إستضاف نادي الرافدين الثقافي العراقي مساء يوم الجمعة المصادف 24 / 3 / 2006 الباحث العراقي الدكتور حميد الخاقاني.. وقد كان عنوان الأمسية وموضوع المحاضرة التي ألقاها الدكتور الضيف هو (ثقافة الأسلام السياسي واسئلة الحاضر) والتي ركز فيها الضيف المحاضر على شرح بنية أحزاب الأسلام السياسي وطريقة تفكيرها وتعاملها ع مختلف القضايا السياسية والإجتماعية . أدار الأمسية الدكتور مجيد مسلم الذي بدأها متحدثاً عن تأريخ الدكتور حميد ونشاطاته الثقافية في مجال الفكر والثقافة ثم قدم نبذة عن مفهوم ثقافة الأسلام السياسي جاعلاً منها مدخلاً الى محاضرة الدكتور الضيف الذي بدأ محاضرته بالحديث عن رسالته المثيرة التي أرسلها قبل فترة عبر صفحات الإنترنت مخاطباً فيها المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني حول الوضع في العراق والتي أثارت حينها ولاتزال نقاشاً حاداً في الأوساط الثقافية والسياسية العراقية وردود أفعال متباينة بين مؤيد لما جاء فيها ومعارض.. وقد أشار الدكتور حميد بأنه سيقوم بتفصيل فحوى هذه الرسالة وما ورد فيها من أفكار في مقالات متتابعة سوف يقوم بنشرها قريباً وقد تصدر في كتاب. يرى الدكتور الخاقاني بأن ثقافة الأسلام السياسي هي ليست كل الثقافة الدينية بل هي مفهوم محدود منها وترى هذه الثقافة بشكل عام بأن الأسلام الصحيح هو إسلامها هي والدين الصحيح هو دينها هي.. فعلى الرغم من أن في هذه الثقافة جناح متشدد تكفيري يمثله على سبيل المثال تيار بن لادن الذي قسّم العالم الى فسطاطين مؤمن وكافر وآخر معتدل يمثله على سبيل المثال الأخوان المسلمين في مصر وبعض قوى الأسلام السياسي في العراق إلا أن إعتدال هذه القوى هو إعتدال مؤقت تفرضه ظروف المرحلة كما ترى هذه القوى فلو بسط لها الأمر فأنها ستفرض ماتراه صحيحاً من وجهة نظرها هي فقط على كل شرائح المجتمع وماتقوم به اليوم بعض قوى الأسلام السياسي التي توصف بالمعتدلة في العراق بشكل خاص وفي مجمل العالم الإسلامي بشكل عام من تظاهر بالأندماج بالعملية السياسية في بلدانها عو عمل مبرمج للوصول الى ماتريد تحقيقه.. فهي تنادي بالديموقراطية عندما يكون الحديث محموماً عنها وتتحول الى منظمات مجتمع مدني إذا كان الحديث يدور عن تشكيل مثل هذه المنظمات . لقد أشار الدكتور الضيف الى أن الكثير من المفاهيم الحديثة التي أوجدها الدين أصبحت اليوم جزئاً من التراث الأنساني ككل وقد إلتزمتها اليوم الكثير من القوى الديموقراطية إضافة الى أن قمم التراث السلامي من مفكرين وفلاسفة هم أشخاص إستخدموا العقل وكانوا من أوائل الناس الذين قادوا حملة التنوير والأصلاح في المجتمع الأسلامي بدئاً من إبن سينا وإبن رشد في العصور الماضية وصولاً الى رفاعة الطهطاوي ومحمد عبدة والأفغاني في العصر الحديث ولكن وللأسف لم يأتي بعدهم من يواصل مسيرة التنوير هذه لذا إنتهى القرن العشرين في عالمنا الأسلامي وهو قرن غير متنور لاهو ولاأهله وبقي التنوير مشروعاً لم ينجز والسبب في رأي الدكتور المحاضر هو أن ثقافة التنوير كانت منذ بدايات القرن العشرين ولاتزال حتى هذه اللحظة ثقافة النخبة المتنورة ولم تكن تؤثر في شرائح واسعة من المجتمع كما لم تتبناها أغلب الحكومات في حين أن ثقافة الأسلام السياسي هي ثقافة شعبية يتبناها اليوم الشارع بسبب إرتباطها بالثقافة العشائرية وبسبب مايردده على المنابر الشعبية والدينية خطباء الجوامع ورواديد المجالس الذين يعملون جاهدين على تجييش الشارع في العراك السياسي الدائر في بلادهم وبالتالي جعل هؤلاء الناس مرايا عاكسة للتعصب وليصبحوا فيما بعد وكما وصفهم الكواكبي في كتابه الرائع طبائع الأستبداد ( العوام هم قوات المستبد وقوته ) .
ويصف الدكتور الخاقاني ثقافة الأسلام السياسي بأنها ثقافة وطنها الأصل هو الماضي وهي توهم الناس بأنها تسير بهم نحو الغد في حين أنها تعود بهم الى الوراء فهي تعمل على صنع الوهم وجعل الناس يعيشون لما هو مفترض لا لما هو واقع أصلاً وهذا مايجسده بالفعل واقع الصراع السياسي الدائر في العراق اليوم فهو في حقيقته صراع بين قوى ثقافية مختلفة يريد بعضها كالقوى الديموقراطية من ليبرالية ويسارية تحرير الحاضر من الماضي ودفعه الى المستقبل فيما يريد البعض الآخر وهي قوى الأسلام السياسي السيطرة على المستقبل وتسليط الماضي عليه.. وترى هذه الثقافة بأن العمل بالسياسة هو تكليف شرعي إستناداً الى المبدأ القائل (الزمن الحالي لايصلح إلا بما صلح به أوله) وهي بهذا تغفل أو تتعمد أغفال المسافات الزمنية الشاسعة بين تلك الفترة والآن فالرسول الكريم وخلفائه الراشدين تصدوا للسياسة حينها لأن العرب كانوا أمارات وقبائل متفرقة ومتناحرة أحتاجت حينها لمن يوحدها لتعم دولة الأسلام على عكس الدين المسيحي الذي ظهر على سبيل المثال في أمة كان لها دولة لهذا لم يتصدى النبي عيسى للسياسة وكان له قولته الشهيرة في هذا المجال (مالله لله وما لقيصر لقيصر).
لقد بين الدكتور الخاقاني بإن ثقافة الأسلام السياسي هي ثقافة إقتباس وهذا الأقتباس هو ليس إقتباساً جدلياً بل مقدساً فهي تعتمد في الأساس إقتباس النصوص القديمة وتأويلها لأنها تدرك أن هذه النصوص مقدسة لدى العامة ولها قدسية وتعيش في وجدانها منذ مدة طويلة لذا فأن هذا النص سيأتي مدججاً بكل أسلحة الماضي من وقار وتقديس للنص وقائله لذا فهي ثقافة لاتتعامل مع الواقع إلا من خلال نص تأوله وحتى التأويل والشرح يحدده النص نفسه لذا فهو مقيد اصلاً.. كما إن أجوبة الماضي هي أجوبة صائبة بالمطلق بنظر هذه الثقافة في حين أن أئمة الأسلام أنفسهم سواء كانوا من أئمة أهل البيت أو من أئمة أهل السنّة أو الجماعة لم يجزموا بصواب إجتهاداتهم وهذا مايؤكده المنطق العقلي الذي يقول بأننا لايمكن أن نجد جواباً لكل أسئلة الحاضر في أجوبة الماضي.. فالمشكلة هي إن تاريخنا ليس فقط مصدراً للمعرفة والثقافة بل إنه أيضاً حزمة من الإشكالات العصيّة التي تقف وراء جمود الفكر العربي.. لذا يجب أن نبحث عن القضايا الحيوية فقط في تراثنا ونتكيء عليها في حاضرنا لنسير به الى الأمام .
أما بخصوص علاقة أفراد المجتمع أو العامة كما تسميهم وتطلق عليهم هذه الثقافة ومريدوها أو كيف تنظر هذه الثقافة الى الفرد وتتعامل معه فقد بين المحاضر بأن هذه الثقافة ترى بأن العامة يجب أن تقاد من قبل النخبة الدينية كونها قاصرة عن أدارة شؤونها بمفردها لذا يجب أن تتبع توجيهات هذه النخبة التي ترى بأن توجيهاتها العامة رحمة إلهية كما عبر ويعبر بعض رموز الأسلام السياسي في العراق اليوم خلال خطبهم المتكررة للناس ويجب على الفرد أن يتلقى مايقال له وأن ينقله الى الآخرين من دون تفكير أي أنها تريد من الفرد أن يكون تابعاً وأن يتخلى عن حريته التي لاتُبنى المجتمعات الديموقراطية إلا بها لذا فمثل هذه الثقافة لاتحرر الأنسان ولاعقله فهل من الممكن لها أن تكون ثقافة حرة ؟.. يتسائل.
وفي الختام أشار الدكتور الخاقاني الى أن علماء الفقه والفلسفة الأسلامية أنفسهم يقولون بأن السؤال هو (سبيل الى معرفة) في حين أن هذه الثقافة أي ثقافة الإسلام السياسي لاتقبل السؤال إلا إذا كان إستفسارياً وليس جدلياً وبالتالي فهي ليست ثقافة معرفية لذا فقد ختم محاضرته عن هذه الثقافة بالسؤال التالي :
هل يمكن لمثل هذه الثقافة إذا سادت في المجتمع والدولة أن تمنحنا مدرسة حرة وجامعة حرة وأن تكون بالتالي محرك أساسي لسيرورة التنوير والحداثة التي كنا ولانزال بعيدين عنها كثيراً؟