عبد الله كرمون من باريس: النسمة الجميلة التي كادت تجعل من كتابة كريستين أوربون رائعة، هي نفسها، لبقائها لدن هبات متباعدة عبر عملها، ما حال دونها وأن تصير تكتيكا مسلحا لحفريات أعمق. لقد صدرت لها روايات كثيرة منذ بدء نشرها أواخر الثمانينيات حتى آخرها quot;مرتين في الأسبوعquot; في العام الماضي، إذ أن quot;كآبة يوم الأحدquot; سبق أن ظهرت منذ سنتين. في الواقع ليس ثمة ما يدفع حقا إلى قراءة روايات كريستين، إلا إذا تعلق الأمر بمحاولة للقبض على سر الإسهاب في الكتابة وفقدان العمق الفني وكذا الرغبة في معرفة أكبر بالكتابات المعاصرة دون التشبث دائما بتصفح من نجد كلاسيكيين أي كبارا.

جدير بالذكر أن الساحة الأدبية الفرنسية تفيض طنينا في مجال المنشورات على كل أصعدة الإبداع. ولطالما قرأنا ما يئسنا في آخر الأمر من وعوده وصرنا أقرب ممن يجهل إذ صار لابد أن نتجاهل تلك الكتابات التي لم تلتحق بعد بما تجاوز عتبته حتى كتاب ثلاثينيات القرن الماضي. لقد التقيت كريستين أوربون آخر مرة منذ سنوات لما أصدرت روايتها quot;صمت الرجالquot; وقد شاكستها كثيرا إذ لم تقرأ بعد حينها حتى كالفينو وغيره (ولو قرأتهم !)، ولم تعرف البارون المعلق من عل الأشجار، فلسفة حياة متحدية وكتابة روائية رائعة. تحدثت عن ترجمات عديدة لرواياتها من بينها ترجمة كورية غير أن وعدي بترجمتها إلى العربية لم يكن سوى كذبا جميلا ولم أذهب قط لدى الناشر ألبان ميشال لملاقاتها حيث ضربت ثمة موعدا.
لقد نشأت في المغرب وتألمت كثيرا لفكرة أن تفارق ذلك البلد الذي بنت فيه كثيرا من صبواتها. وليس صدفويا أن تكون حياتها مبنية دائما على هشاشة ما سواء كان فقدانا أو ألما أو تلك الكآبة التي أرادت أن تستعيض بها عن قلقها الخاص بقلق بطلتها انديانا في quot;كآبة يوم الأحدquot; أو كلوتيلد مثلا في رواية أخرى وفي مستوى آخر.

إن ما جعلني أنظر في quot;كآبة يوم الأحدquot; هو تأملها الجميل في ميتافيزيقا الأحد ومحاولتها أن تفلسف قليلا إشكالية هذا اليوم وتميزه عن غيره من الأيام، صحيح أنها لم تستطع أن تمضي إلى غاية قصوى في تصوراتها وإن كانت قد أثارت تلك الموضوعة، ليس فقط بدواعي مطمح استقراء كل تفاصيلها وإنما لأنها ما سوف تجعله رافعة حكايتها. ولأن انفجار ذكرى ما يوم الأحد هو ما جعلها تنسب لهذا اليوم شرا ما وتحاول أن تبني انطلاقا من ألم نص الهشاشة الأنثوية. أو لم تبدأ بقولة لراسين حول كون من يضحك يوم الجمعة سوف يبكي يوم الأحد؟

تصف كريستين، روائيا، أيام الأحد على أنها ليال وأن لا شيء يكتمل في الليل، حسب جَدَّتها، وأن الأحد سقوط في هاوية ما. كل شيء سيء إذن في هذا اليوم، ولا أحد في الخارج وليس ثمة من حوانيت مفتوحة سوى البقال المغربي أسفل بيت quot;اندياناquot;. لذلك كما قالت يمكث الناس في بيوتهم ذلك اليوم مثلما تفعل هي أيضا.
ولكأنها تعني سلطة وغرابة يوم الأحد إذ انطوى على مفاجآت كلما حاولنا شيئا لذلك ولأمور أخرى تتعلق بعشيقها الذي افتقدت منذ عشر سنوات ولم يزل يروح ويجيء في قلبها الرهيف تقول quot;لا يلزم أن تفتح، ألا تفتح أي شيء، سواء كان بابا أو رسائل أو ذراعا أو فما أو فخذين، لا شيء. يلزم أن نقاوم. أن نوصدquot;.

ولما كان يوم الأحد لدى quot;اندياناquot; يوم تعطل وخمود فإنها ترى أن الحياة لذلك توجد إذ ذاك داخل البيت وليس خارجه، لذلك تطفق تؤسس من خلال حركات مألوفة لذة انتصارها على انطفاء الوقت لدى الآحاد، فتعمل على الدخول في تنضيد وتصفيف أوربت على هوامش كتب ما.
دون سابق علم وبيقينية مؤكدة راحت تظن أنها وهي ترتكن إلى زاوية بيتها قد تم قتل كل شياطين الماضي التي تكوي بنار روحها ولم تدر أبدا أنها سوف تفتح لها بابا لن يغلق قط وهي ترتب قبعاتها التي تعشقها وينط عليها كل شبح ذلك الماضي الآسر من ظلمة دولاب يوم أحد آواخر ديسمبر على شكل رسالة تلقتها ولم تفضها وتنظر فيها إذ ضيعتها منذ عشر سنوات !

quot;الخارج سيء. كل شيء يؤذيquot;.
يوم الأحد إذن quot;نهار ملعون لا يمكن تفاديه بتاتاquot;
quot;يوم غريب مسمر في قاطرة الأيام الحيويةquot;
quot;ليس ثمة أفظع من نزهة الأحد، من ملابس الأحد، من سائقي ورسامي الأحدquot;.
الأيام الأخرى مع ذلك تحررها من أدراج الماضي ومن كآبة الأحد إذ تبدأ quot;يوم الاثنين بديونيسوس إله الفوضى والضحك، وتستمر يوم الثلاثاء مع عقلانية ليبنيز ويوم الأربعاء مع أبطال كيركغارد ونيتشه...quot;
غير أن quot;يوم الأحد لا يبشر بأية ضماناتquot;.
quot;ثمة فظاظة أن تكون حزينا في عز الشمسquot;.
quot;أيام الآحاد ليست تناسبنيquot;.
quot;في الحياة مثلما في شقة نصطدم دوما بنفس الأركانquot;
quot;ومع أن حياة أخرى قد سكنت جسدي فإن الكآبة قد عادت ذات أحد بقوة وعنف. لا أحب أيام الآحادquot;
quot;يوم الأحد أخطبوط ليس يدعني. هذا الأخطبوط يخرج من الدواليب في يوم الأحد. ليس يجدي أن أقاومه...quot;
quot;يوم أحد مجزأ إلى نصفين أقل أذى من يوم كاملquot;
quot;إذا كانت كل الأيام تشبه يوم الأحد لن يكون ثمة على الأرض سوى رجال بدينين وعصبيين.رجال مجانين وذوي سمنة (...) يبتلعون مواد دسمة كي ينسوا أفكارهم السوداءquot;
quot;الأحد خارج البيت أقل شراسة منه داخل البيتquot;
quot;الآحاد هي سفر عبر الزمنquot;
quot;غالبا ما أرغب أن أعيد إنشاء العالم في يوم الأحدquot;
تختلط إذن آحاد بطلة كريستين أوربون مع سر حبها، ليست تهم أكثر كل تفاصيل تلك العلاقة مادام نصب أعيننا ألم كآبة الأحد. غير أنها قبل أن تنهي الكتاب بقولها أنها quot;أعادت للماضي ما للماضيquot; كتبت:
ـ مضى يوم الأحد.
ـ سوف يعود بعد ستة أيام.
ـ لا. لأنه ليس يكون أبدا نفس الأحد.
الأحد نفسه أو غيره، ليس يهم أكثر في كتاب كريستين علاقتها بغريمها أكثر مما يهم اهتمامها بفرادة الأحد كيوم خاص ومحاولتها أن تقول قولتها عن شراسة ذلك اليوم بغض النظر عن ما يشوب ذلك اليوم من علاقات وآلام حب أو رسالة منسية ومعطلة لزمن. يلزم في الأخير التفكير عاليا في طعم الأحد، أما يعود دوما أم لا ما اتسم به أبدا: يوم الرب؟


[email protected]