كما تختلف أقدار العلماء في المعرفة تتفاوت أيضا حظوظهم في الشهرة. وليس دائما على قدر أهل العلم تأتي شهرتهم، أو على حسب صيتهم تكون أقدارهم في العلم، فـفيهم من يحوز الشهرة عن جدارة، ومنهم أيضا من تواتيه دون استحقـاق، وبعضهم ينالها ويستمتع بها في حياته، والبعض الآخر لا ينعم بها إلا في أخريات أيامه، أو بعد أن يترك الدنيا، أو ربما لا تعرف أبدا طريقها إليه، حيا أو ميتا. وأهل العلم في هذا الضرب – ضرب الشهرة- لا يختلفون عن باقي خلق الله في ميادين الحياة الأخرى، في الفن والأدب، وحتى أيضا في المهن والصنائع. تأمل معي أحوال الدنيا، ستجد الأمر يكاد أن يكون من يديهيات الحياة وسننها المعلومة، فالشهرة قد تعانق رساما دون آخر، وممثلا دون غيره، وأديبا دون صنوه، وطبيبا دون زميله، ومعماريا دون تربه، وهكذا. وأيضا تجد ذلك واضحا بينا في تاريخ الحضارة الأندلسية البازغة. فلو ذُكِرت " الأندلس " للقارئ العام لقفز في الحال إلى ذهنه أسماء لامعة مثل ابن حزم وابن رشد وابن عربي، ولو ألقيت إلى مثقف واسع الاطلاع لازدادت الأسماء قدرا آخر، ثم إلى المتخصص لبلغت الغاية، ولكن تظل هناك أسماء خفية مغمورة في تلافيف الزمن، ومع ذلك، ويالها من مفارقة، هذه الأسماء المغمورة – بالنسبة لنا – هي كثيرا ما تكون لمن يصنعون ويعلون الصروح الحضارية العظيمة، إنهم أشبه بالجنود المجهولين الذين يحرزون النصر بدمائهم ثم ينسب إلى القائد العسكري.

والآن من التعميم إلى التخصيص.
ذكرنا في أول عرضنا أسماء لأعلام أندلسيين حققت أعمالهم شهرة عظيمة في وقتهم وببلدهم وببلدان أخرى ، ثم انتقلت إلى عصرنا فطبقت شهرتها الآفاق. وثمة طائفة أخرى من الأعلام حازوا الشهرة في وقتهم وببلدهم وربما ببلدان أخرى، ولكن توقف صيتهم ولم ينتقل إلى عصرنا، فجهلنا أقدارهم، وهؤلاء هم من نعني بهم في هذا المقام. أولئك هم الأواسط، كانوا معروفين في أوقاتهم وببلدانهم، ولكن أبت حظوظهم عليهم أن تنتقل شهرتهم عبر الأزمان، وضاعت تواليفهم بين طيّات الأيام، ومن هؤلاء نموذجنا أبو الوليد يوسف بن عبد العزيز بن يوسف بن يوسف بن عمر أو إبراهيم بن فيرُّه اللخمي الأندي المعروف بابن الدباغ. وأود أن أنبه القارئ إلى أنه ربما قد لا يجد في حياة رجلنا ما يثير الانتباه أو يغري بالمتابعة، لأنها سيرة عالم وسط، أحبَّ العلم والدرس واجتهد في التحصيل كما اجتهد في التدريس والتصنيف، أدَّى دوره ومر في سلام، إنّها - كما يشير العنوان - حياة واحد من أواسط العلماء.
ولد رجلنا على أرجح الأقوال في سنة 482هـ (= 1089-1090م) بأندة، من كبريات قري منطقة بلنسية بشرق الأندلس، ولهذا حمل النسبة إلى هذه القرية (الأندي)، وهي نفس القرية التي ولد بها بعد حوالي قرن من الزمان الكاتب والشاعر والمؤرخ المعروف ابن الأبار (ت 658هـ = 1260م)، وتوفي بمدينة دانية من نفس المنطقة في رجب 546هـ (= 14 أكتوبر-12نوفمبر1151م)، أي عن عمر ناهز 64 سنة قمرية.
نشأ على الأغلب صاحبنا يوسف نشأة متواضعة، فإلى جانب أصوله الريفية كان ينتمي إلى أسرة من المولدين، أي من أبناء البلاد الأصليين الذين اعتنقوا الإسلام، ويستدل على ذلك من اسم جده الأعلى "فييره" الذي يعني "حديدة"، ولعل ذلك الجد أو جد آخر أو الأب كان يعمل بالدباغة فشهر بلقب ابن الدبّاغ، ولعل أيضا ذلك الجد كان مرتبطا بعلاقة ولاء مع بعض ممثلي قبيلة لخم العربية، فلحقت باسمه النسبة القبلية "اللخمي"، بل هناك في بعض المصادر المتأخرة من زاد على النسبة المذكورة "القرشي"، وهو خلط يرجح علاقة الولاء وانتسابه إلى المولدين. ومما يلفت النظر أنه حمل اسم يوسف، وهو اسم جده الأدني وأبي جده، وتكرار اسم يوسف ربما يشير إلى الحرص على الاحتفاظ بهذا الاسم المتوارث في العائلة، وهذا يحملنا إلى الظن بأنه ما هو إلا الصورة العربية لاسم خوسيه، أطلقه الجد الأعلى عمر أو إبراهيم المتحول إلى الإسلام على ابنه يوسف، إذ كان يحدث في بعض الأحيان أن يتخذ المتحول إلى الإسلام اسما له الصورة العربية للاسم التوراتي مثل إبراهيم بدلا من أبراهام، وعيسى بدلا من خيسوس، ويوسف بدلا من خوسيه، كما في هذه الحالة، أو أن يطلق على ابنه المقابل العربي لاسم اسباني متداول في عائلته.
تكاد تقع حياة ابن الدباغ بالكامل خلال العصر المرابطي بالأندلس، فقد ولد بعد الزلاقة بسنتين أو ثلاث، وعاش خمس سنوات بعد انقراض دولة المرابطين بالأندلس سنة 541 هـ (= 1147م)، ومع ذلك شهدت سنيّ حياته الأولى والأخيرة أحداثا واضطرابات مهمة. فقد ولد وعاش أعوامه الأولى أيام ملوك الطوائف، ففي إبان هذه الفترة كانت بلنسية تحت حكم القاضي ابن جحّاف، بيد أنه كان واقعا تحت ضغط المغامر النصراني السيِّد الكمبيادور، الذي لم يلبث أن استولى على بلنسية وأقاليمها في جمادى الأولى سنة 487هـ (= يوليو/ تموز 1094م)، وكان يوسف وقتها يخطو في الخامسة من عمره. وعاني المسلمون الأمرين من عسف السيد الكمبيادور، وفضل بعضهم، أو بالأحرى اضطر من وجد إلى ذلك سبيلا، أن ينتقل من أرضه إلى بلدان أندلسية أخرى خاضعة للسيادة الإسلامية، ومن أولئك المتنقلة كانت عائلة ابن الدباغ، فانتقلت إلى مرسية التي كانت تحت حكم المرابطين.
ويجدر بنا أن نتوقف هنا قليلا لنوضح أن مصادر الترجمة لا تذكر شيئا ألبتة عن أسرة يوسف أو أبيه، وكيف انتقلـت الأسرة إلى مرسية، ومتى كان ذلك بالضبط، إجمالا، ولا كلمة عن حياة يوسف قبل أن يبدأ مسيرة العلم، وفيما بعد لا تمدنا بتفاصيل عن حياته الاجتماعيـة، وتكتفي المصادر، كما هي عـادة كتب التراجـم، بذكر "الملف العلمي" للمترجم له، عمن أخذ، وماذا أخذ، ومن تلقـَى عنه، وماذا صنف. ونشير إلى أن أقدم ترجمة عن ابن الدباغ حفظها لنا ابن َبشكوال (ت 587هـ = 1183م)، معاصره وصاحبه في تلقي العلم على بعض أعلام شيوخ الأندلس، في كتابه الزاخر "الصلة"، وعلى هذه الترجمة اعتمد ابن الزبير (ت 708هـ = 1308-1309م) في تحرير ترجمة أكثر استفاضة في كتابه "صلة الصلة"، وعنهما أخذ كل من كتب شيئا عن ابن الدباغ. ومن أكثر ما يلفت النظر أن ابن الأبار لم يخصص لبلديه ابن الدباغ ترجمة في كتابه "معجم أصحاب القاضي أبي علي الصدفي" وهو الكتاب الذي خصصه لمن أخذ عن هذا المحدِّث والقاضي الأندلسي الشهير، وكان ابن الدباغ من خاصة تلاميذه، ورغم ذلك يأتي ذكره حوالي عشرة مرات في تضاعيف الكتاب المذكور. وكذلك لم يكن حظ ابن الدباغ أحسن حالا في كتاب ابن الأبار الشهير "التكملة"، فربما كانت هذه الترجمة ضمن التراجم المفقودة في هذا الكتاب المتعدد الطبعات. ونفس المصير لاقته ترجمة ابن الدباغ في كتاب "الذيل والتكملة" لابن عبد الملك المراكشي (ت 703هـ = 1303م)، حيث أنه من المفترض أنها تقع ضمن الجزء السابع المفقود من الكتاب.
بالعود إلى حياة ابن الدباغ نجدنا في سنة 495هـ (أكتوبر/تشرين الأول 1101- أكتوبر/تشرين الأول 1102م)، وهو عام مهم في تاريخ الأندلس ومفصلي في حياة صاحبنا، ففي ذلك العام نجح المرابطون بعد لأي في استعادة بلنسية من قبضة قوات السيد الكمبيادور سنة 1102م، ولكن الفتى يوسف، وكان حينئذ في الثالثة عشرة من عمره، لم يشأ العودة إلى قريته أو يذهب إلى بلنسية المحررة لتلقي العلم هنالك، بل آثر البقاء في مرسية ليأخذ العلم على يدي أبي علي الصدفي المعروف بابن سكرة، الذي استقر في نفس العام بمرسية بعد عودته من رحلته المشرقية. وأبو علي الصدفي شخصية محورية في تاريخ شرق الأندلس إبان العصر المرابطي، تولـّي لهم القضاء في مرسية، ودرس على يديه عشرات الطلاب، كما كان من أولئك العلماء الذين يقرنون القول بالعمل، فخرج للجهاد مع الجيش المرابطي في مواجهة نصاري أسبانيا، واستشهد في معركة قُتنْدَة سنة 514هـ (= 1120م).
كان ذلك العالم الكبير هو الشيخ الأساس لأبي الوليد ابن الدباغ، ولم تكن العلاقة بينهما مجرد علاقة أستاذ وطالب، ولكن يبدو أنها كانت أشمل وأعمق من ذلك، وأنها كانت أشبه بعلاقة تبني، ولهذا تذكر المصادر أن أبا الوليد كان ملازما لشيخه لصيقا به حتى وفاته، أي أنها علاقة استمرت قرابة تسعة عشر عاما. ولا نستبعد أنه كانت لتلك الصلة الحميمة دور في حياة أبي الوليد الاجتماعية تمثل في مصاهرة الشاب يوسف لعائلة ابن وضّاح، واحدة من كبرى عائلات مرسية المعروفة، فلا شك أن المساعي المحمودة للشيخ أبي علي كان لها أعظم الأثر في إتمام المصاهرة، فأنّى للشاب يوسف الرقيق الحال، الموّلد، والوافد إلى مرسية أن يحظى بهذا الشرف الرفيع دون مساعدة شيخه ذي الوجاهة المتناهية والمكانة المرموقة في مجتمع مرسية؟ وسهّل من الأمر أن والد العروس أبا عبد الله محمد ابن وضّاح القيسي (ت 539 أو 540هـ = 1144 أو 1145م) كان أيضا من تلاميذ الشيخ أبي على.
ولا تعرف كثيرا عن عدد الأبناء الذي أثمره ذلك الزواج سوى ابنه عبد العزيز بن يوسف ابن الدباغ، الذي اتخذ نفس طريق أبيه ولكنه لم يبلغ شأوه، وتوفي بمراكش في أوائل القرن السابع الهجري.
تلقى أبو الوليد يوسف أيضا العلم عن صهره ابن وضّاح، كما كان هذا الأخير همزة الوصل بين ختنه أبي الوليد وبين شيخه كبير علماء الحديث، نزيل الإسكندرية، أبي طاهر أحمد السِّلفي (ت 576هـ = 1180م). فعلى حد قول السلفي نفسه في كتابه "السفر" أنه استعان بابن الدباغ للتعرف على أخبار بعض رجال الحديث بالأندلس، وأنه كلّفه بالحصول على إجازة له من بعضهم، ولهذا يعبر في كتابه المذكور عن امتنانه لرجلنا، ومن ثم ليس من المستبعد أن ابن الدباغ قد نال أيضا إجازة من أبي طاهر السلفي.
كان علم الحديث محور دراسات ابن الدباغ، فدرسه على كبار رجاله في بلده في ذلك الوقت، وأحصينا منهم إلى جانب المذكورين تسعة شيوخ. كما درس القراءات، والفقه، والأدب، فيما مجموعه عشرة شيوخ، وأيضا تبادل الرواية (تدبَّـج) مع زملاء له من طبقته مثل صديقه ابن بَشكوال، بالإضافـة إلى ثلاثـة آخرين، وبلغ عدد شيوخه زهاء الثلاثين شيخا.
وصحيح أن أبا الوليد لم يتسنّ له الرحيل إلى المشرق لطلب العلم، بيد أنه أخذ عن عدد غير قليل ممن كانت له رحلة مشرقية، مثل شيخه الأكبر أبي على الصدفي، وحميه ابن وضّاح، وابن عتـّاب (ت 520هـ = 1126م)، والقاضي ابن العربي (ت 543هـ = 1148م)، وآخرين غيرهم. كما أنه لم يدخر وسعا في الانتقال بين ربوع الأندلس لتلقي العلم وجمع المادة الخاصة بمصنفاته، فإلى جانب مدن شرق الأندلس مثل : مرسية ولورقة وأوريولة وبلنسية ودانية، شدَّ الرحال إلى حواضر أخرى مثل قرطبة وإشبيلية وألمرية.
اشتغل أبو الوليد بتدريس العلم، وعلى يديه درس عددا كبيرا أحصينا منهم أكثر من ثمانين طالبا، من بينهم ابنه عبد العزيز ابن الدباغ (ت بعد سنة 600هـ = 1203م)، إلى جانب آخرين أصبحوا من أعلام الأندلـس في العلـم والأدب والسياسة.
وكما اجتهد أبو الوليد اين الدباغ في تحصيل العلم وتدريسه، عني بالتصنيف فيه، خاصة فيما يتعلق بعلم الحديث، وبوجه أخص في رجاله، ومن خلال المعلومات المتناثرة بين المصادر المختلفة أحصينا له ثلاثة عشر عنوانا، نذكر منها على سبيل المثال : "طبقات أئمة المحدثين"، "معجم شيوخ القاضي أبي على الصدفي"، "كتاب الغوامض والمبهمات"، "كتاب في مشتبه الأسماء ومشتبه النسبة".
أيضا تولي ابن الدباغ بعض الوظائف العامة، فكان لمدة طويلة مشاورا، أي ممن يقدمون المشورة الفقهية للقاضي، كما تولي الصلاة بالمسجد الجامع بمرسية، وفي أواخر حياته تولي منصب قاضي مدينة دانية لمدة 18 شهرا حتى وافته المنية وهو بمنصبه ذلك.
وكان يتمتع بشخصية هادئة مسالمة متسامحة، مع نبل وكرم رغم رقة حاله، فنال احترام الجميع، بما فيهم الطبقة المرابطية الحاكمة مثل والي شرق الأندلس ابن غانية، ومع ذلك كان أبيا بالعلم مغاضبا له إذا ما رأى انتهاكا له حتى في أبسط صور الاعتداء. فيحكي أحد تلاميذه أنه بينما كان يسمع عليه الحديث مع آخرين بجامع مرسية جاء بعض الكبراء من الطبقة الحاكمة، وجلس قريبا من المستمعين يتحدث مع بعض الناس، فلم يتردد الشيخ في أن ينهره ويوبخه، فأمسك الكبير عن حديثه وما راجعه. كما لم يتأثر حاله بتغير الحكم وزوال سيادة المرابطين، وآية ذلك توليه القضاء بدانية على عهد محمد ابن مردنيش، حاكم شرق الأندلس الجديد (542-567هـ = 1147-1172م).
ولكن لم تنقله الحظوة لدى حكام شرق الأندلس إلى طبقة الأغنياء، فظل على حاله منتميا إلى طبقة المساتير، ولهذا وصفه ابن الزبير بقلة ذات اليد.
يقول الجاحظ العظيم : " إنما تجري الهمم بأهلها إلى الغايات، على قدر ما يعرض لهم من الأسباب "، وهمة ابن الدياغ في التحصيل والتعلم، والاشتغال بالتدريس والتصنيف، وتولي المناصب العامة، أبلغته إلى مصاف مشاهير عصره ببلده، لكن توقفت شهرته ولم تنتقل إلينا، لأن " أسبابا " حالت دون ذلك، فقد ضاعت كتبه ولم يصلنا منها شيء، ولعل هذا كان السبب الأول في ازورار الشهرة عنه، وإقبالها مثلا على سميه التونسي ابن الدباغ القيرواني (ت 696هـ = 1297م) بفضل كتابه "معالم الإيمان". ولكن جهد أبي الوليد ابن الدباغ لم يضع، فقد نقل علمه إلى عشرات الطلاب، واستفاد كثيرون بمصنفاته مثل ابن بشكوال وابن خير وابن الأبار وغيرهم، وخلاصة الأمر أنه شارك في نقل العلـم إلى جيل أندلسي لاحق، وهذا الجيل شكل بدوره حلقة في سلسلة علماء الأندلس التي أثمرت حضارة الأندلس الزاهرة، التي هي جزء لا ينفصم من صرح الحضارة الإسلامية.