quot;أسماءquot; ديوان للشاعر المغربي جمال ازراغيد (صدر عن شركة الريف للطباعة والنشر)

اضاءة أولى
ان الشعر لايكتب بالأفكار بل بالكلمات يقول الشاعر الفرنسي ملارميه وهذا يعني من بين مايعنيه ان الكلمات ليست علامات فارغة أو محايدة بل ذات مفكرة كما يؤكد الناقد بول فاليري حيث يقول quot;اللغة تفكر أكثر من الفكرة نفسهاquot; لذا فان قيمة الشعراء هي في قوة التقاطهم بالكلمات لما يرونه باهتا في افكارهم، وهذا المفهوم للكلمة في سياق اللغة الشعرية الحديثة حفز الشعراء الجددعلىالاهتمام بتاريخ الكلمات، وما جرى لها من تنوع وتلون ومن ثم الخروج بها عبر استعمالات غيرمألوفة من الحدود الدلالية التي رسمتها المعاجم الى مزيد من التوهج والحياة هي سياقات وتعابير من ابداع الشاعر، على نحو يصوغ كيمياء معاناته وصميم وجوده اليومي والحياتي، دون افتعال تجربة خارجية او الالتزام بتمثل ثقافي أو كتابة نمطية، فتأتي قصيدة كل شاعر حاملة بصمته الاستثنائية ومعلنة ميلاده من رحم اللغة، لهذا يحاول كل شاعر مصادقة بعض الكلمات أكثرمن غيرها، لكن الوقوف على الكلمات الصديقة لأي شاعر ليس أمرا ميسرا دائما لانها قد تكون أقل غرابة داخل سياقات القصيدة.

ان الحضورالمكثف لكلمتي الماء والمرأة في ديوان أسماء بحجم الرؤى يجعلاني أحدس أن علاقة حميمية وصداقة قوية تربط الشاعر جمال ازراغيد بهما، فالتعبير عن الفكرة لا يتم في معظم الأحيان الابهما وعبرهما وهكذا اذا تتبعنا حضور كلمة الماء والمفردات التي تنتمي الى نفس حقله مثل اليم، البحر، الدمع، النهر، السحاب، الغيم، السواقي، الجداول، المطر، الثلج، الموج....... سنلاحظ ان الكلمة تكررت 98 مرة في الديوان بتوزيع يترواح بين 5 الى عشر مرات في القصيدة الواحدة، كما نجد لوحة الغلاف تؤشر لهذا الحضور المائي من خلال الحضور البارز للون الازرق وهو يحيل على البحر/ مجال مائي شاسع وعلى السماء وهي رحم الماء، واذا كان هذا الحضور المائي يمكن ان يجد تبريره ظاهريا في كون الشاعر يعيش في فضاء جغرافي يحيطه الماء من كل حدب (الحسيمة والناظور) باعتبارهما مدن محاطة بالشواطىء والوديان وفي كون الماء مصدرالحياة والوجود اذ يقول عز وجل quot;وحعلنا من الماء كل شيءحيquot; وفي آية أخرى quot;خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائبquot; الا ان ثمة مبررات اخرى يمكن من خلالها فهم التمركز القوي للماء في جغرافية الديوان، فثمة علاقة خاصة بين الماء وذات الشاعروعطشها وتشظياتها وذوبانها في الامكنة والاخر الى الحد الذي يتبادل فيه الشاعرالموقع مع الماء فيصبح الشاعر ماء، والماء جسدا اذ يقول في قصيدته بوح على شفير الوتر

-اني هنا بحر
يتمسح في جسدلؤلؤة
ترمدت في البهاء
وانتعل رحلة صيف بلا ماء

ويضيف في قصيدة أخرى
للماء ابوح باهات سري
ولزرقته أشكو رماد أرضي

اذن عبرهذا التوحد بين الماء والذات الشاعرةيتم التعبير عن أسماء ورؤى باحجام مختلفة، فالماء وجه للفرح والوطن المفقودين
-يا أم حنظلة
اي شيء أهديك هذا الصباح؟
أقمحا ينمو فوق الربى وطنا؟
أموجا يطفو من تحت الماء نصرا؟

والماء أيضا عنوان الامل المفتوح والولادة المستعصية والمنتظرة في آن
حملت على جلدي كل أسماء العباد
الذين يهجهجون اشتعال المدى
امتداد الصدى
على صدر المطر
فليكن اسمي واسمك ياوطني
آية تسبح بحمد السؤال
وعشق المطر.. المطر

ويحضر الماء كشاهد على وجد عاصف معلق على حبال المستحيل

قبالة بحر يموج شجيرات الرغبة
تنحت عاشقة
من ناحية رمل يستدين
وقع المحال.
صمت السحاب وقت الغروب

كما انه يأخذ تيمات الجبروت والغموض والقسوة والموت كما في هذه الامثلة
-بالثلج وحده يتحجر جبروت أغبياء القرون الساخطة
-البحر فضاء اصوات عصية على البوح
-اراك يابحر
تتسلى بشهوة جثث كفناها بالزرقة والماء

هكذا وعبر هذه التيمات المتعددة تتمطى خريطة الماء في أروقة القصائد ويتخذ مفتاحها/الخريطة، ألوانا مختلفة. أما بالنسبة لكلمة المرأة والمفردات التي تنتمي الىنفس حقلها مثل الصبايا، العوانس، الأنثى، الريفيات، الغواني، العاشقة، البغايا، الزوجات، النساء، المراهقات... فتكررت في الديوان 80 مرة بتوزيع يترواح بين 2 الى 6 مرات في القصيدة الواحدة، وهذا الحضور الانثوي يعكسه لون غلاف الديوان الوردي أيضا كما يتمظهر من خلال توظيف الشاعرالمكثف للضمير المخاطب المؤنث /أنت والضمير الغائب هي .. وتأخذ مفردة المرأة في الديوان كما مفردة الماء تيمات متعددة يحتفي فيها الشاعر بالمرأة الواقعية باعتبارها موضوع الرغبة والوصال والماء الذي يطفىء جمر الاشتهاء

-دليل المدينة المكبوتة
اذا مرسحاب نساء
تكلست عقارب الزمان
واهتز الرجال في دقيقة صمت
لاحتلام وارد بالمجان

لكن الشاعر لايقف عند هذا المعنى الجسدي يل يستعيرتوهج واشراق الجسد الانثوي لتشكيل وحياكةصوره الشعرية كما في هذه الامثلة

-مدللا تدلل الانثى الطرية صيف الشتاء
-ماء يمرح في كأسي
مثل خيال انثى ليل القران
-مثل صدر مراهقة اختلت والمرآة
اراك.. اراك يابحر

وتحمل المرأة/الام تيمات الارض والوطن
-هي ام..
وكل الامهات في حداد
يبكين
المركب المسافر بلا شراع
(من قصيدة مقامات للعشق الفلسطيني)

اراك يأمي الحنون
تحضنين طفلا ولد في حضن لوزة

(من قصيدة سلام على الحسيمة)

وتأتي المرأة كمؤشرعلى الفرح في خاتمة الديوان بعد رحلة حزن طويلة انطلقت من اول قصيدة
أطلت من النافذة
حين امتلأت السماءشمسا
وعلى جبينها حروفا يخالطها السعد
ص
ب
ا
ح
الخير


اضاءة أخيرة
من خلال تتبع خرائط الماء والمرأة في جغرافية الديوان، نلاحظ انها تتداخل فيما بينهافتتناغم ظلال المرأة مع ترقرقات الماء في حقول دلالية متكاملة يطفىء فيها كل منهما عطش الاخر، او بالاحرى ذات شاعرة تواقة الى الارتواء وهو تكامل أزلي ويكفي كدليل على ذلك ان نتذكر كيف كانت المرأة في الحضارة الفرعونية تقدم قربانا الى النيل سعيا الى اطفاء طوفانه وهيجانه وكيف تظهر المرأة في الرسوم البابلية القديمة، حاملة جرة ماء كدليل على الحاجة الى الارتواء لتحقيق الخصوبة، ولاشك ان توحد الشاعر بهذا الثنائي الخصيب يكشف عن مسعى حثيث الى تحقيق الخصوبة واستعادة دفء الرحم / رحم الحياة، رحم اللغة والقصيدة، رحم الحلم ...وحين لا تفلح في ربط الجسور مع الاخر الانثوي تكون الطبيعة بمثابة تعويض قسري كما في قصيدة اوراق.
من قصيدة سائبة، حيث ترمم حجرة النكور (*) خواء الذات في مكان صامت صلب ومعتم يسيجه غياب المرأة بكل تيماتها المرأة/ الجسد /المرأة الابداع، الفرح ...

واذاكان الفيلسوف باشلار يرى ان الابداع يعتمد الحدس والشفافية والطلاقة والعمق وهي جوهر الانوثة وحقيقتها، وان الكتابة تنبعث من الاصطراع الداخلي بين المكبوت والمعلن بين الرغبة في التحقق والغياب المقنن بين التوق للتبدل والتغير والسكون القسري، فلاشك ان ديوان أسماء بحجم الرؤى يتحرك من وحي هذه الدوائر التي تحقق للذات القارئة نشوة قصوى وتقنعه بخصوبة قصيدة النثر حين تكتب بحس شعري جيد

(*) جزيرة تقع قرب شاطىء بالحسيمة بالمغرب مستعمرة من الاسبان

www.fatimabouzian.jeeran.com