عن دار الأف للطباعة والنشر في مدريد، صدر للشاعر العراقي حميد العقابي ديوان شعري بعنوان quot;الفادِن، غناءٌ فحسبquot; وهو الديوان السادس الذي يصدر للشاعر العقابي منذ ديوانه الأول quot;احترس أيها الليلكquot; عام 1986. بالإضافة إلى المقدمة التي كتبها العقابي تحت عنوان quot;القصيدةquot;، فقد ضم ديوان quot;الفادِنquot; أكثر من خمسين قصيدة شعرية تحمل بين طياتها إعلاناً خفياً يشير إلى عزوف الشاعر العقابي عن كتابة قصيدة النثر، حين نجد أن قصيدتين فقط من بين مجموع القصائد التي احتواها الديوان تنتميان إلى قصيدة النثر، على خلاف القصائد الأخرى.
اختار الشاعر والقاص حميد العقابي عنوان ديوانه quot; الفادِن quot; من قصيدة كتبها عام 1990 تحمل العنوان نفسه، وفيها يرسم الشاعر صوراً أخرى غير تلك التي عرفناها عن آلة quot; الفادن quot; أو quot; الشاقول quot; كما يسميه عامة الناس، فالفادِن في تصور الشاعر، هو آلة موسيقية يمكنها أن تزِن أو تضبط إيقاع القصيدة، وهناك صور أخرى لتلك الآلة التي منحها الشاعر روحاً أو حياةً أخرى، حيث يقول:
الفادن: عرّافُ الظلّ
العارفُ تأريخَ الأفعى
بدءً من ثقبِ الكتمانِ
وحتى ثرثرةِ المعولِ في النصّ
هكذا وضع الشاعر العقابي صورة الفادن كما يراها في مقطع القصيدة الأول ليلحقها بصور أخرى في المقاطع الثلاثة الأخرى من القصيدة التي بنيت على أربعة مقاطع حيث يقول:
الفادنُ: قرطُ الواقفِ
والمعقودُ بذروةِ وقفتهِ
يعرفُ بالناشزِ من ألحانِ الغيبِ
--------------
-------------
الفادنُ: قافيةُ السادنِ
في شبقوتِ الموتْ
بندولُ الشهوةِ
------------
-----------
وهكذا يستمر الشاعر في رسم صوره الخاصة لتلك الآلة التي اكتشفنا فيها وظائف جديدة خارجة عن مألوفنا الحياتي، ولكن حين نصل إلى البيت الأخير من القصيدة، نسمع ضربة إيقاع شعري مدوية، تماماً كقرعة إعلان إسدال ستار مسرحية:
quot; الفادنُ: رأسُ نبيّ مشنوق quot; والنبي هنا إشارة إلى الرسالة التي يحملها الفادن أو quot; الشاقول quot; رسالة الدعوة إلى الإستقامة ورفض الزلل والإلتواء، رسالة الإتزان والوضوح ومحاربة النشاز.

القصيدة كما يراها الشاعر حميد العقابي quot;تناقضٌ صارخٌ يؤاخي ما بين صفاء الإشراق والسلوكِ اليومي المركوس في وحل الظلام. وحدها القصيدة قادرةٌ جمع هذين النقيضين على بياضِ الورقة المتلهف إلى سواد القلم ورماد الأفكار ونار الطيش، حينها يتحول الضياع إلى طريقِ يقودُ الخطى للارتقاء إلى مجهولٍ نسميه المطلق فيصبح كلّ هاجسٍ فكرةً تتعوسج في الرأس أو تزهر، و(كلّ حادثٍ رمزاً) كما يقول غوته، فتأتي نشوة اكتمال القصيدة حتى لو كانتْ مرثيةً، نشوةٌ تشبه نشوة الأمّ بآلام الولادة.quot; هكذا أفصح الشاعر في مقدمه للديوان.
في ديوان الشاعر حميد العقابي، الشاعر المأسور بعوالم الأغنية والموسيقى، فهو شاعر بدأ حياته الشعرية بداية السبعينيات كشاعر غنائي، نجد أنه لم يبتعد عن تلك العوالم، بل أصبح أكثر شغفاً وتمسكاً بها مستخدماً صوراً شعرية مفعمة بالموسيقى لا تخلو في بعض الأحيان من طعم المأساة.
لم يعدْ بيننا
غير هذا السكون الملطّخِ بالانفعالْ
لم يعدْ بيننا
غير أغنيةٍ عابثه
لم يعدْ غير صمتِ السؤال
واجتراح التأويل عن مصدرِ الكارثة.
ثم تدلنا عناوين بعض قصائد الديوان quot; غناء، تسبيح، الناي، الغجري، صلاة، أغنية الختام quot; وغيرها من القصائد إلى موسيقى حميد العقابي الخاصة جداً، موسيقى تكمن داخل روح الشاعر لتخرج على شكل قصيدة ثمينة الدلالة مكتملة المشهد:
تَعِبَ الغجريُ
ونامَ على جمرِ نايٍ
فرحلتهُ اكتملتْ
والحنينُ المشاغبُ
لم يكُ غيرَ سنين مُعطّلةٍ
مثل أغنيةٍ
لم تعدْ تستفزُّ الهاجرَ
والأرضُ منفىً
تهندمَ فيهِ العراءُ
فأغراهُ
أن يلعقَ الجرحَ منتشياً
ويعبَّ السرابْ
لم يغب الجرح النازف عن قصائد ديوان حميد العقابي الجديد، بل أننا نجد العراق حاضراً بدلالاته وأغانية، بتأوهات العاشيقن ولياليه، بحروبه وضحاياه، فالعراق، ذلك الجرح النازف العصي على الإلتئام، ظل صوراً غارقة في المأساة والحنين:
وحينما مرَّ ( العراقُ )
ببذلة خاكيةٍ
نسرانِ ميْتانِ على كتفيهِ
ناديتُ:
quot;انتظر، قد يتعبُ الموتُ الــ ( ... ) فننجوquot;
لم يطعني
سارَ مزهواً بقامتهِ الرهيفةِ
والدماءُ تسيلُ من جنبيهِ
ساقيتينْ
ثم نجد في مكان آخر، حيث قصيدة quot; بصيرة quot; تلك الخيبة التي لازمت الروح العراقية الحالمة لأكثر من عقدين حيث تاريخ كتابة القصيدة عام 2001، الخيبة التي حاولت الروح العراقية شطبها عبثاً من ذاكرتها، والتي بقيت كالدواء الفاسد ينخر كبد الذاكرة:
أتبحث عن ملجأ بعد هذا الرحيلْ؟
أتبحثُ عمَنْ يدلكَ نحو اختراقِ الحدودِ
وكنتَ الدليلْ؟
أما زلتَ تبحثً عن شاخصٍ لاحَ في الأفق يوماً؟
quot;الفادنquot; ديوان شعري احتوى على بعض القصائد التي تشير أو المهداة إلى رموز عراقية ذات تأثير في تاريخ الحياة الثقافية العراقية، عبد الوهاب البياتي، حسين قسام، فاتح المدرس، فرج شاوي وغيرهم، وهناك قصائد أكتفت بالدلالة الرمزية لشخوص كان لها أثرها في حياة الشاعر. وديوان quot;الفادنquot; بصفحاته التي زادت على المئة بقليل، يعد خطوة متقدمة في نتاج الشاعر حميد العقابي الشعري، على الرغم من ظهوره ككاتب قصة متميز منذ أكثر من خمسة أعوام، فلقد أصدر عام 2002 فصولاً من سيرة ذاتية تحت عنوان quot;أصغي إلى رماديquot; والتي ألحقها عام 2004 بمجموعة قصصية حملت عنوان quot;ثمة أشياء أخرىquot;


[email protected]