"المرآة"، التي نظرنا من خلالها في مواقف التلقي؛ اغتنمتْ منا، لذاتها، لغةً شِعريةً، فيما هي تُشرف على فرز وتلخيص وتعيين الرؤى بشأن الأشكال، والشعر في اللغة. فقد استحقتِ الحفاوةَ، واستفزّتْ شعريّةَ الحاسّةِ واللمسِ والحكمةِ والجوهرِ. فهي: ("المرآةُ" في عينِ الشمسِ تلمع. المرآةُ ذَهَبُ المعنى، ووظيفتها السّارّةُ أنْ "تكون" تَكْشِف. "المرآةُ" فضّةٌ أو فضيحة. "المرآةُ" ليستْ هي "بُرهة الانطباع"، التي تؤلّفُ بين الشكّ واليقين. إنها، بالأحرى، "مرآةُ" البُطْءِ؛ "بطءِ زمنِ التلقي". الزمن الذي يَفصلُ الشكَّ لبناء "الموقف" دون تأثير اليقين، ويَفصِلُ اليقينَ لبناء "الموقف" دون تأثير الشكّ. إنّها "مرآةُ" الزّمنِ بطيءِ المُرور والتقادم. هي مِرآةُ العَراقةِ والمستقبل التي تكشف).
ما أن نفرغ من تلقي هذه الاحتفالية الخاصّة بـ"المرآة"؛ حتى "نكون" في بناءِ موقف مُخالفٍ وهدمٍ جماليّ لمفهوماتنا وتصوّراتنا السابقة التي قلنا بثباتها، وقتَ نفينا عن المرآة أن "تكون" هي "برهة الانطباع"؛ لكون البرهة هناك، انطوتْ على ائتلافٍ فاجع بين الشكّ واليقين. إننا نحتفل -الآن- بوجه آخر، بهذه "المرآة" التي تحتفلُ بمرونتها، وببهجةِ الوجوه، وبمسرّات الطفولة، وبظهورات الشعر، والأِشياء والأحداث فيها؛ فهي لغةٌ بذاتها لذاتها ولعالم الإنسان والأشياء، والحُلُم. منذ الآن، هي، "برهة الانطباع" التي تعادل يقين ومصداقية الشعر. ومنذ الآن، هي تلمّ وتكشف وتعكِسُ حريةَ الذات الكلية. ومنذ الآن، ما هو عفوُ كلامٍ هو "مِرآةٌ" تقولُ، هذه المَرّة، يقينَ الشعر والحرّية. إنها -الآن- لسانٌ، وسوف لن نتخلى عن كونها عيناً. هي، أيضاً، إرادةٌ حركيّة، ذلكَ لأنّ وظيفتها السّارة هي الكشفُ. فاليدُ تكشفُ بما هي إرادة حركية. مثلما أن العينَ تكشفُ، بما هي إرادة حواسية. والفكر بما هو إرادة فكرية؛ ذلك أن المرآة مفكّرة. واللسان أيضاً، بما هو إرادة أسلوبية تعبيرية؛ وهي الإرادةُ الوثيقةُ القرابة والتفاعلية بالحركية والحواسية والفكرية، الإرادة الحاضنة والمعبّرة عن التفاعل بين الذات والأشياء. ربما ينقصنا الآن أن نذكر إرادة أخرى من أرادات المرآة، وهي الإرادة التدوينية. وبإمكاننا أن نعلّق شرط حصول هذه الإرادة على علاقة المتلقي بالنصوص المكتوبة، إذ مجال عملها هو العلاقة، أو فضاء التلقي، وفيه "تكون" إرادة المتلقي إما شكية وإما يقينية في مجابهتها للإرادة المكتوبة، الإرادة الحقلية.
الحديث لا يملّ. إذاً، "المرآة" تعيشُ، تحسّ، تفكّر، تتكلّم، وتكشف، وتعكسُ الصور والمواقفَ. والحقيقة الفاجعة هي أن المرآة برهانٌ ينكسرُ. وفيما هي كذلك وغير كذلك: هي برهانٌ يعفو عن الحقيقة، شرط أن "تكونَ" حرّة من قسوة الشروط (إنه لمن الجمالية الشكلية أن تغتنمَ المرآةُ، بوصفها مضمونَ ذاتها، منا كلّ هذه اللغةِ الحسّيةِ المُفكِّرةِ المدّاحة). "المرآة" هي " برهة الانطباع" تتعلّق فيها وعليها كلّ صور التجانس والتماثل والمطابقة والمقاربة. "برهة الانطباع" هي "مرآة الحرية"، هي اليقين والشفافية الشعرية. مَنْ يستدرجُ مَنْ؟ "المرآةُ" تستدرجنا لاغتنام اللغة المدّاحة؟ أم التشويقُ بما هو ذكاء اللغة الجميلة؟ أم أنا الذي أمهّد باللغة الحسية والمفكّرة؟ أم القارئ الذي يلتذّ بجمالية "المرآة" المادية(الحسية) والمعنوية(المفكّرة)؟ تعالوا نَرى، من جمالية "المرآة" - التجريبية الحس حركية، والمفكّرة- جمالياتِ الحدث(في غزة). سنغضّ النظرَ عن تسجيلية "المرآة" للحدث التاريخي الاجتماعي. فلنبدأ -إذاً- في مشاهدة الجمالياتِ، بحواس، منا، منفتحةٍ على الفكرِ دائماً.
"أنتِ تأخذينَنا إلى السماء"؟! منذ ولادته في (26/1/2001) لم يرَ الطفل محمّد البحرَ.. تقول أمّه.. بسبب المنع من قبل كُتَلِ وسِياجِ سيادةِ الاحتلال. فعمرُه قريب من عُمر أحداث الأرض المحتلة، التي بدأت في (28/9/2000)، وقد عُرفتْ بمسمّىً تسجيليّ غشيم:"الانتقاضة الثانية". لقد كانَ عدمُ التمكّن موجوداً يَحولُ دون ظهور البحرِ في إدراكات الطفل المختلفة. إلى أن وُجِدَ التمكّنُ في إرادة المواطنِ؛ وذلك بعد انحلال الجيش من قطاع غزة، وبالتالي انحلال غزة تَموْضُعيّاً من عقدةِ الجيشِ في (12/9/2005). الأمر الذي حرّرَ الغبطةَ والانشراح في إرادة المواطنين المتجهين إلى البحرِ. فما أن وُجِدَ البحرُ في الظهورِ وباشرتِ حواسُّ المُريدين بتلقّيه، حتى كان الطفلُ يسأل أمّه: "أنتِ تأخذيننا إلى السماء"؟! إنّ هذا السؤال في بُرهة الطفل المنشرح لأتمّ وأمثل تعبيرٍ عن الشعور بحريةٍ. بلغة شعريةٍ شفوية غرائبيةً فذّةً. صحيح أنّ الحدثَ في المكانِ الواقعيِّ واقعيٌّ وتسجيليّ؛ لكن لم تكنْ البطولة لا للحدث ولا للمكان، ولا للحمقى في آلة الإعلام! إنما للطفل، وقد خصّه ذكاءُ الشعر؛ بما هو الشعرُ قرينُ الحرية في هذه البرهة المرآة.
الأمّ :-شقيقتي- ذَكرتْ قِصّةَ الطفل مع البحرِ، ضِمْنَ كلامٍ عامٍّ ومُفصّلٍ وكثير، إذ وَعِيتُ خطورةَ وجمالية الإشراق بوصفي متلقياً حِسِّياً فكْرِياً، من وسيط ناقلٍ، هو الأم. الأمرُ الذي وسّع لدي دائرة التربّص بمنطوق الطفلِ لاحقاً، حيثُ كانَ وُلِدَ الخطابُ جمالياً مُشَفّراً في هاته البرهة. كان بِودّي -إذاً- أن أتحصّلَ على مَزيد من الشفراتِ؛ عندما قَصدتُ ، بنبرات دلالٍ، أن أسأله؛ لاستدراج مَزيد من فحوى البرهة: أين أخذتك ماما؟ أجاب، مَرّة: إلى السماء .. أغمضَ عينيهِ بوجهي.. وسريعاً قلّبها في الفضاء، وجَعَلَ يدَه تُعبِّرُ وتُشيرُ بعشوائية. كرّرتُ السؤال، فصمتَ، وقال: إلى البحر. كان صمتُهُ برهةً بمثابة فاصلٍ، وموقفاً لانطباع الصورةِ اليقينية لتَجانُسِ السماء والبحر لديه حِسياً. وموقفاً، في الوقت ذاته، لشكّ الطفلِ، من أجل أن يدحض - بعد قليل- انطباع صورة التجانس من البرهة. وذلك بعد أن رأي الطفل ذلك في "برهةٍ الصمت" = "المرآةِ" التي هي -الآن- بمثابة فاصل، وكاشفٍ لانقسام الموقف.
إنّ سؤال الطفل المفارق لدهشتهِ البدائية، له-الآنَ- صَدىً يتذبذبُ في "بطء زمن التلقي"؛ ذلك لأنّ الطفل، بعد التّصحيح والتوعية، اكتسبَ حقيقةَ الفرق بين السماء والبحر، وخزّنها في الذاكرة التي أخفتْ، بدورها، مِصداقيةَ اللغة الشعرية، وأظهرتْ مِصداقية التعلّم واكتساب المعرفة؛ بتلقين وصقلِ خَامة الوعي لدى الطفل المنغلق النامي في بطء. هنا، في هذه المنطقة بين البرهة والبطء، يمكن لنا أن نعتبر هذه المنطقةَ مكاناً للأشكالِ التي بذاتها لا تجيبُ، إنما بخامات اللغة المشتركة -الآن- بين الشعر وحَنان الوعي، حيث "يكون" لهما التعايشُ والتحالفُ في خدمة الفنّ في الأشكالِ، حيث "تصيرُ" الإجابة لغةً شعريةً، فيها إشباعٌ واعٍ للمصداقية الأولى، مع اقتراح أن لا يُعظّمَ تَدخّلُ الوعي المكتسبِ من شكّ المتلقي في مصداقية البرهة، وحتى "يكون" موقفُ الفرقِ واضحاً من حنان الوعي وجهامة الكتابة.
الطفلُ المفارق لدهشته البدائية، تُضاء في ذاكرته -الآن- صُور السماء والبحر الحسية والذهنية. في اللحظة المختارة التي فيها أطرح عليه أسئلتي في حالة سخاء- قصدية وفعلية- بالإغراءات ونبرات الدلال. فبدوره، يُرسلُ غموضاً وأشكالاً لأكثر من مضمون. و، بدوري، أتلقّي غموضاً وأشكالاً تدهشني وتفي أو لا تَفي بالجوهر، فأكثفُ من لغة الملامح والحركة، بوصفها حِيلاً وفُرُوضاً واقتراحات. الأسئلة، بشكل مستمر ودون انقطاع أو فواصل بُرَهِيَة كبيرة، وبخامات صوتٍ متغيرة؛ إذ أريدُ أن أتمكّن من استنساخ "برهة الانطباع" خارج الشروط، آملاً تلقي إشراقاتٍ أخرى مثلما كان للشعر الإشراق في لغةِ السؤال: "أنت تأخذيننا إلى السماء؟".
إنّ أيّ إدعاء يَعتبر، في هذه الحالة، أنّ الطفلَ مُتلقٍ ومرسلٌ ما يزال في "برهة الانطباع"، ما كان له أن يصمدَ أمامَ حقيقة أنني كنتُ بأسئلتي متلقياً منفصلاً، ومرسلاً منفصلاً وبعيداً عن برهته الحرة من الشروطِ، مثلما هو الطفل الذي صار منفصلاً وبعيداً كذلك. لقد صرتُ مقيماً ومستغرقاً، في الوقت ذاته، في "بطء زمن التلقي"؛ لكون أن وعيي(عقلي) يقصدُ ويفعل ضمن شروطٍ لتوطينِ الطفل في برهة مفارِقة، كانَ تمخّض عنها السؤال العفويّ، فهو الطفل -الآن- مقيمٌ ومستغرقٌ في "بطء زمن التلقي".
بالنظر في سخاء الإغراءات ونبرات الدلال والتحايلات؛ فإذا ما انتقلنا من لغة الحِيَل الشفوية إلى اللغة المكتوبة؛ يمكن لنا أن نعتبر أنّ السخاء بالاغراءات والتوطينات لا يعدو أن يكون اهتماماً بالطقوس المعدّة لاستدراج برهة الشاعر. والسؤال هنا: إلى أيّ حدّ تدعوننا أهميةُ الطقوس- لكتابة النصوص- للتخفيف من سطوة الشروط، إلى الحدّ الذي يُرادُ منا أنْ نعتبرها تفاعليةً، أي داخلة في التكوين؟ ألا يُعتبر اشتراطُ وجودِ أشياء الطقوس تحضيراً ذهنياً للدخول إلى الكتابة؟ أم أنه ما كان القصدُ من أشياء الطقوس أن "تكون" مادّةً متاحةً في يد الشعر، بقدر ما أنها ضرورة وحسب؛ (ضرورةٌ= شكل) دون جوهر؟!
أنْ "تحضر" الأشياءُ مُنفصلةً في نتيجةِ الشاعر، فهذا -ربما- يَجُرُّها مُنفصلةً عن صدق الذات، وبالتالي: عاطلةً عن الأداء والتفاعلية في النصّ. هنا، في المنطقة الحرجة، ممكنٌ أن "تظهر" نقيصةُ الوعورة في زمنِ علاقة المتلقي بالنص. أما أن "تكون" الأشياءُ مُتاحةً.. متاحة وكَفَى.. وفي ظهورات وملامساتٍ حِسّية حركية؛ بعيداً عن شروط أوصاف وأفعال الوعي لها، أي أن "تكون" ظاهرةً ومُتاحةً لاستعمال غير مُدبّرٍ ذهنياً، كأن: يركل شاعر علبةَ كوكاكولا في شارعٍ تافه، أو أن: ينقر بأصابعه على تفّاحة ماجنة، أو أن: يتحسّس ملمسَ المرآة دون امتداح العقل للفعل... أو كغير ذلك من صُور و أشكال الحركة، بما هي لا مشروطة بسلطة العقل؛ فهذا إنما يتيح لها التجلّي في الذات الشاعرة، خارج مهمّة التذكّر والوصف، وإخضاع الأشياء.
"أنتِ تأخذيننا إلى السماء"؟! لا مبالغة حين نلقّبُ الطفلَ في برهته الحرّة بمثالِ شاعرٍ وجوديّ تكمن فيه إرادة الشعر، وفجائية الإشراق، كحقيقة يمكن للفكر أن يتعمّد فيها، وكحقيقة يمكن، كذلك، لفكرِ المتلقي أن يتعمّق فيها. وسوف لن "تكون" للإرادة والإشراق الكثافةُ في الظهور-الآن- عند الطفل المستغرق بوصفه، مُتلقياً ومكتسباً لأساسات التنشئة من لدنِ الأهل في " بطء زمن التلقي". وستظلّ هذه الفلتات في كُمُونٍ يتجلّي كلّما تجلّت الإرادة والذاكرةُ والوعي الباطن في برهة الشاعر.
"أنت تأخذيننا إلى السماء؟!": هذا السؤال الذي تزامن مع ظهور البحرِ للحاسّة، يشكّلُ إجابةً، يمكن لنا أن نشتقّ منها أسئلةً للمعنيين بالأشكالِ في حقل يُرتِّبُ دهشةً فيها الائتلاف الفاجع بين الشك واليقين، وهو ما يسخو بفتح المجال لحشود اللغة التعبوية والبلاغية والصارمة. إنّ كلام الطفلِ أنّ البحرَ سماء، لم يكن وليدَ اعتباطٍ أو قصور في تنظيم الوعي أو لغوٍ فضوليّ، إنما هذا السؤال، بانطلاقه من عفويّة مُنشرحة مُنسابة "يكون" قد تشبّعَ بالفطرةِ الشعرية؛ وقد خَلَقَ الانشراحُ التجانس والتماثل بين موضوعي مكان(البحر/السماء) هُمَا في وعي(عقل) البالغين نقيضان. لقد حَضَرَتِ السماءُ في البحر، أو صارتْ بحراً في (بُرهة=حُريّة) الطفل. بهذين الحضور والصيرورة غاب التناقض التموضعي بين البحر والسماء، وعُدِمَ معامل الإزاحة العقلي، وقد انطوى سؤال الطفل على حُلولية ومُماهاة؛ إذ -في لحظة معينة- لا يَعي الطفل حقيقة انعكاس زرقة السماء على البحر، ولا يُسمح بأن يتاح له ذلك في "برهة الانطباع" الحسيّ.
عندما "البحرُ هو السماء"، فالطفل إنما يُعبّر بذلك، عن الحريةِ تعبيراً غير ساذج، تعبيراً لَدنِاً حسيّاً عَفوياً وحقيقاً بالدهشة؛ هذا "يكون" مطلوباً أن يظلّ "يظهر" في اللغة الشعرية، بعامةٍ، كونَ أنّ الكتابة إصرارٌ على الحرّية. هذا الإصرارُ، إذا ما حُرِّرَ من قصديته العاقّة للخيال، "يكون" له أن يُعادلَ إشراق الطفل: "البحر سماء". هذا الذهاب الأفقي، يَظلّ علامةً حقّةً لإقامة الشعر في لغة الأطفال؛ فلغاية محددة، ما كان لطفلٍ أن يذهب رأسياً للميتافيزيقا. فالطفل الذي عَبّرَ أنّ البحرَ سماء، كان، في الأصل، منفتِحاً، بإدراكات حسية غامضة، على السماء؛ دون أن "يكون" له الانفتاح، في البرهةِ، بإدراكات عقلية تعمل في نسق المنطق. وهنا لنا أن نعتبر أنه بالانفتاح على السماء، بإدراكات حسية غامضة، "يكون" هذا أعمق ما "يكون" عميقاً و ظاهراتياً معاً في الجمالية الغامضة عند الرومانطيقيين، إذ "يكون" لنا أن نلقّب الطفل بالشاعر الرومانطيقي. أما أنّ الانفتاح على السماء بإدراكات عقلية ونزوعات فكرية، فَلنا، هنا، أن نَفْهمَ أنّ نتائج وعلاقات وعي الطفل وفكره؛ إنما تتحقق تِباعاً وِفقَ معامل التقدّم في الزمن، حيث تتكشّف الكتابة عن جمالية التعايش والتحالف في بين الشعر والفكر.
فمن أشكال الوعي في مرآة التلقّي أن الطفل عندما جرّبَ البحر وجدَهُ ماءً؛ أنشأ، في التو، بطريقته التعبيرية، صلة فكرية بين البحر، بوصفه ماء، والسماء. جعلته هذه الصلة في تأمّلٍ واكتشاف سيظلّ يكفله الزمن، طيلة فترة الإقامة في الحياة. إنّ خبط الطفل المنشرح لِيَدِهِ في الماء، لهو شكلٌ من أشكال التعبير عن الحرية والنشوة، وحصول الفكر. فالأخير أوْصلَ الطفل إلى نتيجة أن البحر من السماء، وهذه النتيجة هي بمثابة شعرية في درجة من درجاتِ التفكير والبحث الميتافيزيقي الطفيف في "بطء زمن التلقي". إذ الذات تتّجه لأن "تكون" "ذاتاً كلية"، فهنا بشأن أخذ الزمن لذات الطفل أفقياً ورأسياً، لنا أن نقف حيارى أمام أسئلة أطفالٍ عن الله، والنار، وواحدية القمر، والظلّ، وغير ذلك من ظهوراتٍ يجلّيها الزمنُ في الذات الشاعرة، بما هي الذات والأشياء في برهةٍ تفاعلية.
أما عن تجلّي صورة إلتقاء السماء بالبحر، في إدراك الطفل الحسي، فإنّ صورة البرهة تجعل يقينَ الحاسة يرى أنّ البحر امتدادُ السماء. لذلك، فهو سماء. أو أنّ السماءَ امتدادُ البحر، لذلك، فهي، أيضاً، سماء. حيث ما كان باستطاعة الطفل أن يفكّر عِلْمياً؛ ليصلَ إلى حقيقة ارتخاء السماء الوهميّ ناحية البحر، ولا أن يفكّر بارتقاء آخِرِ البحر الوهميّ للسماء، إنما كان شَرْطُ الزرقة لدى الطفل كفيلاً بإظهار التجانس، هذا التجانسَ "تكون" إزاحته مشروطةً بانتقالة مُهِمّةً لوعي الطفل من البرهة. هذه الإنتقالة المهمة، هي الانفصال -في لحظة ما- عن الميوعة المجرّدة، وإلباسُ الفكرَ البرهةَ، في درجةِ إدراكِ عاجزٍ، لكنها مُتقدّمةٍ على الانطباع. هذا الإدراك العاجز والمتقدم في "بطء زمن التلقي"، كان لجهدهِ فضل إزاحة صورة التجانس:" البحر سماء"، وفضل إحلالِ صورة التماثل:"البحر مثل السماء". وفي تقدّم خطّي مستمر للوعي، "تظهر" صورةُ المطابقة بين بعدين أصيلي الطباق؛ فصورةُ: "البحر طبق السماء"، بما هي أصلٌ في إدراكِات الطفل الممتزجة، بما هي، الإدراكات، أثرٌ مُتغيّر. هذه المطابقة ستُزاح، بظهور صورة المقاربة: "البحر يشبه السماء". فأمام صورة التجانس لن "تكون" في العقل صورةٌ لزاوية الالتقاء، ولا وعيٌ بخيطِ الأفق. إنما صورةٌ روحها الشعرُ. وإذا ما عادلنا البرهة بالحرية، فإنّ روح الشعر في الصورة يكون مَعنيّاً بالامتداد والانفتاح على صورة الرغبة التي تفضح حنين الروح للخلاص، فعلى الرغم من مُبهمَات تكوين ذات الطفل، إلا أنها في فلْتة، كسؤال الطفل، يمكن لها أن تكفي بوصفها حنيناً صاعداً؛ والتي سوف تكرّسها الذوات الشاعرة في الأشكالِ، بعد أن تُعمّدُها في نهر الدلالات. وأمام صورة التماثل، سيُدركُ العقلُ الانفصال، و"يكون" له أن يتعايشَ جهدُ الحسّ ويتحالفَ مع جهدِ العقل شعرياً وفكرياً من أجل العودة إلى صورة التجانس المطلقة: "برهة الزرقة". فالصورةُ هِي المثال، وظاهراتيا ينتهي تعدّد الظهورات في معنى أو جوهر واحدٍ؛ فلدينا: البحر، السماء، بنطال الجينز، الغلالة الزرقاء على جسد امرأة، الكأس اللازورديّة.. وكلها ظهورات لجوهر واحد. مثلما هو: منديل أمي الأبيض، وضمادة الجريح، وحمامة السلام، والحليب، وطلاء الجدران بعد ذهاب عقدة الجيش من غزة.. فكلها ظهورات لجوهرٍ واحدٍ؛ جوهرٍ تسعى الروحُ الكلية المُعذّبة، له بحنين صاعد. وتَظلّ صورتا المطابقة والمقاربة تظهران في مسافة الحنين والتفكّر كأنيستين للروح، في حنينها الصاعد.
إنّ "برهة الانطباع" الذي كانَ وَقَفَ "بطءُ زَمنِ التلقي" نقيضاً لها، وقتَ أعتُبرَ أنّ دورَ متلقي أشكال النصوص، بعلاقة هناك، ليست هي الآن هي ذاتها "برهة الانطباع" ذات الصلة بسؤال الطفل وعفويته الشعرية. إنها الآن تُشكّل فضاءً وامتداداً حراً، بما هو الطفل في انشراحٍ حواسيٍّ. وهذا، على أية حالٍ، سوف لن "يكون" "يَحضر" إلا في اللغةِ الشعريّة البُرَهِيّة، وقد انطلق من لسان الطفل سؤال حرّ الكيفية: " أنتِ تأخذيننا إلى السماء؟". أما في "بطء زمن التلقي" فسوف لن "يكونَ" السؤالُ حراً الكيفية الشعرية، ذلك لأنّ الإدراك أو الوعي لدى الطفل "يكون" قد ارتقى، و"يكون" له التفريقُ بالعقل بين السماء والبحر، حتى "يصير" له كشفُ حقيقة الانعكاس التي تبطل الحواسيةَ ببرهنة الفرقَ المُدْرَك في "بطء زمن التلقي" بين البحرِ والسماء.
في حالة "البحر سماء" ليس للجسد = "الكتلة" ظهوراً طاغياً؛ هناك انسياب وامتداد حرّ. أما أنّ "الجسد هو القصيدة"، فهنا للكتلة والشكل واللغة ظهورٌ طاغ؛ هنا وَعيٌ وتأسيس وانصياع. وهذا إنما "يكون" في نقيض الحرية، والبدائية التي عليها ذكاء الشعر في لغة الطفل أقام.
- آخر تحديث :
التعليقات