في بداية هذا العام إلتقيتُ صدفة بأحد المعارف، وعرفت منه أنه ينوي السفر عبر تركيا إلى كركوك. لم يكن الوقت يسمح لي بكتابة رسالة وافية لجليل القيسي، لذلك كتبت له على ورقة صغيرة ونحن ننتظر السيارة التي ستقله إلى المدينة التي أحببناها والتي تركناها جميعاً ما عدا جليل. كانت هي الرسالة الأولى التي اختصرت مودتي، بعثتها هكذا إلى المجهول؛ لأنني لم أكن أعرف عنوانه ومصيره بعد أكثر من ثلاثة عقود من الإنقطاع. وكان على الصديق أن يسأل عن القيسي في مدينة تغيرت معالمها الجغرافية والديموغرافية تغيراً كلياً، مثلما تغيرت العلاقات فيها بخليط من الوافدين وبالتوتر الشديد بين القوميات والأديان والطوائف، والصراع الغفل على ملكية المدينة.
ولأن رسالتي كانت قصيرة لم تشف غليل القيسي، من حيث سرد التفاصيل عن حياتنا ومشاريعنا ومصائرنا، نحن أصدقاء اليفاعة، وهو الذي تخيّلَ بالتأكيد عوالم في المغامرة أبطالها نحن، فقد ردّ في رسالته التي حملها معه الصديق معاتباً يُستشَفُ منها الأذى، والذي آذاني بالتأكيد وجعلني أشعر بالإثم في غياب صديق عرفناه جاداً وأخلاقياً مخلصاً في العلاقة حتى سميناه quot; الفارسquot;، مع جان دمو وسركون بولص لإستقامته وبتمسكه القوي بالصداقة. وعندما أنشر الآن الرسالة الخاصة التي وصلتني منه، وهي أول وآخر رسالة، أشعر بالغصة ولا أصدق رحيله، وكأنما لا زال في ركن بمدينتنا كركوك ونحن عنه غائبون، وسيأتي اليوم الذي نعود فيه ونلتقي مجدداً. أليس هذا ضرب من الدفاع عن النفس ومداورة ملتوية للتقليل من سطوة الزمن؟ لكننا كما يبدو نتعلمها في المنفى عندما نلتقي بمن نعرفهم بعد عقود من الغياب ثم يرحلون إلى غيابهم من جديد ونحن ننتظر.
منذ أن غادرت العراق نهاية 1969إنقطع التواصل بيني وبين جليل القيسي بسبب الخوف والتوجس من النظام الدكتاتوري، خوفاً عليه من رسائلي التي ربما ستقوده إلى المتاعب، وكذلك الأمر مع سركون بولص وأنور الغساني الذي يعاتبنا في رسالته. في كركوك، بداية الستينيات، كان لقاء سركون وجان دمو والقيسي ومؤيد لقاء شبه يومي، يحمل كلٌّ منا جمرته وينحني على عالمه الصاخب ليكتشفه، يجابه الإرث الاجتماعي والثقافي بوعي نقدي متحولاً من التخاطب مع الآخر، في سياق الموروث الأخلاقي والأديولوجي السائد، إلى الغوص في الذات لمعرفة تعارضاتها وغناها في ذات الوقت.
كانت الحوارات والقراءات والاكتشافات الفردية والمعايشات الحادة فيما بيننا تقدم لنا كشوفات جديدة وغنية، كشوفات مخالفة لما كان سائداً على الأغلب في الثقافة العراقية والعربية. منذ البداية كانت اللغة الجديدة التي نصبوا إليها في الكتابة لا تعني مجرد تغيير الكلمات أو تجميل العبارات بقدر ما كانت تعني انقلاباً في رؤية الأشياء من زاوية مختلفة لما كانت تستنسخها الرؤية السابقة. لغة ستأتي من تلقاء نفسها في النص لدى تغيير زاوية الرؤية، في الشعر وفي القصة، وذلك بتقديم رؤية جديدة تنبثق من الذات التي ترى العالم على نحو مختلف، كلّ وفق دواخله واقتناصه للعالم الذي يلتاع فيه ويريد أن يفهمه و يقدمه. كانت النصوص في الشعر مشاكسة، مغامرة، ذاتية و تجريبية تضدّ ما هو متبعٌ في الشعر العراقي والعربي عموماً لجهة إنهاء الرومانسية ونفي أغراض الشعر العربي الذي إنتقل إلى الشعر الحديث وأن كان هذا الشعرعموماً غير ملتزم بالأوزان التقليدية، بتعبير آخر تخليص الشعر من سرد الشخص الثالث وخطابه المباشر التربوي والثوري أو بتقديم الشكوى وسفح العاطفة غير المتبلورة والابتعاد عن الذهن، وعدم الاقتراب من الذات المتخيلة التي تعيش تناقضاتها مثلما تعيش وتتأثر بتناقضات العالم الذي يحيط بها. إجمالاً شعر التكرار الذي لا يعيش مغامرة الكشف وينأى عن المخيلة وهو ميتٌ أصلاً في قوالنه. أما في النصوص القصصية فقد كانت المناقشات والحوارات حول ضرورة نبذ العقدة الموبوسانية والتخلي عن إرث التشيكوفية، وكذلك عن نقاء القصة وعدم جعلها حمّالة لمشكلات الوعي الاجتماعي والأخلاقي، وأن لا تنطوي على أساس ايديولوجي.: كما في قصة غائب طعمة فرمان مثلاً quot; سليمة الخبازة quot; التي تريد أن تقول بأن الرأسمال الكبير يأكل الرأسمال الصغير.
في ذلك الوقت، عبر الجدال والإضاءات والحوارات التي تتجاوز الكلمات، بالسلوك المتجاوز وبالحياة الشقية وبالإخلاص لضرورة اكتساب الوعي وإدراك شحنات الداخل، وكذلك بالقراءة المعمقة لثقافة العصر للإحاطة بها، تمكنت المجموعة من وضع أساس مشروعها الثقافي. في تلك الفترة أيضاً، وحتى منتصف الستينيات كتب جليل القيسي مجموعته القصصية quot; صهيل المارة حول العالم quot; التي تعتبر مقدمة مهمة في نصوص القصة القصيرة التي تتجاوز القصص التقليدية، وتروح خطوات نحو مغامرة الفكر لتعكس إلتباس العالم كما هو. وكذلك قصص سركون بولص المشحونة بتفاصيل خلاقة لا يدركها إلاً من يملك رؤية ذاتية مختلفة ويريد عبر الكتابة أن يرى نفسه اولاً ويمسك بعالمه الذي يفلت منه كل لحظة.
على أية حال ثمة الكثير لما يمكن أن يقال عن تلك الفترة، ويلزم علينا، سركون وأنا، أن نستذكرها بحب ونسجلها، خاصة بعد رحيل جان دمو وبعد أن خلد جليل القيسي إلى النوم الأبدي. هذا ما أثارته عندي الرسالة التي تلقيتها من جليل وفيها أنوارٌ من نبل العاطفة، كما فيها تنويه لمحنته في منفاه بكركوك. حقاً كان القيسي جاداً وعصامياً ونبيلاً ومنتجاً، كرس نفسه، بقدر وعيه للإبداع، وربما كان أكثرنا نبلاً ومعاناة.
رسالة القيسي لمؤيد الراوي
كركوك / شباط 2006
(....) فجأة تصلني منك، بعد ثلاثة عقود من الاغتراب، رسالة قصيرة باردة، وكأنّ القوى الوضّاءة لدى مؤيد المبدع قد جفت. لكنني مع ذلك حاولت أن أتذكرك واستحضرك بالصفاء الذي أريده، لا عبر رسالتك، بل من خلال ذلك الماضي الذي ملكناه وملأناه بكل ما هو مفيد ومتفاعلٌ وحيوي، إلاّ انني في الواقع لم أتمكن استحضار ذلك الماضي بتفاصيله الكاملة، ولم تعينني رسالتك المقتضبة على ذلك عندما أثارت لديّ الشجون وتغلبت عليّ العاطفة.
يقول الفيلسوف الإسباني جورج سانتيانا: لا يستطيع الانسان استرجاع الماضي بوضوح، لأنّ (الآنَ) يتدخل ويفسده. هكذا بعد قراءة رسالتك حاولت، مرات عديدة أن استنجد بذاكرتي لأجمع شتات الأحداث والوجوه القديمة التي غابت عني وابتعدت في المنفى، لكن الذاكرة راحت تتلعثم في الإجابة عليّ، وحتى على الأحداث القريبة. لولا القراءة يومياً ثلاث ساعات تقريباً، رغم ضعف بصري، وهي تعمل حتماً على تنشيط دماغي المتعب، لأصبت بمرض الزهايمر الذي تعاني منه زوجتي منذ عام.
آه، أيها العزيو مؤيد، كنت أنتظر منك بلهفة رسالة تنطوي على سماء من أروع الكلمات؛ عن حياتكَ وعن الأصدقاء وعن الأسرة، لكنك كنت بخيلاً. أنتم أبناء ألمانيا وكوستاريكا وأمريكا بالتبني (في إشارة إلى فاضل العزاوي وأنور الغساني وسركون بولص. م) أنجزتم الكثير، ولكن اوجاعكم لم تكن قليلة أيضاً. هل ما زلت يا مؤيد تعاني من عذابات غير مفهومة مثل فان كوخ، وكالمتصوف تحاول الهرب من الزمن لكي تنسى. أما أنا فقد عشت عقوداً خرافية من الخوف ومن الرعب في ظل الفاشية الصدامية حتى أصبح الخوف عندي ضرباً من المتعة، ولا أعرف في الواقع كيف نجوت من فك الماكنة القاتلة، وبأي مزاج كتبت أعمالاً أعتز بها. أما الآن، بالرغم من الفلتان الأمني المريع، أكتب بحماسة فيما أردد مع نفسي كلمات الشاعر البرتغالي ريكاردو رييس:
ما زلتُ على قيد الحياة
غير مكترثٍ
بأحدْ
أنا الذي يُجبرٌ الجميع على الصمت
أنا الذي يتكلم
قدرنا، أيها الحبيب، أن نبقى بثبات إلى جانب عشاق الحياة، بغض النظر عن فوضوية اصطخاب التاريخ، لآنّ فهمنا، إلى حد ما، بشمولية الحياة يضخّ في عروقنا المزيد من عصارات الحب والمزيد من الثقة (...).
*****
قصيدة مؤيد الراوي
جليل القيسي: حارس المدينة
في نهاية العام 2002 أنجزت قصيدة quot; جليل القيسي: حارس المدينة quot; وفي صيف 2003 نشرت في quot;مشارفquot; الحيفاوية، ثم نشرت في العراق بعد زوال الديكتاتورية، وأذيعت في عدد من الصفحات الألكترونية. أعيد نشرها هنا مجدداً في رحيل القيسي، وهي بالنسبة لي نوع من التطهر مما حدث ويحدث في البلاد، هكذا أردتها.
(1)
رَأيتَ
ما لم نرَ:
(في مِحْجَريكَ عينان ِ من عقيق)
أبصَرتنا، نَرحَلُ بريح ٍ خفيفةٍ تضربُ قلوعنا.
آملينَ الدَهْشةَ، نَحمِلُ جمرَ ما سيأتي،
وأنتَ بنَفْس الحريق الذي شَبَّ،
مَكَثْتَ
لِسَفينَة ٍ
تُبحِرُ
مِنَ
الماضي
تنتظرُ لها ماء الطوَفان.
شاخِصاً في الزمان ِ، تُرَتّبُ تاريخهُ
تضعُ هذا الشخصَ هنا
وذاكَ الشخصَ هناك
لا لِمَوَدّةٍ، و إنّما الأرواحُ هكذا،
تَتَخاصَمُ
وتتصالحُ
بَعدَ كلّ غمْر ٍ، فتأتي السفيتةُ جانحة ً
تبدأ برَتقِ قعرها
مثلما تُهَذّبُ بالكلماتِ طفلاً يتعلمُ الكلام،
ثمّ تنحَتُ من الصلصال سِفْراً
للبقاءِ، وسِفراً للرحيل
لأنّكَ
تَوَهّمتَ
وَ رأيتَ
ها نَحنُ هنا
أمامنا أقفاصٌ طافِحَة ٌ بالوَهمِ،
نداريها بالنوم الطويل
لنوهِمَ الوَهْمَ
وَنحَمّلُ أيامناعلى فراشاتٍ تَموتْ.
نحنُ هنا، مُقنّعونَ بالرضى،
في غُرَفٍ مُقفلةٍ
نفتحُ أحياناً، في خدَرِ الوهم، أبواباً على الليل ِ
لعَلّ من يأتي سَيُدْهِشنا،
بيدِهِ مسحاة ٌ يُقَلّبُ الصدور
أو يَحْمِلُ لنا عُيوناً، جاءَ بها من الماضي،
نرى بها
وجوهَنا
في شِحَّةِ الفانوسِ
نَرمي النَردَ ونقامر، مثل لصوص ٍ، على مَن سَيأتي.
وماذا سيأتي في المنام؟
طائرٌ أو صَيّاد طائر
أو ربما عَرّافٌ
يسردُ سيرتنا الموجزة
ويقترحُ أن نذهبَ
معَ المُهَرّبينَ
إلى تلكَ البلاد.
ها نحن أصبحنا مُفلسينِ من الوَهم
لأننا
كَرّرنا ما رأينا
والأيّام كانت الأيام، تّنزَعُ جلودها كالأفاعي
لِيَمْضي بنا الوقتُ
بطيئا
ونحن
ننتظرُ
ريحاً أخرى تنشِرٌ لنا القلوع
(2)
رَأيْتَ
ما لم نرَ:
(في مِحجَرَيكَ مرجان ٌ يَشِفّ عن رؤى، فيُنذِرُ عن جحيم ٍ يتكوّن)
على جَبينِكَ المعروقِ من التتبّعِ وَشمٌ لدهشةِ الطائراتِ، تُحِبّ الحريقَ
وهيَ تحَلّق. توَسّعُ المدى وتوَسّعها، ثمّ تُعَمِّقُ للموتى قبورهم؛
جُنودٌ يَربحونَ الحَربَ
وجنودٌ يخسرون:
رهانُ مُضاربٍ على قِناع ٍ قديم.
دهشَة ٌ في العينين الكليلتينِ، حينما
يُفَسَّر الموتُ ــ برضى الضمير ِ ــ
دَعابة ً
أو لعبَة مقامر.
تنبعثُ غيمة ٌ كالزعفران
تُغطّي القرى
وَتُفَسّخُ الأشجارَ
لِتُعلِنَ الناسَ إضمامة وقودٍ من فحَمْ.
أقوى منَ الإلهِ انتحال الأنبياء.
أعلى من السماءِ طموح الأدعياء.
يأتونَ مثلَ راءٍ مُزَيَّفٍ، راهنَ
على القوَّةِ
ولم يخسر الرهان.
رأيتَ
كُلاً في مَخبَأهِ
ووَجهُكَ مُكرَّرٌ في غرفةِ النوايا حتى تعَكرتْ.
الرأسُ مغمضُ العينين ِ
لِئلا ترى
كائنات من شقوق السقفِ تدعوكَ الى الوليمة
بأكفّها السكاكين.
راقَبْتَ الأفاعيَ تقتاتُ على الأطفال ِ
مُتسللة ً إلى المهدِ الذي تهدْهدهُ
وتعبث في الرمادِ المتبقي أمامكَ.
(3)
رأيتَ
ما لم نرَ:
(في وسْع ِ عينيكَ زُمُرّدٌ ويغطّي حاجبيكَ الذَهَبْ)
هوَ التنبؤُ بما سيأتي:
قدَرٌ يحمِلُ ألغازاً، تفَكِكُ أنتَ أسرارها،
وتداوي الناسَ ــ منسوخينَ منَ الخوفِ ــ
تُضمّدهم في الأسِرّةِ:
جُثثٌ تخَشّبتْ وجَفّتْ منذ عَهْدٍ
يَفعَلُ الحَطّابُ بها ما يريد.
مِبْضَعكَ في القلبِ نِواحٌ
وأبوابكَ إليهم مُضَيَّعة المفاتيح.
هكذا المدنُ والطرقُ والسماءُ والطعامُ مُفْسَدَةٌ
والماءُ الذي يغسلُ الخطايا
يَسكُبُ تعويذةً للخلاصْ،
لكنّهُ دُعاءٌ بِلُغةٍ مُبهَمَةٍ
يَتَحَدّثُ بها الشيطان.
تَعرفُ إن الحريقَ الذي سيأتي
يَجيءُ بَعدَهُ الطوَفان،
وتراهُ الأنَ ثِماراً فاسِدَةً:
تَرى بعَينَيكَ الأوْبِئَة َ واقِفة ً
راع ٍ يقودُ رَعِيّتهِ إلى الذئاب
وكلّ بابٍ موصَدَة دونهُ على دعاءِ الصلاة،
ومن يُصَلّي الفجرَ
يَخافُ غِياب الزمن.
(4)
رأيتَ
ما لم نرَ:
رَأيتَ في الضغينةِ حقولاً لا تتعافى
وفي بذورِ الشّرِ
يَكبرُ الأطفالُ.
يَدٌ من المجهولِ تَمْنَعهم، وأنتَ تعود إليهم عجوزاً من الكهوف،
على ظهركَ المنحني تحملُ كنوزاً
جَمَعتها من السماء ــ
حينما تخاصمَت الآلهة ُ رَمَتْكَ بالهدايا؛
أسفارٌ لمواعيدٍ لا تتحقق
وتداولٌ لِدَعوَة الإثم
يُبَيّنُ لكَ ما في الليل من إضاءات
تشغلكَ الكتابة ُ على الطين،
تأتيكَ وتنهضُ منها السماواتُ، والأنهارُ تفيض.
سماؤكَ رمادِيّة ٌ، ونَهركَ المرتجى طافِحٌ بالجثث
تخوض في لغةٍ أخرى وأنتَ مُتنقّلٌ في الماضي
تمسك بخوفٍ
أصابِعَكَ التبْحَتُ عن الكتابةِ: عِظامٌ ليست لكَ
تختبيءُ في عشبِ الصيفِ مثل طير ٍ مذعور
وأصابع غيركَ على الفأسِ موشومة ٌ
تخفي نيتها وتنزلُ على الرقبة.
فِخاخٌ هيَ اللغة،
والكلمات التي تنحتها مُكرّرة
ينصبها صيّادٌ مُحِبٌ للطيور
وأنت قد خبِرتَ
الكلماتَ
هيَ
مُجَرّدُ كلمات،
تمضي بها الى الممالكِ القديمةِ
ثمّ ترجعها، الى الأرض، بالحكمةِ التي لا تجدي.
لكنَ الأرضَ، كما ترى، أرضٌ
وهكذا العناصر الأخرى
لا تتغيّر.
هكذا
الخليقة ُهِيَ
لا تحَرَّفُ
ولا تضيَّعُ بالكلمات
(5)
رأيتَ
ما لم نرَ:
(مدينة من حَجَر ٍ يفيض كلّ عام نهرها ثمّ يَجفُّ. محروسة بهذا الإدمان وبتقادم الزمن)
الى صَحْن ِ داركَ الصخري لجأت ملائكة ٌ،
نسِيَها اللهُ أو أهمَلها لِحِكمَةٍ
أخلتْ قلعَة َ quot; كركوكَ quot; للجنودِ
يَعقِدونَ صفقة ً مَعَ التاريخ، يأخذون مخالِبَه.
يَعبرونَ جسرَ المدينةِ الحجري، ليوصدوا أبوابَ quot; شاطرلو quot;
مَدخل الجَنّةِ مُغلقٌ
وفي رأسِكَ يَضيعُ ألَقُ المكان.
ترى جنوداً يلبسونَ دروعَ الماضي
يبنونَ القلاعَ
ثمّ يُهَدّمونَ أسوارَها
مُثقّلينَ بالحديدِ ــ تتلصص عليهم ــ يَحرثونَ حدائِقَ quot; ألماز quot;
وفي الفجر، خوفاً من الذئاب، يَصرخ الموتى على تلّة quot; دامر باش quot;
فتحمل لهم رفشاً ليهربَ اللصوص.
بعيداَ تتخفى عن quot;صاري كهية quot; وتحوم حولَ quot; عَرَفَه quot; المسوّر بالأخضر:
أماكنٌ لكَ
تحتفظُ بها، وتحفظها لنا كسوار الذاكرة.
غرباء جاء وا كخيال المآتى؛ عابرو الصحارى ومُهَرّبو الجبال
يخلطونَ الرملَ بالثلج
يطبخونَ على نار ٍ هادرة
يَتخيّلونَ المُدنَ دَعْوَة وليمةٍ
تعطيهم الحجرَ ومنعطفَ الطريق،
لكنّ المدينة مبهمة ٌ
ولها روحٌ تحْرِسها الآلهة ُ
تخفي عنكَ نهوضها، وفي الأسرار ِ ميراثٌ
يُغني العُمرَ
وَيَقي المدينة
(6)
رأيتَ
ما لم نرَ:
من زمان ٍ يولدُهذا الطاعون هنا،
وكان هذا الحريقُ دوماً
ذريعَة ً للتطهّر
فأرَدتَ أن تأتي إلينا
هارباً
برداءٍ
وبمسوحِ
قِدّيس
غافِلاً بأنّ اليُتْمَ بين اليتامىعواءٌ
ينبعِث من نهش الكلاب
(7)
رأيتَ
ما لم نرَ:
(فصولاً مُقفرة ً، لا وردة تشعُّ في الذاكرة)
يعيدها الأمواتُ من زمان ٍ رماداً، أو
وجوهاً مُبهمة ً تنمحي، كما الأشباحُ؛
بحمى مريضٍ أو مَعْتوهٍ بماض ٍ
ينسجُ أطيافاً لِمؤونةٍ في المجاعة
جئناكَ صباحا، وفي أيدينا مرافئ للسفر
(كلّ بحر كانَ حديقة لزهورنا الذابلة)
جِئناكَ غرقى بالكحول مساءً
ثمّ هادنّاكَ بالحوارات وقت الظهيرة
نحمِلُ ناراً تُوَشّحُ بها غِبطتكَ الأليفة
فارس الوقتِ أسميناكَ،
وخيولكَ الخيال
أنتَ هنا، صَحوَة ٌ مُرتجى
وأنتَ هناكَ، بالتذَكر ِ،
زؤادَة ٌ في أكياسِنا. ونحنُ، كما ترى،
نُقلِّبُ السيرة َونعودُ إليكَ خفيَة ً
لِنأكلَ معاً فطورَ الصباح.
مِنْ زمان ٍ نخافُ معاً
أن يأتيَ الماضي، حاضراً أمامنا،
ثقيلاً نمسكهُ،
ثمّ نفحَصهُ،
غيْمَة من حديد
فتصبَحُ الفصولُ أمامنا مُقفِرَة ً.
(8)
رأيتَ
ما لم نرَ:
يَمضي الزمانُ بكَ كقطار ٍ عتيق،
يُسَيّرهُ اللهُ لكَ بطيئاً
لحكمَةٍ في الموتِ
أو لِنداءٍ من القيامة.
أيّامٌ يُلوّثُ دخانها العُمْرَ، ويوشيهِ بالسواد
مثل راياتِ الخطيئة؛
تُشجِّعُ الضرْبَ وتشقّ الصدور.
هيَ عُتْمَة ٌ إذا،ً
وأنتَ في الظلمَةِ تفتحُ الضوءَ للمشهَد:
ممثلونَ بأقنعةٍ، وحكواتيٌ تحتَ عباءتِهِ ضباع
يَجعَلُ الناسَ في الليل يطوفونَ
وعشاؤهم في صُحون ٍ من الدم.
ها نحنُ نرى
وأنتَ، أيضاً، ترى
في الضوءِ العَكِر ِ طقوصاً بأعراس ٍ مُلفّقةٍ تقام؛
خِرَقُ أعلامٍ يباركها اللهُ
مَعْقودَة ٌ سارياتها بالتعاويذِ لِوَجهٍ يتكرر
ماثلٌ بالتفويض يباركُ الجموعَ
فيَعودُ الطبّالونَ، هكذا، من البهجةِ
مُتْعَبينَ
غائبين
قادتْ مَزاميرُهم الناسَ الى البحر غرقى
(9)
رأيتَ
ما لم نرَ:
(في عينيكَ الدامِعَتينِ حيرة المعرفة)
الدمُ يوغِلُ في المدينةِ
يغسلونَ بهِ الأمواتَ
ويرتدونَ الكفنَ، بُردَة ً مُهَلهَلة ً من بياض.
البِلادُ مُسَوّرَة ٌ
والروحُ فاسِدَةٌ،
وأنتَ، في وليمَتكَ المستمرةِ ساحِرٌ
وحارس للمدينةِ
تُحضِرُنا في غفلةٍ من المحاصرينَ
تحكي لنا عَنِ الخَطايا
وعَنِ العِقابِ،
ماثلٌ كفأس ٍ
مكتوبٌ على الجبينِ
منذ الأزلْ
(1) جليل القيسي قاص وكاتب مسرحي ولد في كركوك، شمال العراق. صدرت مجموعته القصصية الآولى quot; صهيل المارة حول العالم quot; في منتصف الستينيات، عن مجلة حوار اللبنانية، طبعت بملامح الحداثة للجيل آنذاك. عاش القيسي مع مجموعة كركوك التي غادرت العراق فيما بعد لمواقفها من الإبداع والحرية المضيقة عليهما تحت نظام البعث في العراق. وقد اتهمت بالتنكر للتاريخ العربي والتراث القومي (كذا) وقمعت مواقفها الليبرالية من الثقافة. وقد آثر القيسي، فيما بعد، مع اشتداد الحملة الإنزواء والصمت والبقاء في مدينته كركوك، شبه منقطع عن العالم وعن أصدقاء الشباب الذين هاجروا ورحلورا الى المنفى، على رأسهم أنور الغساني وسركون بولص وجان دمّو وفاضل العزاوي ومؤيد الراوي. وطوال عقود، بسبب الدكتاتورية البعثية في العراق، لم يتم بينه وبينهم اللقاء أو حتى تبادل الرسائل. وأسقط جدار ثقيل ليحول دون المودة والحب القديم بين القيسي وخلية كركوك الثقافية
(2) شاطرلو، الماز، دامر باش، صاري كهيه، عرفه: أسماء قديمة لمحلات واماكن ومناطق في مدينة كركوك. وتشير أيضا الى جذور تركمانية. وقد قام النظام البعثي، وعلى نحو منظم، بتغيير هذه الأسماء، وبإجراءات أخرى في نطاق حملة تعريب المدينة.
التعليقات