محمد الخامري من صنعاء: يتواجد الأديب والناقد الكويتي الشاب سعد الجويّر هذه الأيام في صنعاء ليحيي عدداً من الأمسيات في إطار برنامج أعده عددٌ من أصدقائه الشعراء اليمنيين في كل من صنعاء التي غادرها صباحاً وعدن التي وصلها اليوم. وفي معرض زيارته الحالية لليمن التي قال انه يعشقها كثيراً ويحن إليها كلما بعد عنها خص إيلاف بدراسة نقدية خاصة لمجموعة الشاعر اليمني الشاب عبدالرحمن غيلان والتي اسماها حضور الأنثى وانتصافها الذات في quot;سيرة امرأة لن تكتملquot; والتي قال فيها:

يتنقل عبد الرحمن غيلان في مجموعته الشعرية quot;سيرة امرأة لن تكتمل 2006مquot; بين حضور أنثاه، وسيطرتها على القول لديه، فنجده منتشلاً إياها من مستنقع النظرة العامة، وما تحمله النفس من (مُسلمات اجتماعية) ظالمة وغير قادرة على إعطاء صورة ولوشبه حقيقية لما يجب أن تكون عليه الأنثى في طبيعتها.
ومما لا شكّ فيه أن هذا كله عبارة عن تشرّب لمفاهيم سابقة، واتهامات مسبقة جاءت عن طريق السلطتين الدينية، والسياسية، واللتان ظلتا محاربتين لهذا الجنس محاربة تامة في سبيل خدمة أغراض لا ينكرها أحد، ولا يغفل عن مؤداها أحد على جميع الأصعدة.
أول ما يرى في طرحه غيلان من ضرورة قصوى، هو الموقف المضاد، والضدية الأزلية بين الأنثى (جنسها بعينه) والقبيلة (الذكوري، المجتمع بما يحمل من مفاهيم)، إذ الأخير يجد في إبقاء الأمور جميعها كما هي عليه راحته التامة واستقراره الكامل، فلا يود بدوره أن يفتح أبواباً جديدة قد تدخله في معمعان المُعاش، وجدلية اكتمال الدائرة في الحياة اليومية !، وذلك في نصه (قبيلة) إذ يقول:
طاردتني القبيلة
حين أودعتُ
قبلة هذا الصباح
على خدها المخملي..ص5
فهكذا يعلن غيلان اختياره بالانفتاح على الآخر، والوقوف بجانب الأنثى، خارجاً عن مسار (العادة) الأزلية، والتي تقف موقف الضد دائماً، باعتبار اختيار غيلان لا يتماشى مع ما يرنو إليه المجتمع من تحفظ من شأنه استقراره على وضع منتهي، وليس من صفاته التطور أو التغيير، كما ذكرنا أعلاه.
غيلان، يدرك أن المجتمع لن يكفيه مقاطعته، بل ويصرّ على ملاحقته، ومطاردته أينما حلّ بأفكاره، وحبه الكبير لتغيير ما مضى، أو الخروج عنه بأي شكل من الأشكال، يظل هذا الشعور قاسياً في داخلية الشاعر، حتى كأنه يلهثُ عن سفرٍ بعيد، وهو يقول، كأن كل اللذين قد عارضوه مازالوا من ورائه، يقتفون أثره، ويسنون خناجرهم، فقط بانتظار إطلالة وجهه من بعيد !، يقول:
خاصمتني القبيلة
ومازلت أهفو
وما فتئت تنهش العرض.. ص5
واضح جداً نوع من أنواع الفهم التام والغزير يتكون لدى غيلان للأنثى وهذا نابعٌ من محاولاته المتعددة لغور قواميسها، محاولاً الخروج لذاته أولاً بصورة جديدة مختلفة عن سابقاتها والأخيرات كونها مجتمع بكامله، ولنا ثانياً بمحاولات جديدة للتعامل مع هذا الكائن المختلف، والمتجدد أبداً. من نصه (سيرة امرأة لن تكتمل) يقول:
تقرأ فيه كل صباح
خياناتها الفارهة
وفي منتصف النهار
تبحث عن قصة جائعة..ص8
قد نلاحظ، أنه لا جديد ! من حيث أن الأنثى ككائن في ذاكرة العوام من خواصه الخيانة، واحتمال الاثم دائماً، لكن غيلان هنا، إنما أراد التعامل مع هذا الكائن تعاملاً شخصياً بعيداً

الشاعر غيلان مع الزميلة بهية
عن (روح الجماعة) إذ الأخيرة تعني أنه لا هدف إلا قتل هذا الكائن، والتخلص منه إلى الأبد، ولكن في حال عرض الشاعر لما يقوم به هذا الكائن إنما هدفه اكتشاف بعض من دواخل شخصيته، وعرضها بشكل حميمي على طاولة الحوار، في سبيل الوصول إلى كلمة (ثنائية) يتعرف فيها كلٌ من الكائنين على رفيقه.
أيضاً يريد أن يوضح غيلان أن عاطفة الآخر تجاهها لها مساهمة عظمى في جعل العلاقة كما عُرفت منذ الخليقة، فتظل عاطفة الذكر غير قليلة شأن في ربط الروح بما لا تُحمد عقباه في العلاقة أياً كان شكلها، يقول:
ذات غفلة
قالت له (أحبك)
وذات وعي
أدرك روحه محاطةً بحبل سميك..ص9
إذن (الإثم) مشترك وغير (أنثوي) كما يفهم المجتمع. يحاول غيلان أن يقدم لنا صورة مختلفة تماماً عن التي تلقيناها من الطرح (الجماعي) المسبق بالاتهام وغيره ! لا يتردد غيلان أن (ينشر) للمتلقي كمية غير قليلة من(الخيانات) والتي يمكن أن تمارسها الأنثى بلا أي مجهود منها، ولكنه في نفس الوقت يفصل للمتلقي الأسباب التي تدفع الأنثى إلى هكذا حماقات غير محتملة، يقول:
أوهمته كما فعلت بغيره
أنه الرجل الوحيد
وفي يوم نشوتها أقنعته بوحدانيته
فلا (جرسون) سواه..ص9
ويقول أيضاً:
عيناها يتحملان الجزء الأكبر من الخديعة
فحين تكشّر عن دمعة يابسة
تُخفي أنيابها المتمرسة..ص9/10
هنا يفصل غيلان (الخيانات) واضعاً حداً معقولاً جداً، وكافياً للإقناع، في تغير ما اعتاد عليه المجتمع من نظرات، مؤكداً مرات ومرات، أنه ليس (الأنثى) وحدها من يحمل كل هذا، وأن (الإثم) إن كان ثمة اثم بين الحبيبين، إنما هو مشترك من الدرجة الأولى، يقول:
دائماً يبهرها بأسلاكه الغير شائكة
تحس بدفء كاذب
هو أيضاً ينشر غسيله
ليصل فقط لنفس الرعشة..ص11
في النهاية، يضع غيلان حداً لكل هذا، يقوم بما يشبه تعرية، فيها من القسوة ما يكفي لخلق (صدمة) كفيلة بالإقناع، وغير قابلة للمساومة من (القبيلة)، وغيرها، إذ بعدما أستطاع فهم (الأنثى) مخترقاً (قانون اللا فهم المتعمد) من قبل المجتمع الذكوري، بكل بساطة يضع غيلان الحد.
فارسها الوحيد
اكتشفت مؤخراً
أنه سبب انزلاق مُهرتها دائماً
عند عتبة الضحايا..ص14
وفي نصه (فقدان)، يرصد لنا غيلان درجة حاجة (الأنثى) لاكتمالها بنصفها الآخر، موضحاً أنه من الاستحالة بمكان، ابتعاد الطرفين أكثر مما يلزم وقت الانتظار للقاء !، يقول:
حين أملّ لحظتك
تذبحني الرغبة..ص15
فهي في حالة انتظار دائم، انتظار لا يحتمل في الوقت الذي فيه مدركة تماماً عدم رغبة الآخر بالفعل الذي تمارسه بدورها (الانتظار) بحد ذاته، فليس أمام غيلان إلا أن ينطق الرجاء على لسان الأنثى، يقول:
لا تملّ انتظاري
قالتها ومضت..ص16
ثم يفتح غيلان صفحات (من دفترها) وهبته الأنثى إياه، بعد مشوارٍ من فهمه لها، وغور عالمها ((متناهي الغموض))، يتنقل غيلان في نصه بين الانتظار المر، واللقاء الأمر، بين الخيانات التي يفرضها (مجتمع) تام البناء على (حبيبين) مشروعين، ولا يتمّ مشروع حبهما إلا بتوافق جميع المتضادات ! مبتدئاً (بحماقات الذكر) إذا صح التعبير، والذي بات ndash; مع زمن متراكم لا يصحٌ له فيه الحياة الدافئة ndash; بات متنقلاً بين آيتي الحضور والغياب، فلا شيء يدعو إلى الحياة، سوى أسى الحياة ذاته، محاولاً أن يقرب صورة للمتلقي مفادها، أنه لا حقيقة في الحب، استناداً على كل ما يقدمه الوسط الذي يحيا فيه طرفا الحب بأي شكل من الأشكال، يقول:
كثيراً ما ينتظرها
لرغبة بداخله
تعوّد عليها
فحضورها لا يشبه من غيابها
إلا النسيان.. ص17
في جدلية (المحبة) التامة، يقول غيلان، كعادة المحبين دائماً، أتفه الأسباب هي أسباب عدم اتفاقهما بشكل يومي، ومستمر، على الرغم من أنها حالة طبيعية جداً، ولكن الأمر يكون فيه اختلاف عندما يكون هذان الطرفان في معترك مع طرف ثالث (دخيل) اجتماعي فلا مجال ولو قليل لهكذا عناد، يقول:
أثقلته بحضورها
وحين يغيب
تصبح ريشة طائر..ص17
هذا كله يخلق بلا شك اختلالاً في نفسية أحد الطرفين، تجاه ما ينبض به قلبهما في عالم المحبة والود. ولطالما كان الألم والأمل وجهان لعملة واحدة، في مجتمعات محصورة منغلقة لا فكاك من تسلطها وبالتالي عدميتها على صعيد النفس البشرية، يقول: أدمن مشاطرتها الألم
وأقلعت هي عن أمله..ص17
يظل لا شيء أمام هذه الأنثى غير أنه لا شيء أمامه، هذا الشعور بالعدمية الصارخة، واللاجدوى، يخلق لنا نسخاً متشابهة في محيطنا المعاش، فكل شكل ndash; كما هو معروف ndash; دأباً يستدعي شكله ويوافقه، يقول:
الأنثى الشاردة
كثيراً ما تستسلم
أمام مرآتها
تبحث عن فقدان..ص18
يبدأ غيلان في الحديث عن (مسابقة) الحياة، المشروعة (شكلياً) فقط، مستدعياً الفرق بين الجنسين في الوصول واللا وصول، يقول:
استيقظ هو
ولما تزل تبحث
عن مسافة معتمة
لتفتح عينيها.. ص18
سرعان ما ينتهي كل شيء في هكذا حالات، ويظل غيلان واقفاً في صف (الأنثى) الضعيفة ضد الذكر الذي لا يخجل من تكرار خياناته، ونشر حماقاته أمامها، ومن ثم يعود ليطالبها بالبياض، وعدم الخيانة من جديد الأمر الذي يجعل مطلبه أشبه بحلم، وليس له أي تعبير آخر، يقول في خياناته وتقديمه الانكسار لأنثاه:
حين رحل
أودعها حكايتها
التي خبأتها بمعطفه
ذات وهم قديم..ص20
يبقى أمل الأنثى واسعاً، يقاس بألمها !، على الرغم من كل ما تلقاه، حيث يقف الذكر مع الجانب الآخر من الزمن والقبيلة في ضدها. الأنثى لوحدها تعيش، الأنثى لوحدها تكابد، يقول:
مسافاتها معتمة
وحده الجرح
دليل الأمل..ص21
الأمر الذي يجعلها لا تتحتفظ للآخر بغير الرغبة العارمة في الخلاص منه، والتنفس من جديد، ولو كان ثمن ذلك ما كان، فلا تتطلع إلى التخلص منه كوجود يحكم عليها مشاعرها قبل جسدها، مع العلم أن غيلان يريد أن يوضح أن (الذكر) هو السبب في هذا كله !:
في عيد ميلادها
أسرّ إليها
إحساسه بولادته
ويوم مات
شعرت أنها وُلدت من جديد..ص23
وتظل الأنثى في الغربة على الرغم من الحضور والاندماج التام بينها وبين الجنس الآخر، غير أنها تجد أن كل ذلك شكلي وليس فيه ذرة تقارب حقيقية بين الطرفين، شعورها واضح بلا وجودها، واستفهامها الوحيد، والذي لن تمله منذ الخليقة وهي على استعداد تام في طرحه ملايين المرات:
هل تبقى بعض الورق
لترسمني ؟!..ص28
ويظل ndash; في نظرها على الأقل ndash; حضوره تام ومسيطر، وحضورها ناقص وزائل، هذه النظرة تخلق لديها نوعاً من الكآبة التي تفضي إلى استعجال النهاية:
في كل الأحوال
أنت تأتي لتذهب
وأنا أحفر قبري..ص30
في النهاية تشرّع الأنثى لنفسها كيفية التعامل القائم بينها وبين الجنس الآخر، بعدما ملت وعوده، ولا جديته في إعطائها الحق في الحياة في عالم واحد يجمعهما، ليس أمامها في هكذا حال سوى أن يكون لاختيارها الكلمة الفصل:
سأمنحني وقتك
وأهزأ بالريح..ص31
وفي نصه ((لن تضع الحرب أوزارها)) يصنع لنا غيلان معادلاً موضوعياً لـ (الضد) الذي يواجه علاقة المحبين في الحياة المعاشة، الحرب هنا ليست هي تلك التي تُدار بالرصاص وإحصاء الجثث، هي حرب مجتمع، يعدُّ لها كل ما في استطاعته من عتاد وقوة، حتي يأتي ضارياً شرسا أمام هذا المخلوق الضعيف، وعلى الرغم من كل هذا يظل موقفه صامداً مع من يحب فلا يرده راد ولا يقف في وجه حبه العظيم أحد، يقول:
في زمن الحرب
أحبك أكثر..ص37
ثم يوجه الكلام بشكل واضح احتجاجاً على ما يقومُ به الآخرون ضد هذا المخلوق، مقارناً بينهم وبينه (بين الموقفين) مفاخراً بأنه صاحب الموقف الأفضل بينهم، هنا يطرح الشاعر تحديه الكبير، ومحاولاته للوصول إلى نقطة (التنوير) العظمى.. باعتباره صاحب الفهم المختلف، والنهج المغاير، يقول:
حين أصلي
لتنتهي عمليات غزوي إليك لصالحي
أحبك أكثر
وحين يرمون رصاصاتهم
ويوجهون مدافعهم
ويحملون قنابلهم
أحبك أكثر
لأنهم مشغولون بعقدهم
وأنانيتهم المفرطة
فلا يفكرون بك..ص38
أما في نصه (من مذكرات ضحية) يوافينا غيلان بصرخة جديدة من صرخات الأنثى المهزومة أبداً، ذاكراً العلاقة الضدية بين أشياء الجنسين، وما يدور بينهما، وعلى أي الوجوه والقراءات تفهم هذه العلاقة، إنها جدلية قديمة قدم الخلق وتكون العالم المادي للإنسان القديم، فيظل النصر دائماً حليف الذكر والهزيمة في المقابل للأنثى وحدها، هذا النوع من الصراع باتت الأنثى تعيه جيداً، وعلى أساسه تتنفس !، تقول:
حين ضعتُ وجدتك
وحين أضعتك
لم أجدني..ص50
وتظل رغم هذا كله، متمسكة بآخر الأشياء التي تهمه، معترفة بأنها لا شيء بدونه، وأن الأشياء جميعها (خاصته) هي منها، يقول غيلان على لسان الأنثى:
حتى منفضة سجائرك
تشبهني..ص51
يختم غيلان هذا كله، وبعد هذا الحضور الشاسع لأنثاه، معترفاً مقراً بضرورة انتصافها إياه ! يقول من نصه (تأثيث لحظة):
سيدتي
لا شيء أملكه
سوى انتظارك
فابقيه سرمداً
كي أؤثث روحي..ص57.