إصداران جديدان من مكتبة الإسكندرية بمناسبة
الإحتفال بالمئوية السادسة لرحيل العلامة عبد الرحمن ابن خلدون
إيلاف: تنظم مكتبة الإسكندرية، في الفترة من 5 إلى 7 ديسمبر، إحتفالية كبري بمناسبة مرور ستمائة عام علي رحيل المفكر العربي العظيم quot;ابن خلدونquot;، وذلك على عدة مستويات أولها قيامها بعقد مؤتمر دولي يناقش الإسهامات الحضارية والفكرية لابن خلدون في كافة مجالات المعرفة، ودورها في النهوض بمنظومة الفكر الإنساني حتى يومنا هذا، حيث يشارك في المؤتمر عدد كبير من علماء الإجتماع العرب والدوليين، بالإضافة إلى عدد كبير من الأعلام الثقافية والمفكرين السياسيين. بالإضافة إلى ذلك فإن مكتبة الإسكندرية أعدت عدد من الإصدارات في هذه المناسبة:
الإصدار الأول: مع ابن خلدون في رحلته
تصدر إدارة الإعلام في هذه المناسبة كتاب مصور بعنوان quot;مع ابن خلدون في رحلتهquot; والذي يصور قصة حياة ابن خلدون، مولده ونشأته.. حياته في قصور المغرب والأندلس .. قدومه إلي مصر واضطلاعه بالتدريس في مدارسها ومساجدها .. لقاءه بالغازي المغولي تيمور لنك تحت أسوار دمشق .. من عاصروه من أعلام الفكر الإسلامي ومن حكام الإسلام .. الأماكن التي ارتبط بها وشهدت تألق نجمه خاصة في مصر وفي قاهرة المعز حيث قضي ابن خلدون ربع قرن حيث مثواه الأخير. وقد ولد عبد الرحمن ابن خلدون في مدينة تونس في غرة شهر رمضان سنة 732هـ، لأسرة عريقة عرفت بمكانتها في بلاط ملوك وأمراء المغرب والأندلس، حيث كان جده الأكبر خالد بن عثمان المعروف بخلدون ممن دخل إلى الأندلس، ونزل في مدينة قرمونة وأنشأ بها بيته، أما بنوه من بعده فقد انتقلوا إلى أشبيلية. استمر بنو خلدون في أشبيلية، حتى تفككت وحدة الأندلس، وأخذت مدن المسلمين وحصونهم تنهار مع ازدياد سرعة حركة الاسترداد، فخشي بنو خلدون سوء العاقبة، فغادروا أشبيلية موطنهم القديم، إلي المغرب يتنقلون بين مدنها حتى استقروا في مدينة تونس حيث ولد ابن خلدون.
نشأ ابن خلدون في بيت علم ورياسة، فقرأ القرآن وحفظه، وتفقه في القراءات السبع ودرس شيئًا من التفسير والحديث والفقه، ودرس النحو واللغة، على أشهر أساتذة تونس في مسجد القبة quot;مَسْيد القبة - حسب اللهجة التونسيةquot;. لما بلغ ابن خلدون الثامنة عشرة من عمره، حدث حدثان خطيران عوقاه عن متابعة دراسته وكان لهما أثر بليغ في مجرى حياته، الأول: الطاعون الأسود الذي اجتاح العالم سنة 749 هـ، والثاني: هجرة معظم العلماء والأدباء من تونس إلى المغرب سنة 750 هـ.
فعندما بلغ ابن خلدون العشرين من عمره استدعاه محمد بن تافراكين حاكم تونس، لكتابة العلامة عن محجوره (وصيه) وأسيره السلطان الفتي أبي إسحاق. في تلك الأثناء بدأ ابن خلدون حياته العامة، متطلعًا إلى مجد أجداده من بني خلدون، حيث خرج ابن خلدون من تونس وواجهته فاس، فسعى لمقابلة سلطانها أبي عنان فارس، حيث أكرمه السلطان، وعينه كاتبا له في عام 755 هـ وضمه إلى مجلسه العلمي في فاس.
لكن طموح ابن خلدون دفعه إلى الاستقالة من مناصبه، والرحيل عن مدينة فاس، حيث اختار ابن خلدون الرحيل إلى الأندلس، تحدوه الآمال في مستقبل أفضل، فقصد مدينة سبتة سنة 764 هـ، ثم جاز منها إلى جبل الفتح (جبل طارق) في الأندلس، قاصدًا مدينة غرناطة، فوصل إلى غرناطة فاحتفى به السلطان محمد الغني بالله ووزيره ابن الخطيب، في العام التالي لنزوله غرناطة، أوفده السلطان محمد الغني بالله سلطان غرناطة إلى أشبيلية سفيرًا من قبله إلى بطرس القاسي ملك قشتالة، حيث أدى ابن خلدون مهمته بنجاح، عاد بعدها إلى غرناطة فأكرمه السلطان وأقطعه قرية البيرة بمرج غرناطة. غير أن العلاقة فترت بين ابن خلدون وسلطان غرناطة ووزيرها ابن الخطيب، فقرر الرحيل من الأندلس. فركب البحر من ساحل مدينة ألمرية إلى مدينة بجاية سنة 766 هـ.
دخل في طاعة أمير بجاية، فأكرمه حينًا، لكنه سرعان ما تنكر له، ففر ابن خلدون إلى مدينة بسكرة لصداقة بينه وبين أميرها، لبث ابن خلدون مقيمًا في مدينة بسكرة فترة من الزمن، لكنه أحس بتغير أميرها عليه فعزم على السفر إلى مدينة فاس، وصل ابن خلدون إلى مدينة فاس، فأكرمه وزيرها ابن غازي، فأقام بها موقرًا مبجلا، حتى وشى به البعض عند الوزير ابن غازي، عندئذ لم يجد ابن خلدون أمامه إلا الرحيل إلى الأندلس طلبًا للاستقرار والعلم.
جاز ابن خلدون البحر إلى الأندلس في شهر ربيع سنة 776 هـ، لكن بلاط فاس طلب من سلطان غرناطة الغني بالله محمد بن الأحمر تسليم ابن خلدون لتأمره على الدولة، فأبى السلطان تسليمه، ولكنه ارتضى أن يجيز ابن خلدون إلى تلمسان فوصل إلى مرسى هنين على مقربة من مدينة تلمسان في سنة 776 هـ.
وكان ابن خلدون قد ركن إلى السلام طالبًا للعلم، فنزح إلى البطحاء ومنها إلى مدينة منداس حيث نزل في أحياء بني عريف، حيث أكرموه وأنزلوه مع أسرته في quot;قصر أبي بكر بن عريفquot; أحد قصورهم في قلعة ابن سلامة.
في قلعة بني سلامة بدأ ابن خلدون في كتابة مؤلفه التاريخي الذي عرف بمقدمة ابن خلدون، وكان يومئذ في نحو الخامسة والأربعين من عمره، قضى منها ابن خلدون نحو ربع قرن في معارك سياسية ودسائس تحاك من وراء الستار وفي بلاط الملوك، وانتهى من كتابتها لأول مرة في منتصف سنة 779هـ واستغرق في كتابتها خمسة أشهر فقط ثم نقحها وهذبها بعد ذلك. شرع ابن خلدون بعد إتمام المقدمة في كتابة تاريخه ولما كان ينقصه في مقامه المنعزل كثير من المراجع والتحقيق. قرر الرحيل إلي تونس، وكان ذلك في منتصف سنة 780هـ/ 1378 م بعد أن أكمل المقدمة والأقسام المتعلقة بتاريخ العرب والبربر، فأكرمه سلطانها وأقام في دعة وأمن وسعة، عاكفًا على الدرس والبحث. ولما توفرت لدى المؤرخ وسائل البحث والمراجعة، عكف على إتمام مؤلفه وتنقيحه وتهذيبه، حتى أتم منه نسخة أولى رفعها إلى مولاه السلطان أبي العباس في أوائل سنة 784 هـ، وكانت هذه النسخة الأولى تشمل المقدمة وأخبار البربر وزناتة، وتاريخ العرب قبل الإسلام وبعده، وتاريخ الدول الإسلامية المختلفة. وقد انتهى ابن خلدون فيما كتبه عن أخبار الدول المغربية في عصره حتى استرجاع السلطان أبي العباس لتَوزَر في سنة 783 هـ.
غير أن هذه الدعة التي تمتع بها ابن خلدون، ما لبث أن غشيها الكدر، نتيجة لوشايات الوزير ابن عرفة، وكانت نفسه قد عافت أحداث السياسة، فاعتزم عندئذ مغادرة تونس، وخطرت له فكرة الحج، فكانت تلك الهجرة الأبدية، وخرج إلى مرسى السفن، في حفل مؤثر من الأعيان والأصدقاء والتلاميذ يودعونه بين مظاهر الحزن والأسى، وركب البحر إلى المشرق في منتصف شعبان سنة 784هـ، فوصل إلى مدينة الإسكندرية، ومنها قصد مدينة القاهرة، وكان يومئذ في الثانية والخمسين، فبهرته ضخامتها وعظمتها وبهاؤها، كما بهرت سلفه ومواطنه الرحالة ابن بطوطة قبل ذلك بنصف قرن.
جلس ابن خلدون للتدريس بالجامع الأزهر، حيث استطاع ابن خلدون إذن أن يخلب ألباب المجتمع القاهري، فتعرف علي احد أمراء المماليك قدمه إلي الملك الظاهر برقوق، فأكرم وفادته، وعينه في منصب التدريس بالمدرسة القمحية، بجوار جامع عمرو. كانت الخطوة الثانية في ظفر ابن خلدون بمناصب الدولة، تعيينه قاضيًا لقضاة المالكية في أواخر جمادى الآخرة سنة 786 هـ، غيره انه ما لبث أن عزل منه لأول مرة في السابع من جمادى الأولى سنة 787هـ، بعد نحو عام فقط من ولايته. لم يمض سوى قليل حتى عينه السلطان لتدريس الفقه المالكي بمدرسته الجديدة التي أنشاها في حي بين القصرين (المدرسة الظاهرية البرقوقية) سنة 788هـ، اشتغل ابن خلدون بالتدريس في المدرستين القمحية والظاهرية الجديدة (تمييزا لها عن مدرسة الظاهر بيبرس البندقداري) حتى كان موسم الحج عام 789هـ، فاعتزم عندئذ أداء الفريضة، عاد بعدهها ابن خلدون إلى القاهرة، وقد خلا كرسي الحديث في مدرسة صرغتمش بجوار جامع ابن طولون، فولاه السلطان الظاهر برقوق إياه بدلاً من تدريس الفقه بالمدرسة السلطانية (مدرسة الظاهر برقوق)، وجلس للتدريس فيها في المحرم سنة 791هـ. بعد نحو ثلاثة أشهر من تعيينه في كرسي الحديث بالمدرسة الصرغتمشية، عين ابن خلدون في السادس والعشرين من ربيع الآخر سنة 791هـ في وظيفة أخرى هي مشيخة (نظارة) خانقاه بيبرس (خانقاه بيبرس الجاشنكير).
في منتصف شوال سنة 801 هـ، توفي السلطان الملك الظاهر برقوق مؤسس دولة المماليك الجراكسة (البرجية)، فخلفه ولده الملك الناصر فرج، وسرى الاضطراب إلى شئون الدولة، واضطرمت الفتن والثورات المحلية حينًا. فلما استقرت الأمور نوعًا، استأذن ابن خلدون السلطان فرج بن برقوق في السفر إلى بيت المقدس فأذن له، وطاف ابن خلدون في المدينة المقدسة، يتفقد آثارها الخالدة، وشاهد المسجد الأقصى، وقبر الخليل، وأثار بيت لحم، ثم كر عائدًا إلى مصر فوصل إلى مدينة غزة، ووافى ركاب السلطان إثر عودته من الشام في ظاهر مصر، ودخل معه القاهرة أواخر رمضان سنة 802هـ.
عاد ابن خلدون من بيت المقدس إلى القاهرة، فولي منصب القضاء، غير أنه سرعان ما عزل منه للمرة الثانية في المحرم سنة 803 هـ، ولم يمض قليل على ذلك حتى جاءت الأنباء بأن تيمور لنك قد انقض بجيوشه على الشام واستولى على مدينة حلب، فهرع الملك الناصر فرج بجيوشه لملاقاة العازي المغولي ورده، واصطحب معه القضاة الأربعة وجماعة من الفقهاء ومنهم ابن خلدون.
وصل ابن خلدون مع الحملة إلى دمشق في جمادى الأولى سنة 803هـ، ونزل مع جمهرة الفقهاء والعلماء في المدرسة العادلية، غير ان السلطان كر عائدا الي مصر لقمع احد الفتن التي كادت تعصف بسلطانه، فلم يجد ابن خلدون أمام ذلك وخشية أن تسقط دمشق في يد تيمور لنك فيكون نصيبه الموت أو النكال، إلا أن يعتصم بالجرأة، وأن يغادر جماعة المترددين إلى معسكر تيمور لنك، فيستأمنه على نفسه ومصيره. دخل ابن خلدون إلي معسكر تيمور لنك فحظي بلقائه، حيث أكرمه الغازي المغولي، والتمس ابن خلدون منه في هذا المجلس أمانًا للقضاة والرؤساء والعمال، فأجابه إلى طلبه وأصدر الأمان. ولم تمض أسابيع قلائل علي ذلك حتى سئم ابن خلدون البقاء في دمشق، وذهب إلى تيمور لنك يستأذنه في العودة إلى مصر، فأذن له حيث وصل سالمًا إلى القاهرة في أوائل شعبان سنة 803 هـ.
ما كاد ابن خلدون يستقر في القاهرة حتى أخذ يسعى للعودة إلى منصب القضاء، حيث عين قاضيًا لقضاة المالكية للمرة الثالثة في أوائل رمضان سنة 803 هـ، عزل بعده في 14 رجب سنة 804 هـ، ثم عاد للمرة الرابعة إلى منصبه وذلك في 16 ذي الحجة سنة 806 هـ، واستمر في هذا المنصب عامًا وشهرين، عزل بعدها في ربيع الأول سنة 806 هـ، وأعيد ابن خلدون للمرة الخامسة في شعبان سنة 807 هـ، ثم عزل بعد ثلاثة أشهر في ذي القعدة من نفس العام، ثم أعيد ابن خلدون للمرة السادسة في شعبان سنة 808 هـ، فلبث في منصبه بضعة أسابيع فقط، فكانت المرة الاخيرة حيث وافتاه المنية في السادس والعشرين من رمضان سنة 808 هـ، وقد بلغ من العمر الثامنة والسبعين، قضاها في حياة باهرة حافلة بجليل الحوادث، ورائع التفكير والابتكار، ودفن بمقبرة الصوفية خارج باب النصر.
كما يجول الكتاب بالقارئ في قاهرة ابن خلدون، في الجامع الأزهر، ومدارسها الصالحية، وخانقاتها البيبرسية الجاشنكيرية، ومدرستها الصرغتمشية والظاهرية البرقوقية، بالإضافة إلي خاتقاة فرج بن برقوق وتربة الصوفية بباب النصر.كما يعرف الكتاب (مع ابن خلدون في رحلته) بأعلام عاصروا ابن خلدون منهم: شيخ مؤرخي الخطط المصرية العلامة تقي الدين المقريزي، ومؤرخ حلب ابن الشحنة، ووزيري غرناطة وشاعريها ابن الخطيب وابن زمرك، وسلاطين مصر الملك الظاهر برقوق وابنه الناصر فرج، والغازي تيمور لنك، والحافظ ابن حجر العسقلاني، والرحالة ابن بطوطة، والمؤرخ المصري القلقشندي، وسلطان غرناطة محمد الغني بالله، وصاحب فاس السلطان ابي فارس عنان.
الإصدار الثاني : كتابة ابن خلدون
يصدر مركز المخطوطات التابع للمكتبة كتيب بعنوان كتابة ابن خلدون يعرض ما يسمى ب(تدوينات ابن خلدون) أي ما كتبه ابن خلدون بخط يده، وهي أعمال لم تنشر ولم تشتهر، ولكنها باب كبير للتعرف إلى شخصية هذا الرجل واهتماماته. ويشرح هذا الكتيب الذي يقع في سبع صفحات عملين فريدين من هذه التدوينات الأول كتاب خطه ابن خلدون في بداية حياته، والآخر إجازة كتبها في أواخر عمره. أما العمل الأول فبعنوان لباب المحصل، والمحصل هو كتاب مشهور للإمام فخر الدين الرازي المتوفي عام 606 هجرية. وهو كتاب في أصول الدين وعلم الكلام. ولقد درس ابن خلدون كتاب المحصل وشرع في استخلاص لباب كتاب المحصل وكان في ذلك الوقت في العشرين من عمره. ولا توجد من لباب المحصل غير نسخة نادرة بمكتبة دار الاسكوريال، وهي اليوم تقع ضمن مجموعة المصورات المحفوظة بمكتبة الإسكندرية. أما العمل التدويني الثاني فهو الإجازة؛ وهي إحدى أعمال ابن خلدون المتأخرة، وهي عبارة عن محطوطة توضح إجازة منحها ابن خلدون في القاهرة لجماعة من العلماء، من بينهم اثنان من أشهر العلماء القاهريين في زمانه وهم: المقريزي وابن حجر. وكتب ابن خلدون تلك الإجازة في عمر الخامسة والستين أي قبل وفاته بعشرة أعوام. تعد هاتان الوثيقتان من الكنوز التراثية (الموقعة) التي نجدها أحياناً في الخزانات العتيقة، ولكليهما أهمية كبرى في التعرف على ابن خلدون وتراثه.
التعليقات