أسامة العيسة من القدس: قبل ظهر يوم السبت الخامس عشر من شهر كانون الثاني (يناير) 2005، انطلق موكب جنائزي حزين، من أمام مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، إلى مسجد البسطة التحتا، حيث صلي على الجثمان المحمول، قبل مواراته الثرى في مقبرة الباشورة.
ولم يكن صاحب الجثمان سوى هشام شرابي (1927-2005)، المفكر العربي الفلسطيني، الذي وصل العاصمة اللبنانية بيروت، قبل ذلك بسبع سنوات، لتنجح محاولته الثانية والأخيرة بالإقامة الدائمة بها، والى الأبد هذه المرة، تهب عليه نسائم مدينته الأولى عكا، عبر مياه المتوسط الهائجة، صديقة طفولة شرابي، والتي طالما تكسرت على أسوار عكا التي لو كانت تخاف البحر لما سكنت بجواره، كما يقول المثل الفلسطيني الشائع. ولكن عكا التي لم تخش البحر وهزمت الغزاة، سقطت عام 1948، بينما كان ابنها هشام، في بيروت يدرس في الجامعة الاميركية، وقدر له أن يحملها معه أينما ذهب، حتى استقر في الولايات المتحدة الاميركية، بعد سلسلة خيبات تعرض لها، إذا كانت أولها وأعظمها النكبة الفلسطينية، فان أكثرها محورية على المستوى الشخصي والفكري هي، إعدام انطون سعادة، زعيم الحزب القومي السوري، والتي جعلته يقرر الهجرة، بينما بقي ظل سعادة، رغم تجاوز شرابي النقدي لكثير من طروحاته، يحيط به، حتى الرمق الأخير.

سعادة الأب والأستاذ
حار كثيرون في العلاقة الخاصة جدا بين شرابي وانطون سعادة، وهي علاقة فكرية وشخصية، حتى شرابي يبدو انه حار في سببها فكتب عام 1993 quot;منذ لقائنا الأول، غمرني انطون سعادة بعطف واهتمام كبيرين، ربما لأني كنت ادرس الفلسفة (وكان يهوى الفلسفة والتاريخ بخاصة)، وربما لأنني كنت فلسطينيا ومن عائلة مسلمة، أو لأنه توسم في موهبة خاصة تفيد الحزبquot;. ورغم أن شرابي، كما يتضح في كتاباته الاجتماعية-الفكرية قطع شوطا فكريا نقديا هاما وبعيدا، إلا انه بقي واقفا عند انطون سعادة الذي شكل له، دون أن يذكر ذلك (الأب) الذي لا يستطيع الفكاك منه. وحاول شرابي تفسير ذلك قائلا quot;مثل لي انطون سعادة الرجل الحديث بالمعنى الكامل للكلمة. منذ ذلك الوقت برز أمامي الفرق الفاصل بين الحداثة الأبوية المتخلفة (التي كان من ابرز صفاتها اعتبار كل ما هو أوروبي حديثا ومتفوقا وكل ما هو وطني تقليديا ومتخلفا) وبين الحداثة المبدعة التي تقف إزاء الغرب موقف المساواة والتحدي، وتقف إزاء التراث موقف النقد والإبداعquot;. واغدق، في كل ما كتب أوصافا كبيرة ومختلفة على انطون سعادة، وقارن دائما بينه وبين المفكر الخصم شارل مالك، وكانت المقارنة دائما في صالح سعادة وشملت ليس فقط أفكارهما بل سلوكهما الشخصي.
بعد دراسته في الجامعة الاميركية ببيروت، سافر شرابي إلى أميركا ليتابع دراسته للدكتوراة، ولكن سعادة ألح عليه بالعودة لينشط بجواره في الحزب القومي السوري وهو ما حدث، ولم يغادر لبنان إلا بعد إعدام سعادة عام 1949، وغادرها محطما quot;في حالة تقارب الانهيار النفسيquot;، كما وصف ذلك فيما بعد، بعد أن خاض تجربة بقى تأثيرها عليه غالبا حتى رحيله.
(نقد المجتمع العربي)
عمل شرابي في واشنطن، أستاذا لتاريخ الفكر الأوروبي الحديث في جامعة جورج تاون، وتعرض لتأثيرات فكرية أخرى، غير تأثيرات سعادة، والى حد كبير مناقضة لها، ومن بينها مثلا، الأفكار الماركسية، وبقي محافظا على موقف مبدئي من المشروع الصهيوني في فلسطين، وفي مراحل كثيرة من حياته، انطبق على شرابي وصف غرامشي للمثقف العضوي، الذي ترك واشنطن لينضم للفدائيين في غور الأردن، ولكن لفترة لم تطول. وبنى شرابي، شهرته، كعالم اجتماع، على نقده للمجتمع العربي والنظام الأبوي، وصدر له بالعربية والإنجليزية، كتابا هاما اختار له عنوانا متواضعا هو (مقدمات في دراسة المجتمع العربي) وسرعان ما تلقف المثقفون العرب الكتاب الذي تأثر كثيرون به.ورغم النجاح الأكاديمي الذي حققه شرابي في واشنطن، إلا أن حلم العودة والاستقرار في بلد عربي ظل يلازمه، وحاول، في منتصف سبعينات القرن الماضي، الاستقرار في لبنان نهائيا، ولكن نذر الحرب الأهلية، التي كانت تهب، من أكثر من مكان أحبطت مشروعه. ولكن فشل مشروعه بالاستقرار في لبنان، أفضى إلى مشروع مذكرات هامة كتبها، وصدرت بعنوان (الجمر والرماد: مذكرات مثقف عربي)، توقف فيها شرابي، عند مراحل تكوينه الفكري ودراسته في الجامعة الأميركية في بيروت وعلاقته مع ميخائيل نعيمة ولكن الأهم علاقته مع انطون سعادة، ونشاطه الرئيس والهام في الحزب القومي السوري، الذي تمتع بقوة كبيرة في خمسينيات القرن العشرين وارتبط معه عدد من كبار المثقفين العرب مثل أدونيس ويوسف الخال وشرابي نفسه. ولكن المثقف الذي مثله شرابي، وقدم نقدا ملفتا للمجتمع العربي، لم يتناول في مذكراته تلك، بنفس القدر من النقد الواجب، لتلك المرحلة التي كونت مثقف عربي بارز، وكان في ذلك ربما ضحية أبوة فكرية تكوينية قاهرة، بطلها انطون سعادة، رغم تحذيره المتكرر من المجتمع الأبوي ومخاطره، ورغم انه فيما قدمه في مشروعه الفكري وجه صفعات معتبرة للنظام الأبوي. ورغم حرص شرابي إضافة عنوان جانبي دال لسيرته تلك (مذكرات مثقف عربي)، إلا أن ذلك لم يمنع من التساؤل عن تجاهل شرابي لفترة تكوينه الأولى في فلسطين حيث ولد وترعرع، خصوصا وانه ارتبط بقضية ذلك الشعب مدافعا عن حقوقه، ولم يتخل عن موقفه أو يغيره.

عودة للجذور
وبعد نحو عشرين عاما من صدور المذكرات الأولى، عاد شرابي إلى أعوامه الأولى بفصول نشرتها بعنوان (صور الماضي) لتكون سيرة ذاتية للعقدين الأولين من حياته في ارض الوطن، واففتح شرابي مذكراته بلحظة درامية، وهي إعلامه من قبل صديقه الطبيب بوجود سرطان جنيني في غدة البروستات، وان عليه إجراء فحوصا إضافية للتأكد من عدم انتشار المرض الفتاك في باقي الجسم، وهو ما أثبتته تلك الفحوص فيما بعد. وبأسلوب أدبي مشوق ومميز، جدلي وعميق، قدم شرابي لمحات فلسفية ووجدانية عن رؤيته للحياة والموت، والاهم استعادته لماض وأحداث تفصيلية يقول انه نفسه كان نسيها وعادت بقوة. وتحدث شرابي عن مدينة النشأة يافا، ومدينة جده عكا ومدينة رام الله التي درس بها، وقدم حياة نابضة عاشها في تلك المدن الثلاث ومدن فلسطينية وعربية أخرى كبيروت وبلدات لبنانية وصفها بدقة متناهية. وباح، شرابي، بشذرات من حية أسرته، وان لم يكن مثل الذي فعله آخرون مثل إدوارد سعيد في (خارج المكان) أو لويس عوض في مذكراته.

نقد الأب ولكن
ومن بين الشخصيات التي توقف عندها شخصية والده الذي يقول عنه quot;كان والدي بطريكا في شخصيته وفي علاقته بعائلته وبالمجتمع حوله، ولم يكن محافظا ولا حديثا بل جمع بين الاثنين، لم اعرفه جيدا، فلم يحدثني إلا بالأمور العملية ومن موقف الأب العارف والآمر، رغم عطفه علينا وتفانيه في القيام بما يعتبره واجباته العائلية فقد كانت حياته خارج البيت أكثر منها داخله. لم تكن علاقته بوالدتي علاقة تفاهم ووئام، وربما لفارق العمر بينهما، أو للاختلاف في شخصيتيهما، فقد كانا يختلفان لأتفه الأسباب، وكنت في معظم الأحيان اشعر أن أمي على خطأ، فحين كان أبي يحاول تسوية الأمور كانت هي ترفض وتعاندquot;. ويضيف بنبرة أسى لا يمكن إغفالها quot;كم مرة رايته يغادر البيت وهو حانق محبط بسبب كلمة قاسية تفوهت بها لحظة خروجهquot;. ويصف العلاقة بينه وبني أبيه بأنها طقوسية quot;لم اسمعه مرة يروي نكتة أو يضحك بملء قلبه. لا اذكر أني دخلت معه يوما في حوار أو حديث شخصي أو أننا ضحكنا سويا حول أي موضوعquot;. ورأى شرابي بان مسلك والده لم يكن مسلكا ذاتيا quot;بل مغروسا في نمط القيم والممارسات التي نشأ عليها، في أواخر العهد العثماني، في محيط أبوي، يمارس فيه الكبار والذكور السلطة المطلقة ويكبت فيه الصغار والإناث كبتا كاملاquot; ويطرح سؤالا quot;هل تغيرت الأمور عن ذي قبل؟quot;
توفي والد شرابي عام 1956 في عمان، بعد أن ضاعت يافا وحيفا وعكا، ويتذكر أخر لقاء معه قبل وفاته وكان قبل تلك الوفاة بعامين، حين اخذ الوالد يحدث ابنه عن يافا والعودة إليها وعن المنزل الذي كان يعتقد الوالد انه بقي كما هو، ولم يكن يدري أن القادمين الجدد إلى يافا اخذوا المدينة والمنزل وكل شيء ليتركوه قبل أن يموت يسال ابنه quot;هل تتذكر عبير زهر البرتقال في الربيع؟quot; ذلك العبير الذي quot;كان يسري في الشوارع ويدخل البيوت ويعبق فيها ليلا ونهارا طوال أسابيع، فتتغير نفسية سكان المدينةquot;.
وفي شبه تلخيص لعلاقته بوالده كتب شرابي quot;كنت أحيانا عنيفا في منهجي النقدي الذي سلكته في كتاباتي حول النظام الأبوي وأثره في تطور شخصية الفرد في مجتمعنا العربي. وربما قسوت على الأب في تشخيصي له سلطة ورمزا. لا أريد هنا أن اظلم الشخص الذي كان أبي. فهو في ذاكرتي أب حنون، وله في قلبي مكانة محفوظة لا يغيرها الزمن. أنا ألان مثله أب، رغم أني لم اختر أن أكون (أبا)، فنحن نصنع أباء قبل أن يولد أبناؤنا بزمن طويلquot;.

نساء ايضا
بيروت لم تكن فقط مرقد شرابي الأخير، وتكوينه الفكري ونشاطه السياسي، ولكنها أيضا، مكان المغامرات النسائية الأولى، وتحدث شرابي بصراحة عن ما اسماها quot;لحظة انتهاء براءتيquot;، عندما قصد، مع صديقين له quot;أحد البيوت خلف ساحة الشهداء، سألتني سولنج (يحضرني اسمها فجأة!) وأنا متمدد على الفراش لا ابدي حراكا، وهي إلى جانبي جالسة على ركبتيها، عارية تماما إلا من ابتسامة لطيفة: كيف بتريد؟ لا افهم سؤالها. فتسألني مرة أخرى وهي تلمسني برفق. وعندما لا أجيب، تمسك بي، وترفعني بخفة مدهشة وتطعجني إلى جانبي فلا ادري إلا وأنا في قبضة محكمةquot;. وتم ذلك على هامش العلاقات الجامعية، في النصف الثاني من أربعينيات القرن العشرين في بيروت، التي كانت أكثر محافظة، وتتضمن علاقات محسوبة بين الطلاب والطالبات. وفي تلك الأثناء، ارتبط شرابي، بعلاقة مع طالبة بولونية اسمها هيلدا، التي حين التحقت بالجامعة مع زميلات بولونيات كثر غيرن طبيعة العلاقة بين الطلاب العرب الكثر والطالبات العربيات المعدودات. ويتذكر شرابي، بدقة عجيبة، مواعيده مع هيلدا وفي أية الأماكن جلسوا وكم مرة امسك يدها وكم مرة هي فعلت ذلك، ولا تكتمل العلاقة الجسدية بينهما بسبب مخاوفه، ورحل شرابي وهو يحتفظ بصور لها، وأوراق تتضمن كلمات بخط يدها.
وتجربته مع هيلدا، ليست التجربة النسائية الأولى، فسبقتها فتاة يهودية تدعى (ليا)، احتفظ بصورة له معها وهما بملابس البحر، التقطت على شاطئ عكا في صيف 1945.
وكانت ليا، تعمل سكرتيرة، دعاها صديق لشرابي للسباحة معهم، في احد أيام ذلك الصيف البعيد في عكا، فصارت تأتى كل أسبوع حتى نهاية الصيف. وبعد السباحة، كان الجميع يذهبون الي بيت صديقه quot;ونرقص التانغو على أنغام الجرمافون القديم. كانت ليا أول امرأة أضمها إلى صدري. علمتني خطوات الرقص، منها ومن حزقيل جوري تعلمت أن لا افرق بين البشر إلا في أحوالهم الاجتماعية وصفاتهم الذاتية. في نهاية الصيف عقدت خطبتها على زميل لها، ولم أرها بعد ذلكquot;.
ثالث الثلاثة
وحزقيل جوري طالب يهودي عراقي تعلم منه شرابي الكثير عن الفن، ولكن علاقته انقطعت به، وليس هو الوحيد الذي تعلم منه شرابي فهناك ميخائيل نعيمة، الذي كان له في فترة من الفترات بمنزلة (المعلم الروحي)، ولكنها فترة لم تطول، مفسحة المجال إلى انطون سعادة، الذي أصبح الأستاذ والأب والمعلم الأكبر.
ورحل شرابي، لاحقا باثنين، من المع المثقفين الفلسطينيين، تشابهوا في ظروفهم وتكوينهم، ونجاحهم، واختلفوا أيضا في أشياء أخرى كثيرة، وهما ادوارد سعيد، المفكر المعروف على نطاق واسع، وإبراهيم أبو لغد، الذي اثر كثيرا في توجهات سعيد اللاحقة، وقرر في أخر سنوات عمره، الاستقرار في فلسطين، أستاذا في جامعة بير زيت، وفعل المستحيل كي يدفن في مدينته يافا، وتحققت أمنيته، رغم المصاعب التي وضعتها أجهزة المخابرات الإسرائيلية.