ترى أي دواة كان شكسبير يغمس فيها قلمه... ريشته... يراعه... وهو يكتب ملحمة هاملت العاصفة؟ حقا سألت نفسي هذا السؤال الذي قد يبدو سؤالاً أبله، جاف، لا معنى له... ولكن على أي حال سؤال طرأ على ذهني، فأجبت نفسي: أن هملت غمس قلمه... ريشته... يراعه... في قاع النفس الإنسانية، هذه هي دواته، وحبره كان هذه القوى الهائلة التي تجيش بها النفس الإنسانية بالذات، هناك كان يغمس أداته الكتابية، فكانت حروفه وكلماته وجمله وأفكاره تلك القوى الرهيبة، وهي تتصارع، تتنابذ، لكي تسود على ساحة النفس، تجول وتصول لوحدها، لا منازع يشاركها هذا الملك الغني المهيب.
يبحث كثيرون عن المصادر التاريخية التي رجع استعان بها شكسبير في إبداعه هذا، أي إبداع هاملت، وليس في ذلك ضير، بل قد يكون ضرورة أحيانا لحل الكثير من الألغاز التي لم تحل لحد الآن، ولكن في قناعتي، هناك مصدر ثر، مصدر غني، مصدر متجدد، مصدر هو الذي صنع حتى ذلك التاريخ الذي يرجع إليه بعضهم ليحصل على ضالته وهو يحل بعض ألغاز هاملت.

ترى أي مصدر هذا؟
النفس الإنسانية، ذات ابن آدم، الذات التي نحن أحد أفرادها، نفسي ونفسك ونفسه ، أمس واليوم وغدا، في النوم واليقظة، في الصحو والغفلة، في الجوع والشبع، في الإيمان والكفر...
هذا هو المصدر الرئيسي لشكسبير في تصوري عندما طفق يكتب هاملت ، كان يتأمل الآخر، ولكن لا شك كان يستبطن ذاته أيضا، كان يقرأ التاريخ،ولكن لا شك كان يراقب لمحسوس أيضا...
الرجوع إلى سطور التاريخ، للبحث عن أصل الحكاية تاريخيا، يفيد بالكشف عن مستور تاريخي، ولكن التأمل في الذات، الرجوع إلى القاع الإنساني يفيد بالكشف عن المستور النفسي، الوجداني، الصيرورة الإنسانية.
لقد كان (هاملت) الوحيد الشخصية الهجينية في النص، كان مزيجا من كل ما ينطوي عليه التكوين الإنساني، من قوة وضعف، من حكمة وتهور، من عفة ونذالة، من نور وظلمة، من مفارق وزمني، من روح ومادة، من ذكرى ونسيان... كان هو الحقيقة الوحيدة في النص والواقع، فيما الآخرون حقائق نصية، افتراضات وليس حقائق واقعية، فليس هناك موجود خام، أبدا، ليس هناك إنسان خام، أو من طبيعة واحدة كما أنه لا توجد رأسمالية خالصة، ولا اشتراكية خالصة، ولا دين خالص، ولا حجر خالص، ولا فكرة خالصة، ولا بديهية خالصة، ولا رب خالص، ولا فرحة خالصة...
كل ما في الوجود هجين، عيني أو ذهني، مادي أو روحي، عمل أو فكر، حتى التوحيد عند علماء المسلمين القائلين بوحدة الذات والصفات يقعون في فخ الهجانة عندما يرغبون رحمة الله، ويتجنبون سخطه !!! فهو غفور رحيم شديد العقاب.
أليس كذلك؟
أعود وأقول أن دواة شكسبير كانت الذات، الذات الهجينة، الذات البشرية بكل جبروتها وضعفها، هناك كان يشرِّب قلمه، هناك كان يغمس ريشته، هناك كان يلطخ يراعه...
قلم هجين... ريشة ملونة... يراع مشوه...
والقلم الخالص خامل...
والريشة البيضاء خرساء...
واليراع النظيف أبله....
والمصدر الجوهري هو قاع النفس، قواها، قدراتها، أحلامها، هذيانها، وعيها، بياضها، سفالتها، شيطانها، ملاكها... وحتى تاريخ الإحالة هو قطعة من تاريخ النفس...
كان شكسبير يغمس قلمه... ريشته... يراعه في دائرة النار... في عمق معادلة القبح / الحسن... في غور معادلة الخير / الشر... في قعر معادلة الأبيض / الأسود... في بئر معادلة الموت / الحياة...
هل كان هاملت فيلسوفا؟
ليس بالسؤال السهل، ولكن تفاديا للكثير من المفارقات والمشاكل هنا، أرى من الممكن أن نقول : لا، وذلك أذا تعاملنا مع الفلسفة بأبعادها المدرسية المعروفة، حيث نفسر الوجود بأدوات ومفاهيم محصورة، متفق عليها تقريبا، العلة و المعلول،الشدة والضعف، الوجوب والإمكان والممتنع، الغائية والصورية والمادية... ليس هاملت من النماذج التي تشرح الكون والحياة بمفاهيم عقلية مجردة...
لقد سأل كثيرون وقالوا : هل أبو العلاء المعري فيلسوفا، وعندي إنه فيلسوف، ولكنه فيلسوف تأملي،وليس فيلسوف تحليل وتركيب،نقتل أبا العلاء إذا حصرنا فكره بهذه المقولات الجافة، رغم دقتها، وعبقرية حركتها داخل المملكة الذهنية.
لقد كان هامت فيلسوفا، ولكنه الفيلسوف الذي يتأمل، وليس الذي يحلل ويركب، الفيلسوف الذي ينحت المفاهيم كما يريد الفيلسوف الفرنسي (ديلوز) من الفيلسوف...
نعم، كان تأمل الكون والحياة و المصير والتاريخ، ولكن لا يوجد تأمل أجرد، كل تأمل له أدواته، كل تأمل له آلياته...
كان هاملت يتأمل الكون منطلقا من داخله، من أحزانه التي هجمت عليه مرة واحدة، من معاناته، من تردده، من صراعاته، كان أشبه بالفيلسوف الوجودي، كان أشبه بالفيلسوف الوجودي المؤمن، كان أشبه بكيركارد ، يعاين الكون من لحظته التي يكون فيها، وليس من مجموعة قوانين، ومجموعة مفاهيم، ومجموعة تصورات، بل كان يضفي نفسه على الأرض، يصبغ السماء بما في نفسه، يلون التاريخ بما في نفسه (ما أحسن خلق الإنسان ! ما أنبل عقله ومواهبه التي لا تحد ! ما أدق جسده وحركته وما أعجبهما ! في فعله كم يشبه الملائكة، وفي فكره كم يشبه الإله، زينة الحياة وقمة الأحياء).
أليس كذلك؟
نعم، هو كذلك، ولكن في حالة صلح مع الذات، صلح مع التاريخ، صلح مع الواقع، غير أن المعادلة تختلف تماما في حالة مناقضة ( ومع ذلك فإنه عندي ليس إلا جوهر التراب، الإنسان لا يسرني... ولا الإنسانية أيضا...) ص 12.
لا أريد أن أطيل بالشواهد النصية هنا، فهي واضحة، ومنتشرة في جسد النص الهائل، ولكن أريد أن أسأل عن السبب في هذه النظرة الحزينة، النظرة الكئيبة للإنسان، التي هي تختفي وراء نظرة أكثر كآبة للكون، وتختفي وراء نظرة أعمق مأساوية للوجود كله؟
ما السبب؟
في تصوري أن هاملت يتأمل الوجود هنا من خلال مفاهيم تمت بصلة إلى وضعه النفسي، إلى ما يعصف في داخله من ألم، ووجع، وخيبة،وصراع،من هذا المنبع أسس أدواته في تأمل الكون والحياة والأصدقاء والسياسة والحب والمرأة والسجن والبلد، وكل شي، من هذا المركب اللجي، المخيف، الهادر، مثله مثل الفلاسفة الوجوديين الذين رفضوا مقولات الوجود والعدم بالمعنى الأرسطي الرشدي، مقولات الشدة والضعف، العلة والمعلول، الغاية والحكمة، الأين والكيف، وتسلح بمقولات أو بحالات أخرى ، تلك هي الحزن...الألم... الوجع... الشك... الحب... الكره... الرغبة... الكمال... النقص... اليأس...
هذه هي بضاعته في تعامله مع الأرض، مع السماء، مع الهواء، مع عمه، مع حبيبته، مع كل شي يصادفه ويتعاطى معه، ومن هنا شاع التبرم، تبرم هاملت في النصوص، فقد كان الكون يمر من خلال شعوره، وليس من خلال عقله، كان الوجود، يمر من خلال شكوكه، وليس من خلال يقينه، كان الوجود يمر من خلال شبكته النفسية، من خلال صراعات ذاته، وليس من خلال منطق عقلي، من خلال نظام معرفي منسق، ومنمط، محكم، مستدل. والتحليل الأخير لهذه الحقيقة تقلب المعادلة في الواقع بين العارف والمعروف، ففي العمق هنا، نستطيع القول أن الوجود لم يمر أصلا من خلال جسد هاملت، بل جسد هاملت هو الذي يمر على الوجود، يمسحه بزيته الحزين، يشرِّبه بمائه الكئيب، يسقيه بزفرات روحه اليائسة، يخصبه بمأساته العميقة...
يقول هاملت (تعسا لها... آه لها من حديقة تركت أعشابها السامة حتى نضجت بذورها، لا يملكها إلا العفن وغلظة الطبع) ص.
لا شك أنها فلسفة، أي موقف من الحياة، ولكن هي فلسفة النفس وليس فلسفة العقل، فلسفة الوجدان وليس فلسفة الحكمة الأرسطية، أو حكمة بن رشد، أو حكمة ماركس أو حكمة أي فيلسوف مدرسي ...
هي تراجيديا... ولكن !
نعم...
تراجيديا... تراجيديا ضخمة... مهولة... مخيفة... ولكن أين يكمن السر المرعب؟ ! أين يكمن السر الدفين؟ أين؟
كانت تراجيديا وستبقى تراجيديا، ولو كُشِفَ السر لماتت، ولتحولت إلى معرفة مبتذلة، لتحولت إلى شهادة لفهم تاريخ الفن المسرحي ، ولكن لأنها تراجيديا دائمة، تحولت إلى حاكمة على هذا التاريخ، وليس محكومة به.
تراجيديا نص...
تراجيديا حدث...
تراجيديا تفسير وتحليل...
تراجيديا كاتب...
تراجيديا شخصيات...
تراجيديا بداية ونهاية...
وستبقى...
وإلى حلقة قادمة عن هاملت...

[email protected]