمرد عليه، بل وفي إعادة سرد الحكايات التي رافقت السياب وتأويلها بما ينسجم ومطالب العصر الحالي. فعندما كنا صغاراً نتحدث عن مطرب القرية الغجري كما يتحدث مثقفونا اليوم عن السياب. فلقد كان مطرباً فقيراً مكفوف البصر ويحمل آلة موسيقية قديمة صنعت من علب الصفيح يسميها الربابة، ويلبس بذلة عتيقة أزرارها من الدراهم الحقيقية المثقوبة من وسطها،وكان جائعاً مشرداً لا يأخذ ثمناً لغنائه غير الطعام والملابس التي يجود بها الآخرون. وكان يغني أكثر مما يتكلم، وتذهلنا التناقضات بين مظهره وبين ما يمتلكه من صوت وعزف ومعاناة. وإذا قفزنا على الزمان والمكان واستعنا بـ ( لو) السحرية وتمنينا على كبيّس ( وهذا هو أسمه الحقيقي) ليكون مشهوراً مبللاً بدموع المراهقات ومعافى يكسب نصف مليون دولار لو أمسك فقط بعلبة كوكا كولا أمام كاميرات التصوير، فماذا سيتبقى من تلك الصورة التي رسمتها براءة الطفل عن معاناة الغجري. بكلام آخر فإن تذكّر الأموات بخير لا يعني بأية حال بناء ذاكرة أخرى تؤّول أو تنهش حقيقة ما حدث. وهذا ما جرى للسياب بعد أن توزعت رحلته بين التاريخ والأدب مع أصوات بعيدة تكاد لا تُسمعْ من أصدقاء طفولته ومن تبقى من عائلته تروي حقيقة ما حدث، حقيقة النُهّير الضيق والمهمل الذي ورد في قصائد السياب أكثر عمقاً وتدفقاً وجمالا. لكنه بويب.
صَحِيحٌ أن المقالات في ذكرى رحيل السياب لا تقترب من لطم الخدود وشق الجيوب،لكنها كذلك لا تبتعد عنهما كثيراً. فبسبب أن ما يتركه الأموات أكثر تأثيراً مما يتركه الأحياء، وبسبب إرثنا الذي يحتفي بالحزن أكثر من احتفائه بالفرح، نجد الكتابات عن السياب منشغلة في ذكرى مماته لا ولادته، في تقليد مُستهلك يهدف إلى استمالت القارئ في نهاية المطاف. وعلى الرغم من أن السياب عنصراً مهماً من عناصر حداثتنا المتأخرة إلا أن العودة بتلك العناصر والظواهر إلى منبعها وبشكل عكسي وبلغة بكائية وساخطة على الأوضاع يثير الكثير من علامات الاستفهام حول هدف تلك الكتابات.
دون شك الإبداع حين يرتبط بفرد سيجعله مختلفاً عن الآخرين، أو على الأقل هكذا يراه المتابعون والمتشوقون لإبداعه. ولو نزعنا عن السياب ما للسياب من كعبٍ عالٍ في صنعة الشعر لأمست معاناته لا تُذكر إذا ما قيست بمعاناة الآخرين في زمانه وفي غير زمانه خصوصاً وإن بلدا مثل العراق يمتلك شعباً من السياسيين القساة، شهد تاريخه عنفاً مستمراً طبع ملامح الجلاد والضحية، وأصبح الموت الهادئ في الفراش بعيدا عن ضجيج المعزّين والنائحين من الأمنيات التي لا تتحقق للجميع، ناهيك عن القبر الذي عزّ على آخرين. ولذلك فإن ما جرى للسياب بسبب الأهل والحزب والوطن نجدها عادية وطبيعية في سياق التطورات الاجتماعية والسياسية لبلد ما زال مواطنيه حتى اليوم يُكمِلون عشائهم نوماً. فليس السياب وحده من باعه أهله وشرده وطنه وطعنه حزبه ( أحزابه) بل هي أغنية يطرب لها أغلب أهل السواد ( الضحية والجلاد على حد سواء) وإلا فمن أين جاء كل هذا الحزن والعنف والتشرد إلى درجة لم نقرأ فيها قصيدة حب عراقية من أعوام خلت، لكننا من خمسين عام نقرأ السياب ونختلف فيه رغم الحزن والشطحات والأسئلة المبثوثة في قصائده. فالحزن المتجاوب مع حزن التراث وحزن المجتمع وحزن الأشياء سيكون طاحناً ومهلكاً مثل الأفول لدى السياب،كموضوع شعري كبير قادماً من الماضي والذكريات والأوجاع والحنين ليتحول إلى قضية فلسفية ألهت الثقافة زمناً.كثيرون تحدثوا وسيتحدثون عن المعاناة السياسية والاجتماعية والصحية التي أوصلت الراحل إلى نهاية رحلته مع أنها معاناته هو وحده. ومعرفة الآخرين بتفاصيلها لا يتعدى القشور، بمن في فيهم أهله وعائلته. المتحدثون سيلعنون أحزابهم ودولهم وأمراضهم وأوضاعهم الثقافية في رثائهم السياب الذي يصادف ذكرى وفاته هذه الأيام حتى لو أدى ذلك إلى تأويل الأحداث والمواقف وخلق هالة من الغرابة والعزلة والحزن المبالغ فيه حول الشاعر، على الرغم من أن اللذين عاصروا السياب لم يتحدثوا عن تميزاً في شخصيته وذهب أغلبهم، بمن فيهم عائلته، إلا أن الراحل كان كتاباً مفتوحاً وأنه مخلوق كغيره من مخلوقات الله التي لم تفرح كثيراً. أن تحويل موت الشاعر إلى مجسات وأسئلة واعتراضات على ما يجري للوضع السياسي والثقافي والاجتماعي الراهن ليس له علاقة بالشاعر، ويستطيع أي فرد تصفية حساباته مع الآخرين كما يشاء، شعراً أو نثراً أو صمتاً ولكن بعيداً عن عكاز الأموات. أن تَحّويل صراعات الشاعر لأغراض شخصية وتصوير معاناته وكأنه قادم من عالم أخر محاط بالغرابة والقداسة اللتان لا يمتلكهما الناس العاديين، يتطلب تأويلا للحوادث وانتقاء للكلام الدال والدافئ حتى لو لم تكن هنالك حقائق تدعمه، لغرض إضافة أشياء للراحل هو ليست بحاجة إليها اليوم بقدر حاجة السيابيين إليها. الفتح الذي حققه السياب تحقق في حياته وليس في موته. فهو لم يملك شيئاً أضاعه بموته أستوجب استرداده المبالغة وتصوير المأساوي للبكاء على الشاعر والشعر. خلود السياب تحقق معاً في فتحه الشعري وتناقضاته الحياتية وطريقة موته في كل منسجم فات الوقت على الفصل بينهم وتمني هذه دون تلك. الأمنيات لا تعدو أكثر من وقفة حالمة على أطلال ما نحب ونرضى، مستعينة بمفردة( لو) كلازمة لمد سقف الأمنيات خارج حدود الحكاية.
أن ومفردات من مثل العزلة والضعف الإنساني والقلق التي يجترها الآخرون عن الراحل ليست مهينة للشاعر ولم تكن حاسمة بما وصل إليه، وحتى النفي والموت وحيداً وغريباً ليس مصادفات في حياته حتى يتم العودة إليها بمناسبة ودون مناسبة. ولذلك نجد السيابيين الخائفين من الموت أقلقوا راحة الميت في تجميعهم لحوادث متنافرة وموزعة على أكثر من مكان وزمان لتوصيل أفكار وتصورات غير موجودة إلا في رؤوسهم وتجاربهم. ومثلما فرضت الأحزاب السياسية على الشاعر في حياته ضغوطات وتسميات وأساليب كتابة، هاهم الأبناء يبحثون لأبيهم بعد مماته ( بمحبة)عن حياة أخرى وموتاً آخر وسياسيين أنقياء من دون أن يسألوا أنفسهم عن الذي طوّبه شاعراً كبيراً،عن المرض الذي وقف خلف حزنه الشفيف المبثوث في قصائده التي نتمتع بها كل هذه الأعوام، وعن الحرمان العاطفي الذي سنن عواطفه وترك لوعة في قصائده، ولم يسألوا أنفسهم إن كانت ستأتي قصيدة ( غريب على الخليج) بهذا الجمال والبقاء لولا برودة المنافي والشوق إلى شمس العراق وظلامه ؟
أن التجربة السياسية للسياب لم تختلف كثيراً عن تلك التي أشغل الثقافة بها، وإن كانت مختلفة النتائج والمعاناة. فالشاعر ذات إنسانية مبدعة ومنفتحة على أسئلة الوجود، هو أدرك ذلك وأفرغه في قصائده. وهذه الذات إن هبطت أو علت الإنساني فهي تنويعات على القصيدة، فالإنسان هو الشعر كما يقولون. والاضطراب الإنساني الذي عاشه الراحل تجلى في توزعه وتنقله بين القبائل السياسية المتصارعة حينذاك من دون أن يكون مقنعاً لأي طرف منها حتى بعد موته. لقد عانى السياب أكثر مما حلم في سوق السياسيين. واللذين شهدوا التجربة يتذكرون كيف كان الأضعف سياسياً بين رفاقه، جعلته هدفاً لحملات صحفية ( وحزبية) طيلة أعوام وصاحبته حتى وهو على فراش المرض. ومثلما دفع ثمن مغامراته الشعرية فأن الراحل دفع ثمن أخطائه السياسية. والمعميات السياسية التي تخبط بها الشاعر أدخلت مريديه في دوامة البحث والتبرير ورد الشتائم وتصفية الحسابات وتحميل الأحزاب السياسية وزر ذلك. ونحن بعد كل هذه الأعوام لا نبرر لحزب أو لشاعر. فهذا السياب المترب بالشعر، وهذه أحزابنا التي مارست التنوير والتقدم إلا أنها بقيت من أمارات الاستبداد والقمع.
فعلى الرغم من معرفة الشيوعيين العراقيين لطبيعة السياب وعدم رسوخ أفكاره السياسية وانحدار حالته الصحية سلباً، إلا أنهم لم يغفروا له براءته من الحزب في ظروف شهدت تصاعداً في الوعي الوطني للشارع السياسي. ومما زاد في اللوحة تشويهاً إقدام الشاعر على نشر ذلك في جريدة الحرية البغدادية بعنوان ( كنت شيوعياً) فاضحاً رفاق الأمس ومجسداً عدم قدرته، بعكس زملائه، على الاحتفاظ بتلك المسافة الرمادية بين الشعر وبين الأغراض السياسية. في وقت كان فيه الشيوعيين يترنمون بقصيدة الشاعر مظفرالنواب الشعبية ( البراءة ) التي انتشرت بين العراقيين كمنشور سري يدعو للصمود والنضال، وقد حَفَظها كثيرون عن ظهر قلب والتي شَبّهتْ البراءة من الحزب بالعار الحقيقي الذي لا ترضاه أم لابنها. الأحزاب السياسية العراقية منتصف القرن الماضي في بحثها عن مصالحها ما كان يهمها الشعر بقدر الشاعر، وهذا ما نتلمسه في استبدال البياتي بالسياب ومن ثم سعدي يوسف بالبياتي ثم مظفر النواب ثم ثم.. إلى آخر القائمة التي أوصلتنا بخيوط اللعبة التي كشفت أن للثقافة أيضاً حراسها وعسسها وشرطتها وجلاديها. والذي قطع خيوط العودة بين السياب وبين الشيوعيين هو موقف الشاعر المؤيد لانقلاب شباط الدموي في ستينيات القرن الماضي بعد أن ذبُِح الكثير من قادة الشيوعيين وقواعدهم، مما جعل من موقف الشاعر إهانة للشهداء والسجناء والمناضلين التابعين للحزب الشيوعي العراقي. السياب في الحقيقة لم يغصبه أحد على اتخاذ ذلك الموقف. وهو لم يكن بحاجة إلى مهاجمة الشيوعيين ووصفهم بأقسى المفردات، لأنه ببساطة لم يقيم مشروعه الشعري على شيء من ذلك. بل على العكس قد تكون بساطة تجربته السياسية(أو تخلفها)وعدم قدرته على إقناع السياسي سبباً من أسباب تطور قصيدته. وبكلام أكثر وضوحاً فإن التزام المثقف(الشاعر خصوصاً)المبالغ فيه بسياسة الأحزاب الشمولية شكّل اختلالا ً ثقافياً كبيراً أعاق ظهور أسماء يشار لها بالبنان في دنيا الثقافة. أن خروج السياب على انتمائيته السياسية غذى ما تعاني منه الثقافة ككل في منتصف القرن الماضي. ويستطيع المراقب تبيّن ذيولها حتى اليوم في الحالة العراقية على الرغم من ضعف الحركات اليسارية.
وأخيرا ً فإن الأسئلة التي توقف الأمنيات عند حدودها المفترضة هي هل أن نهاية شاعرنا الكبير بدر شاكر السياب منفصلة عن سياق تجربته الشعرية أو تشكل نشازاً في معاناته الإنسانية( اجتماعياً وسياسياً )؟ وهل هو وحده من أبدع في رواية سيرة الألم وطعنات ذوو القربى والنفي والموت مريضاً ووحيداً دون ناعيات أو باكيات ؟ وهل كان إنساناً كاملاً دون حماقات ثقافية وسياسية واجتماعية ؟ وهل كان الأول والوحيد من كتب شعراً جديداً أم كان صوتاً ( هادراً ومتميزاً)من بين الأصوات الشعرية؟ وهل نستطيع التعامل مع السياب بكليته (شاعراً وسياسياً ومريضاً ومعيلا ً) ومفترضين أن أفضل الناس قادراً على ارتكاب أسوء الحماقات في الظروف التي عاشها العراق في خمسينيات القرن الماضي، خصوصاً وأن أفضل الوسائل في فهم الحياة قد تأتي بنتائج سلبية ومعكوسة تجعل من الشاعر انتهازياً وضعيفاً وعاطلاً.
في الأيام القادمة سيتذكرونه بحثاً عن الحزن والشجن والكآبة المتناثرة في شعره. وسيحولونه إلى مناسبة يستدعون فيها معاناتهم وأحلامهم. فالغصة التي يشعر بها المبدع العربي في تذكره للسياب سببها المرارة الدائمة التي صاحبت الشعر والشعراء. فهم ينعون إذ ينعون أنفسهم وتجاربهم الثقافية والاجتماعية والسياسية في وقفة حنين على أطلال بدائية سكنت أحاديث الأصدقاء والماء والنخل. فمنهم من يبكي السياب غياب الشعر الأصيل وأيامه وأسمائه، ومنهم من يبكيه في الدهر بعد كل مجاعة أو منفى أو صراع سياسي أو حرمان عاطفي، ومنهم من يبكيه هياماً بالبكاء.
ونحن اللذين لم يتبقى لنا من السياب بعد نصف قرن سوى قصائده، نرى أن المراثي لم تأت بجديد غير أنها غالبا ً ما تفتح صفحات كنا قد طويناها.