لا أعلم إن كنت سأتكلم عن ستار كاووش عبر ما كتبه الناقد عدنان حسين أحمد، أم عن كتاب عدنان "أطياف التعبيرية.. غواية الحركة، ورنين اللون، في تجربة ستار كاووش الفنية"؟ *

في الحالتين سنعود للوحات ستار، أولسرقات ستار كاووش، فهو لص محترف يقوم بسرقة أحلامه وصلبها بشكلٍ جميل فوق اللوحة. ستار كاووش إنسان مثير بامتياز.. يشبه من يرقص الـ slow على موسيقى الروك آند رول! رفض منذ بدايته أن يضع حواسه في علبٍ صغيرة، فحسب ما ذكره الناقد عدنان حسين أحمد كان ستار متمرداً يرفض الطبيعة الساذجة وينزح للتفاصيل الصغيرة التي نهمشها في حياتنا، بل ويرى فيها تمثيلاً لصورة الحياة الحقيقية. إنه فنان بروحٍ إنتلوجية وقلب عراقي، مولع بأصابع الكثير من الفنانين العالميين وقد رسم عدة لوحات بمحاذاة مناهجهم لكن عبر طريقته العراقية التي لا تتمثل هويتها في خطٍ ما بل في البصمة التي تتركها لدى الآخر المتمعن في لوحات كاووش.
يعتمد ستار على ثلاث سيقان في مسيرته وهي كالتالي: أولاً: التجريب كـ باب لانطلاق الحواس واكتشاف العالم وبالتالي إعادة تشكيل الوجود / الفكرة / الإنسان. ثانياً: اللغة الشعرية المنطلقة من لوحاته سواء عبر الحميمية الموجودة بين كائنات لوحاته (كائناته الأليفة والحالمة)، أو عبر عناوين لوحاته التي أكاد أجزم بأن من انتقاها شاعر مذهل: (ملاك شارد الذهن – الملاك الحارس – رقصة الحلم – غيمة في بانيو– غيمة اللذة – حلم ضبابي – القبلة المائلة – أعطني شمس الصباح – الرغبة المجنحة – الحلم الأزرق – الحلم الغارق – البحث عن الضوء – الأقدام الراقصة – عاشقان تحت الضوء). ثالثاً: الرجل والمرأة باعتبارهما ثيمة أساسية، فما يميز هذه الثيمة برأيي إنها تعبير عن كل الثنائيات الموجودة في حياتنا، إنها الثيمة التي تمثل صيرورة وسيرورة العالم، وبالتالي فإن ستاراً بكل جرأة يتكلم باسم العالم.
يخلق ستار امرأته بشكلٍ مخالف، حيث يرى الناقد عدنان حسين أحمد أن ستاراً قد تأثر ببودلير كما تأثر به "مانيّه"، فهو يتخذ من جملة شارل بودلير الشهيرة: (المرأة لا شيء دون صناعة) شعاراً له. فكما يقوم الشاعر الأمريكي تشارلز بوكوسكي بجمع أشياء نسائية بغرض كتابة قصيدة حب أإيروتيك، يفعل المثل ستار فهو يهتم جداً بتفاصيل المرأة، بل وبشكلٍ دقيق وملحوظ، إنه لشدة تعمقه فيها يصنع لها جلداً مغايراً. إن لوحات ستار التي تعبر عن المرأة والحب والإيروتيك إنما هي تعبير عن شغب ستار مع المرأة من جهة وقصائد ستار المكتوبة في لوحاته من جهةٍ أخرى. هذه اللوحات بشكلٍ خاص تُذكرني بفروغ فرخزاد التي تركت للجسد أن يخلق حالات العشق الصوفية بعيداً عن المفهوم الروحي المستهلك، أي بمعنى آخر إتاحة الفرصة أمام الجسد ليثرثر بجمالٍ فادح. إن تقاطع لوحات ستار مع نصوص الكثير من المبدعين على حد تعبير عدنان حسين أحمد إنما هي دليل كبير على جنون ستار، فنسبة كبيرة منا لا تؤمن بذاك المبدع الذي يحجز نفسه في دائرة ما أو مجاله الخاص، فأنا لا أعتقد أن ستاراً يستطيع أن يكون بهذه الرؤية الحالمة والعالية الرومانسية دون بحثه المتعمق في كل الأرضيات، فإطعام العين لا يكفي دون إطعام الروح والأذن والعقل والجسد / الإبداع والموسيقى والقراءة والحياة.
لقد اهتم عدنان كثيراً بنزعة كاووش التعبيرية، وقد لفت الانتباه لشيء مهم وطاغٍ ألا وهو اعتماد الاتجاه التعبيري على الحدس اللا عقلاني، إنني هنا أتذكر السرياليين الذين حاولوا بشتى الطرق أن يكتبوا قصيدة في حالات العقل اللا واعية !
في موضعٍ آخر حاول عدنان الربط بين مفهوم الفنان ووظيفته الجمالية ثم أخذ ستار كاووش مثالاً. فنجده يتطرق لمفهوم الفيلسوف الألماني إيمانويل كانتْ القائل: (الجمال الطبيعي شيء جميل، أما الجمال الفني فهو تمثيل جميل لشيء ما ليس بالضرورة أن يكون جميلاً). وهنا تمثيل كبير لاتجاه كاووش الذي أعطى ظهره لمشاهد الطبيعة المملة والتفت لعلب السجائر المهملة، بل وإن هذا التعريف عبّر عن حالة الصناعة البودليرية وجسدها كاووش وهي في الحقيقة ليست صناعة بقدر ما هي حالة خلق. إن الفن لدى كاووش خروج عن البصري المعتاد بما أنه يحترم الشكل كثيراً ويراه اللسان الناطق عن الحال بما في ذلك من موضوعات اللوحة. في مبحث القيم أو المثل العليا تعتمد قيمة الجمال على الارتباط القائم بين الإنسان والأشياء، لذا تدركني حالة نشوة حين لا تقتصر لوحة كاووش على نزعة تشخيصية خالصة بل تتضمن في جسد الكائن الذي يرسمه عالماً واسعاً من الألوان والحالات.
ستار يؤمن بالانفعال كشرط لولادة حالة إبداعية كما كان يذهب الشعراء القدماء، فهو يلتقط لوحته من حوله بقدر من التأمل الخاص. وفي حالات أخرى يهتم بالنزعة النفسية لكائناته، يحترم رغبتها في التعبير عن مشاعرها، مما يجعله يتحول لمصور يدقق عدسته على جزء ما يعوض عن الكل أوفي الحقيقة يعبر عنها بشكل شمولي (الجزء يعوض الكل بوصف عدنان حسين أحمد).
كاووش فنان متشائل يهتم بطوابير الخبز أكثر من طوابير الحرس الوطني، يحب خجل العشاق أكثر من خجل الزهور بحضرة قطرات الندى وبذا يعبر عن سخطه وتعلقه بالحياة في آنٍ واحد.
لا نرى في ستار فناناً مـُـلّوناً، فهو يعتمد على ألوانٍ جريئة طفولية مشاغبة يريد أن يعبر بها عن حالات خاصة لأنها ألوان لم يفكر باضطهادها أو تشويهها أو حتى تزيينها. اللوحة لدى هذا الفنان ترجمة حسية لواقع صخب الحياة وعنفها، وهنا استخدمنا كلمة " ترجمة " ولم نستخدم كلمة " نقل " المساوية للتقليد والتي علق عليه كاووش قائلاً: " لماذا يبذل الفنان جهداً مضنياً من أجل تقليد ما هو موجود فعلاً ؟ ". إن هذه الترجمة الفنية ترجمة عادلة وزاخرة، فقد برهن صاحب الكتاب كثيراً على المنطقة المشتركة التي يخلقها كاووش بينه وبين مشاهد لوحته، فهو يسمح له أن يكمل اللوحة عبر مخيلته دون تدخل منه.
لهذه المدينية أو الهوس بالمدينة لمسة جميلة، فهولا يمتعض منها بل يفرح بالاندماج في ألوانها الباهتة والصارخة والجميلة، إنه يُذكرني بأندريه شديد التي تحب أن تكون بين صخب المدينة والمارة لتكتب نصّها. إن الهوس بالمدينة والذي ظهر في معرض كاووش " جسد المدينة – بغداد 1991 " يعتبر مرحلة مهمة من مسيرته وما يحمله من رؤى، وبعده جاءت مرحلة الانسحاب نحو ثنائية الرجل والمرأة (بغداد – 1993) وهي ثنائية مازالت تمثل هاجساً كبيراً في لوحات كاووش، لأنها الجزء الآخر من معادلته – الجزء الهادئ. صرح كاووش في هذا الصدد عن استغرابه الشديد لأنه أمضى وقتاً طويلاً حتى اكتشف الروعة المتمثلة في هذه الثيمة، فهي ثيمة تمثل علاقة إنسانية عالية. ثم تلاه الناقد عدنان حسين أحمد في تدقيق لهذه اللوحات، فوجد فيها لوحات ذاتية أكثر منها موضوعية وتعبر بشكل صريح عن عواطف الفنان، خاصة في معرضه " رجل وامرأة " والذي كان فيها كاووش وجهاً داخل لوحاته، بمعنى آخر بطل لكل لوحاته وكذلك حبيبته الأولى التي تحتل جزءاً كبيراً من مخيلته وأفكاره وعواطفه سواء عبر لباسها الذي يفضله أو عبر شكلها وقصة شعرها المميزة " الكاريه "، فهذا الشيء لا يمكن أن يمر بشكلٍ عابر أمامنا بل إنه دليل واضح على الارتباط الوثيق بين كاووش ولوحاته، إن لوحاته بكل اختصار هي الطفل الشرعي لروح فنان متمرد.
بقي أن نقول بشكلٍ غير منصف أن الناقد عدنان حسين أحمد كان مذهلاً في تتبع جذور هذا الفنان وقد استعرض بشكل دقيق كل التيارات التي تأثر بها كاووش، بحيث أصبح الكتاب لا يعني ستار كاووش فقط بل أنه يمثل مسحة لتاريخ تيارات فنية عدّة، فعدنان ناقد دقيق يحاول أن يبدأ من الجزئيات البسيط كالحديث عن كاووش الإنسان والصديق وبيئته، وصولاً إلى كاووش الساخط والحالم وصاحب الدراية التامة بالإبداع بلا تقسيمات فـ " المعرفة لا تتجزأ ". شكراً عدنان، شكراً كاووش، شكراً لجمالكما.

http://mona0.jeeran.com
[email protected]

* أطياف التعبيرية.. غواية الحركة، ورنين اللون، في تجربة ستار كاووش الفنية " – عدنان حسين أحمد – دار أقواس في هولندا [email protected]
* موقع الشاعر الفنان ستار كاووش www.kawoosh-art.com