ذلك هو السؤال الذي ما زال عالقا، ما زال محل بحث وتنقيب وحفر في نصوص هاملت، مازال مشكلة بحد ذاته، وسوف يبقى موضوعا حيا، وذلك لمزيد من الاجتهادات والرؤى

ميل غبسن بدور هاملت
والتصورات، خاضعة لما نختزنه في ذواتنا من ثقافة وهموم ومشاكل وعقد وطموحات وتصورات وآمال وتجارب ونواقص وحقد وحب، فليس هناك فكرا بريئا، ولا تصورا ابيض، ولا رؤية ساذجة، بل هناك صيرورة هائلة، تعمل في داخلنا، توجهنا من حيث نشعر أو لا نشعر. خاضعة في الوقت ذاته إلى آليات القمع الاجتماعي والأسري والعرفي التي تكبل روحنا من الداخل ونحن في غفلة، فيما هي آليات تعمل بوعي وفن ودراية، تتحكم في مفاتيح شخصيتنا، وتترسم فينا تحقيق سلطتها، وترسيخ وجودها رغم كل شي.
ولنعد للقضية المحورية...
أين هي المشكلة؟
أين هي مشكلة هاملت؟\
هل هي ـ حقا ـ الصراع على القوة والسلطة؟
لقد سرق عمه التاج، سرقه من أبيه بالقتل، وسرقه من هاملت بالتحايل والخديعة، فثارت ثورة هاملت، وقرر أن يقتل عمه الخائن (سياسيا) !
كان يهدف استرجاع حقه المهضوم، حقه بالتاج، حقه بقيادة المملكة، هذا الحق الذي يساوي موضوعيا لدى هاملت قيادة العالم كله، لأن الدانمارك هي العالم كله...
لقد كان هاملت يصارع إذن، كان طرفا في صراع، ولم يكن في أزمة نفسية، في أزمة روحية، كانت هناك محاولة لتصحيح مسار، مسار سياسي، يصب أولا وأخرا في مملكة الذات... الملك... السلطة... القوة... الحكم... التاج... السيف... الغزو... المعاهدات... المراسيم ... البلاط... الحاشية...
ذلك هو الحكم في ثقافة عصر هاملت (فإن موت ملك لا يعني موته وحده، بل هو كالدوامة يشد كل من حوله،أنه كعجلة ضخمة تقف على قمة أعلى الجبال، وقد ثبت على سلوكها الغليظة عشرات الآلاف من أشياء أصغر، فإذا سقطت كان مصير هذا التوابع الصغيرة أن تهلك مع هلاكها الصاخب).
تلك هي القضية...!
لم يكن هاملت ثأريا، لم يكن حامل ذلك الضمير المتوقد بحماس المسيحية للخلاص الأبدي، ولا هو ذلك المتحمس للشرف العائلي، ولا هو فيلسوف يتأمل الوجود، بل هو طالب سلطة، لقد ضاعت مملكته، أو بالأحرى ضاع ملكه، وما أعز الملك؟
يريد أن يهلك ا لجميع بهلاكه، ويبقى الجميع ببقائه، يريد أن تتلون كل الأشياء بلون غريزته، أن يتمحور العالم حول ذاته، ذاته وحسب...
ألا يستحق كل ذلك القتال، والنصب، والجنون المصطنع، والتجسس ...؟
أنها مدرسة العفن البرجوازي...
أ وبالأحرى مستنقع البلاطات، ذلك المستنقع المصبوغ بدم الضحايا، الذي يتنفس برئة الموت سرا، ويعيش على لحم آلاف القتلى قهرا، في ظلمة ليل لا يعرف فجرا...
ترى أين نضع منجاة هاملت التي كانت تقطر دما، وتترشح أسى... كانت بمثابة صرخات وجدانية تشق عنان روحه، لتتواصل مع كل ذر ة من ذرات الوجود، مناجاة تحفر في عمق التاريخ ذكرى مجروحة، لن تندمل أبدا... كانت شكوى... احتجاجا.. شكا... يقينا... خوفا... شجاعة... أملا... نسيانا... جنونا... حكمة..
كانت مناجاة لا تلوي على مفردة لتأسرها في حريم مساحتها الضيق، بل هي مناجاة يتوسل الوجود منها حظ الاستمرار والديمومة، وليس العكس !
أن مناجاة هاملت كانت مناجاة هملت بالذات، بكل كيانه، بكل خلجاته، بكل أحاسيسه، وليس مناجاة عقل جاف، ولا عاطفة مجرد ة، ولا إحساس بليد...
هذه الطبيعة الكلية للمناجاة تزيف القول بأن مشكلة هاملت كانت في هويتها الأولى مشكلة قوة، مشكلة سلطة، مشكلة حكم...
إنها عقدة أوديب !
عقدة أوديب الشخصية بطبيعة الحال، وليس عقدة أوديب الاجتماعية حيث يعتبرها بعضهم أحدى مراحل تطور الاجتماع البشري، وفارق كبير بين العقدتين كما هو معروف...
كان شديد التعلق بأمه، كأي إنسان سوي في فكر مخترع مدرسة التحليل النفسي، وكان يكره أباه، كأي إنسان سوي في مرحلة الطفولة كما يقول بطل مدرسة التحليل النفسي، كان يكره أباه، لأنه يستأثر بأمه، فيما هي حقه، هي حاضنته، هي التي وجد في حضنها الأمن والشهوة والحب... والآن حان وقت الانتقام من السارق الجديد... من العم الغاشم...
شهوة أبطيها تداعب فمه...شهوة بطنها تتحرك بين أصابعه.... شهوة صدرها تئن على صدره... شهوة فخذيها تمسح وجهه... شهوة لسانها تتماس لسانه.... شهوة شعرها تطوف على شفتيه...
فليس لعمه الحق فيها...
إنها ملكه...
يريدها له... بذرته الأولى... نبتته التي تغذى على عصارة زفيرها الحار... ماؤه الذي تروى من سخونته ليوم غد حيث يثبت رجولته الفذة...
ذاك اغتصاب سياسي...
وهذا اغتصاب جنسي...
والمغصوب في الحقيقة البعيدة واحد، واحد لا غير، أنه (هاملت)... هاملت نفسه... ليس التاج هو المغصوب، ولا الجسد الأمومي هو المغصوب، بل هاملت هو المغصوب.
وأعود لمناجاة هاملت لنفحص على ضوئها هذا الحل...
تكشف المناجاة عن غربة قاتلة، غربة وجودية، فلم يعد هناك شي يستحق البقاء، وليس هناك من خلاص، حتى الموت ليس خلاصا (ما أحقر مصيرنا يا هوارشيو) وبالتالي، انتفت الحكمة كليا من الكون.
كلاهما تافه...
الحياة تافهة والموت تافه...
كلاهما بارد، الحياة باردة والموت بارد...
وليس هناك نقطة بين الحياة والموت...
لقد حان وقت الطلاق البائن بين الكون والنفس... بين الخارج والداخل... بين الواقع والخيال... بين المادة والحلم...
كان هاملت خائفا من حياته وخائفا من موته...
أين الإله...
يبدو لي كان يصرخ أكثر من مرة...
أين الإله...
والجواب كان غموضا يستحث روحه المخيفة لتخيم من جديد، وبعتمة أشد بلاء وأصعب فهما ، على كل وجود هاملت،عقلة وروحه وضميره...
ولكن لماذا لا نسال هاملت نفسه عن المشكلة؟
(أن نكون أو لا نكون)...
تلك هي المشكلة...
(وجود أو لا وجود)...
تلك هي المشكلة...
كلمة تلخص مأساة البشر ولكن بشرط الوعي، فإذا لم يكن هناك وعي، تساوى الوجود بضده، وتساوى الكون بالفساد...
شخصيا أحبذ الصيغة الأولى ، لأنها تزجنا في نظام الفعل، نظام العلاقات الفاعلة، نظام الحركة، فيما الصياغة الأولى تزجنا في جحيم النظم، الثبات، الأسماء...
أن مشكلة هاملت ليست في جانبه الغريزي، قوة كان أو جنس أو طعام أو لباس، أن مشكلة هاملت في هاملت نفسه، وبتعبير دقيق...
إن مشكلة الإنسان هي الإنسان بحد ذاته...
غالب حسن الشابندر
[email protected]