قيس قاسم: quot;مركز التجارة العالميquot; فيلم ليس له علاقة بالسياسة، انه يحكي قصة حقيقة، جسدها بطلان، شرطيان شجاعان، رفضا الموت وأختارا الحياة وهما تحت الأنقاض، فيلم يتحدث عن معاناة الناس وروح المساعدة الكبيرة في دواخلهم. هذا الكلام قاله المخرج أوليفر ستون بأشكال مختلفة قبل عرض فيلمه بمدة ليست بالقصيرة وظل يردده حتى بعد عرضه. من يشاهد الفيلم يفهم أصرار ستون على أبعاد تهمة quot;السياسةquot; عن فيلمه، وهو الذي أخرج أكثر الأفلام تماسا مباشرا بالسياسة: quot;ج ف كنديquot;، quot;بلاتونquot;، quot;نيكسونquot;، quot;ولد في الرابع من تموزquot;، quot;قتله بالفطرةquot;. وحتى فيلم quot;ولا يوم أحدquot; يحمل السياسة بين طياته رغم أنه يتحدث عن عالم كرة القدم الأمريكية، سيفهم المشاهد، مع حركة الشريط تدريجيا، ان كل ما كان ينتظره من أوليفر ستون لاوجود له في هذا الفيلم: لا بحث عن الحقائق الخفية، ولا متابعة لما أصطلح عليه، نظرية المؤامرة، وما أكثر أنتشارها، بعد تفجيرات 11 سيبتمبر! لا نقد لسياسة بوش، ولا لسياسات الحرب الخارجية التي تبناها صقور الادارة الأمريكية بعد التفجيرات! لا رؤية مستقبيلية بديلة ولا نظرة نقدية للتاريخ كالتي قدمها ستون سابقا. لقد عرف العالم أوليفر ستون مخرجا quot;سياسياquot; وكسب، بفضل همه هذا، أهمية أستثنائية كونه مخرجا مختلفا كان يبحث عن الحقيقة ويرى العالم من منظور فنان مختلف، لايقبل بكل ما يقوله الساسة، فيعري ما يخططون له بالسر ويكذب ما يقولونه في العلن. والأن، وما دام ستون أختار لفيلمه الجديد ان لا يكون سياسيا فعلينا أحترام أرادته، فهذا في نهاية المطاف أختياره الشخصي، والذي يحتم علينا موضوعيا السعي لفهمه، والقبول بفكرة ان quot;مركز التجارة العالميquot; ما هو بفيلم سياسي!
لكن، ودون ارادة منا، سيطرح السؤال التالي نفسه علينا مباشرة: إذا لم يكن سياسيا فأي فيلم هو؟

تمهيد عاطفي
بذكائة المعروف وقدرته الحرفية العالية يحاول ستون جر المشاهد الى مناخ درامي بحت، يحوي داخله قصة المنقذين ويل جمينو (الممثل مايكل بينا) وجون ماكلولين (نيكولاس كيج) وما تعرضا له في يوم دراماتيكي غير عادي، يوم الحادي عشر من سبتمبر، وهما يؤديان واجبهما الروتيني في وحدة مراقبة الموانيء التابعة لشرطة نيويورك. في فجر ذلك اليوم، وفي مدخل سينمائي رائع، ينقلنا ستون عبر أنتقال رئيس الوحدة جون ماكلولين بسيارته الخاصة الى وحدته، الى أجواء مانهاتن. صورتها وهي تستفيق لاتشبه صورتها التي عرفنها على يد المصوريين الأخرين. نبض الحياة يبعد عنا صورة المدينة التجارية والمراكز العالمية الكثيرة. أنها مدينة رائعة تستفيق على نبض حياة الناس العاديين فيها. مع حركة أنتقال الشرطي الأخر، تكتمل صورة المدينة، لنصل الى مركز الوحدة، حيث توزع المهامات اليومية بالشكل المألوف. لكن وللحظة واحدة يخيم شبح طائرة قريب منهم جدا، ينشر أحساسا ان ثمة شيء قد حدث، أو سيحدث. بعد قليل تصل الأخبار اليهم: طائرة مدنية أصطدمت بأحد برجي مركز التجارة العالمي. وعلى الفور يكلف ماكلولين بتشكيل فرقة أنقاذ صغيرة، والتوجه مباشرة الى مكان الحادث. في الطريق تسري أثار الصدمة بين أعضاء الفرقة وهم ينظرون الى الحريق الهائل والى الدمار الذي سببه الأصطدام. لقطة، دهشة رجال الشرطة، المذهلة ستسري مباشرة الى داخل المتفرج، فيستسلم لشعور الخوف والكارثة. من هذة اللحظة سيحاول ستون الإمساك بالخيط العاطفي للفيلم، وسيشتغل طيلة الوقت عليه، حتى يتستر به على أفكاره السياسية، التي أراد تسريبها بين مصل حقنات العاطفة المتتالية والتي ستغذيها حالة الذعر التي يعيشها أهل وأقارب الشرطيين اللذين طمرا تحت الأنقاض قبل تنفيذ مهمتهما: أنقاذ المحصورين في الطوابق العلوية المشتعلة.

سياسية مبطنة
بلمح البصر تهبط ناطحة السحاب على رؤس أعضاء فرقة الأنقاذ، وبسرعة هائلة يتنبه قائدها للخطر فيعطى تعلميات سريعة للتوجه الى جهة المصعد. بعد لحظات من الفوضى ومن مشاهد الذعر واليأس تنقلنا الكاميرا الى صورة ركام هائل، ألاف الأطنان من الكونكريت والصلب والزجاج، تحته يرقد ويل وماكلولين الناجيان الوحيدان. خبرة الأخير

فيلم لاوليفر ستون يوجه الانظار لاسامة بن لادن
المهنية ينقلها بحرص الى زميله ويل: لاتنم ، فينام الدماغ ويموت الجسد. من أجل ذلك عليهم الحديث قدر مايستطيعان. حديث أشباه الموتى، والعجز عن الحركة بسبب ثقل الركام فوقهما والكسور والجروح، سيستغله ستون لضخ أكبر كم من التأثير البصري القادر على تهيج العواطف. حديث جله عن عوائلهم. أما ردود أفعالها فستعكس روح المؤازرة والتضامن داخل العائلة الأمريكية. بالتوازي بين مشاهد حياة العوائل في الخارج وبين صورة الرجلين الرتيبة تحت الركام، في العتمة، ستتجمع صورة الوطنية الأمريكية الحقة التي أراد ستون الأعلان عنها، وبالتالي الأعلان عن quot;موقفه الوطنيquot; أزاء الخطر الذي يهدد أمريكا. ومن أجل ترسيخ هذة الصورة يظهر لنا فجأة ، وكأنه ملاك هبط من السماء، جندي المارينز (الممثل مايكل شانون) رمز الخير والخلاص الأمريكي، أنه المنقذ الذي سيتطوع لتخليص الشرطيين من عذابهما. بمثابرة وعزيمة لاتلين يصل المارينز الى مكانهما فينقذهما، في مشهد يجتمع فيه رجال أخرون هم رمز الخير الأمريكي. في نهاية الفيلم يظهر نص مكتوب يوضح مصير الشرطيين وأيضا أشارة الى توجه جندي المارينز الى مناطق أخرى خارج أمريكا، ربما العراق أو أفغانستان، لينتقم هناك من الأشرار. هذا الإيحاء حرص أوليفر ستون على توصيله، وبه ثبت موقفه من الحروب التي بدأتها أدارة بوش، والتي بررها بطريقة غير مباشرة في فيلمه. فالحرب، حسب ما أراد، بدأها الأشرار وعلى الخيرين الأنتقام منهم وتخليص البشرية من شرهم. ترى هل كان هذا موقف ستون من حرب فيتنام؟ أظنه موقفا جديدا سجله ستون بوعي من حروب أمريكا الأخيرة، والتي تذرعت بهجوم الحادي عشر من سبتمبر لتبريرها، أنه أستجابة الى خطاب بوش الذي ألقاه بعد التفجيرات والتي وصفها بأنها أختبار ألهي لقدرة أمريكا على تجاوز المحن، والذي حرص ستون على تكراره بطرق مختلفة داخل شريطه. الغريب ان ستون وفي طريقه لترويج فيلمه صرح في أكثر من بلد بكلام هاجم فيه سياسة بوش وقال في بعضه (نشر في صحيفة يوتبوري بوستن) .. لقد كان رد فعل أمريكا بعد التفجيرات مبالغ فيه كثيرا. لو وصل المرشح غور الى الرئاسة لما أرتكبت أمريكا هذا القدر من الأخطاء. أن البدء بحرب العراق كان غباءا. كان علينا، كما ظهر في فيلم quot;ميونيخquot;، أرسال مجموعة من الرجال، متدربين تدريبا خاصا، في مهمات للتخلص من الأرهابيين الحقيقيين. هذا الكلام لم نلمسه في فيلمه، بل على العكس قدم لنا فيلما حمل أفكارا سياسية مبطنة قريبة من أفكار أدارة بوش. قد يكون الفيلم سقطة منبعها النظرة الغاضبة لأحداث سبتمبر، نظرة وصلتنا بوضوح لا لبس فيه. لقد قال ستون كلمته في حدث زلزل العالم وما زالت أثاره التدميرية سارية الفعالية، ولنا كلمتنا فيما أنجز: فيلم quot;مركز التجارة العالميquot; متوسط المستوى فنيا، متراجع عما قدمه ستون في سابق أعماله. فيلم سيء على المستوى الفكري.