مؤلف هذه المجموعة القصصية كان أحد رجال الأدب والاقتصاد في العراق وأحد العاملين في خدمة الاقتصاد العراقي، وقد حرر quot;مجلة غرفة تجارة بغدادquot; الاقتصادية الشهرية (1945-1951) التي كانت تصدرها غرفة تجارة بغداد حينما شغل منصب مدير الغرفة. وعند قدومه إلى إسرائيل لتحق بكلية الحقوق في تل-أبيب ونال شهادتها ثم أصبح فيما بعد من رجال المال والاقتصاد في إسرائيل وعرف بنشاطه الاجتماعي والثقافي لرفع مستوى الجالية اليهودية القادمة من العراق. وقد كانت مجموعته القصصية هذه التي صدرت عام 1938 في بغداد إحدى الخطوات الأولى الهامة التي خطتها القصة العراقية ونقلها من دور التجارب الرومانتيكية الساذجة إلى الواقعية. وكان مؤلفها يعقوب بلبول آنذاك في

يعقوب بلبول
الثامنة عشر من عمره، مثالاً للشاب اليهودي العراقي المثقف الذي كان يتطلع نحو مستقبل أفضل لبلاده العراق ولطائفته اليهودية وللشعب العراقي بكافة طوائفه. ونلاحظ في المقدمة المهمة التي كتبها المؤلف آنذاك أننا أمام شاب وطني يحاول خلق أدب عراقي محلى والنهوض بالقصة المحلية وبالعلوم والآداب في العراق، فهو يتناول مشاكل بلاده، يحلل الداء ويلمح بالدواء، كما أننا نستطيع من خلال المقدمة والقصص التي تحويها هذه المجموعة أن نقف على آمال الشباب اليهودي وغير اليهودي في تلك الفترة من حياة العراق والشرق العربي عشية الحرب العالمية الثانية.

ففي هذه الفترة كان الكتـّاب اليهود في العراق أنشط كتاب اليهود في البلاد العربية كافة وأكثرهم وطنية واهتماماً بمستقبل بلادهم وتطورها. فمن بين 15 كتاباً قصصياً وصل إليها علمنا مما نشره الكتاب اليهود في البلاد العربية حتى عام 1973 نجد أن 13 كتاباً منها من تأليف يهود العراق واثنين فقط من تأليف يهود مصريين. ويكفي أن نشير إلى أن الكتاب الوحيد في حقل القصة أو الأقصوصة الذي نشر في العراق في سنة 1938 كان الكتاب الذي يحوى المجموعة القصصية ليعقوب بلبول quot;الجمرة الأولىquot;.
وبعد فقد كان الأدباء اليهود في العراق من واضعي المدماك الأول للقصة الواقعية في الأدب العربي عامة وفي الأدب العراقي خاصة. وقد اعترف بهذه الحقيقة علماء وأدباء عراقيون وغير عراقيين، فقد كان الأدباء اليهود في العراق أول من كتب القصة المحلية التي تصور حياة أفراد من عامة الشعب في المدينة (بغداد) والقرية ومشاكلهم النفسية والاجتماعية وعاداتهم وتهورهم في الانتقام والانفعال وآمالهم وشجونهم.

ويرى الباحثون وعلى رأسهم الباحث العراقي عبد الإله أحمد في كتابه quot;نشأة القصة وتطورها في العراقquot; (بغداد 1969) أن أول قصة فنية قصيرة في العراق نشرت عام 1922 هي من تأليف الشاعر والأديب مراد ميخائيل ثم تلاه الأديب العراقي محمود أحمد السيد. أما الثالث من حيث الترتيب الزمني فهو كاتب يهودي نشر قصصه تحت اسم مستعار وهو quot;فتى إسرائيلquot; ونشرها عام 1924 في مجلة quot;المصباحquot; الأسبوعية التي أصدرها سلمان شينا المحامي، ثم تلاه عميد الأدباء اليهود باللغة العربية وهو الأستاذ الشاعر والأديب أنور شاؤل الذي نشر قصصه باسم مستعار هو quot;ابن السمؤالquot;. وقد كان الأديب أنور شاؤل من بين الأدباء العراقيين الأوائل الذين نشروا مجموعة قصصية وذلك في كتابه quot;الحصاد الأولquot; الذي ضم إحدى وثلاثين قصة عراقية (بغداد 1930).

وقد تميز نشاط هؤلاء الكتاب اليهود الأدبي بالواقعية وأعادوا صلة الأدب بالحياة ووقفوا من الأدب موقفاً جاداً ورأوا فيه خير أداة للتثقيف والتوجيه والنقد لا أداة للتلاعب اللفظي واللهو الفكري الذي لا صلة له بالحياة. كما كانوا مدركين المسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتقهم ككتاب رواد في هذا الفن الأدبي الجديد. حاول هؤلاء الأدباء بمؤازرة الأدباء والصحفيين العراقيين عامة خلق أدب عراقي محلي مستقل زاهر شاعرين بالفخر والاعتزاز بانتمائهم إلى العراق، وأن واجبهم الوطني يهيب بهم لقيادة الشعب العراقي من الناحية الثقافية والأدبية على اختلاف ملله ونحله. فقد كان الأدباء العراقيون ولاسيما الكتاب اليهود الذين كانوا في الطليعة ضمير الشعب ومرآته يصورون آماله في أدب جديد يجد فيه كل مثقف مشاكله ومشاكل شعبه. وكانوا يحلمون بخلق أدب عراقي محلي ينافس الأدب اللبناني والسوري والمصري. وقد رأوا أن هذه الآداب وخاصة الأدب الأوروبي، آدابا غريبة عنهم لا تمثلهم بصورة صادقة. وقد حاول هؤلاء الأدباء بواسطة هذا الأدب المحلي الجديد الذي كان أغلبه أدباً تعليمياً نقدياً ملتزماً بقضايا المجتمع العراقي وينعى تخلفه وتمسكه بالآراء والتقاليد القديمة ومتردداً في الآخذ بالجديد. وقد كان لتحمّسهم لمثل هذا الأدب العراقي أن اغفلوا التحدث عمداً عن قضايا الجالية اليهودية ومشاكلها وتجنبوا استعمال اللهجة العربية اليهودية البغدادية في الحوار أو اتخاذ أسماء يهودية لأبطالهم، إلى قدومهم إلى إسرائيل ونبوغ الأديب الكبير سمير نقاش في القصة القصيرة والرواية اللتين خلّد فيهما لهجة يهود بغداد وحياتهم الاجتماعية وعلاقاتهم بالأغلبية المسلمة، إذ أننا نجد في قصصهم قبل الهجرة إلى إسرائيل أن أسماء الأبطال هي أسماء مشتركة بين الطوائف الدينية المختلفة، بينما جاء الحوار باللهجة المسلمة أن لم يكتب بالفصحى. وذلك لأنهم أرادوا الاندماج في المجتمع العراقي وأغلبيته المسلمة من الناحية الثقافية، ولأنهم كتبوا لهذا المجتمع وكان غرضهم هو التضامن الوطني، كما يظهر جلياً من مقدمة الأستاذ بلبول لهذه المجموعة. وقد أثّرت الأدب الفرنسية والإنكليزية والروسية على الأدباء اليهود في العراق من خلال اللغتين الفرنسية والإنكليزية اللتين تعلموها في مدارسهم الخاصة ولاسيما مدرسة الأليانس وشمّاش. وقرءوا مؤلفات موباسان والفونس دوديه وزولا وبورجيه وبوردو وجوجول وتشيخوف وتولستوى. وهذا التأثير واضح في كتاب quot;قصص من الغربquot; (بغداد 1937) الذي ترجمه الأستاذ أنور شاؤل، إذ أن أغلب القصص المترجمة هي فرنسية وروسية وإنكليزية.

غير أن هؤلاء الكتاب اليهود لم يستطيعوا أن يتحرروا من آمال الطبقة الوسطى وطموحها ووجهة نظرها وتعاليها على الطبقة الفقيرة في مجتمع إقطاعي في الأرياف وبرجوازي في بغداد كان في أول تكوينه في العراق الحديث. لذلك كانت قصص هؤلاء الكتاب وخاصة قصص يعقوب ليب (بلبول) خير مرآة للطبقة البرجوازية العراقية وقيمها وآمالها في التطور والازدهار والتقدم والإنصاف الاجتماعي ومحاربة العادات والتقاليد الضارة والتطلع للازدهار الاقتصادي والرخاء الاجتماعي لبلاده. فمؤلفنا يرى أن العوامل التي تؤدي إلى الازدهار الاقتصادي والرخاء الاجتماعي هي محاربة الجهل والإقبال على التعليم والثقافة. والمثقف في هذه القصص هو تاجر أو موظف، أو طبيب أو محامي، والثقافة توفر لهؤلاء الأبطال حياة سعيدة. أما الجهل فعاقبته وخيمة، والخدم والفلاحون يعيشون حياة تعسة بسبب جهلهم وفقرهم ومرضهم، وكثيرا ما يؤدي الجهل إلى السجن أو الكوارث أو الموت. وحياة التاجر أو المثقف كما تظهر من خلال قصة مؤلفنا quot;العودةquot; هي حياة هادئة وتجارته ليست بنفس الرواج الذي هي عليه في الخارج ولكن حب الوالدين والزوجة المخلصة والأولاد الذكور الذين أنجبتهم الزوجة الأولى هي خير تعويض. ولكن التاجر يرغب في تجارة رائجة وربح وفير فيسافر إلى الخارج وهناك يعيش في عزلة محروماً من الحب الحقيقي وحنان الوالدين ويتزوج امرأة أجنبية تخونه وتحرمه من الأطفال لكي تستمتع بسهراتها الليلة. والبقاء في الغربة معناه العار والموت لذلك يعود التاجر إلى وطنه حيث الحب والسعادة الحقيقية.

أما حياة الخدم والفقراء والفلاحين كما تصورها هذه القصص فهي حياة بؤس وعذاب ومهانة وحب ابنة رب البيت الغني للخادم تؤدي إلى كارثة. أما احتقار الخادم وتجنب غزله فيؤدي إلى المحافظة على كرامة العائلة وان كان الخادم من عائلة كريمة غدر بها الدهر، ولا أمل للخدم في ارتقاء درجات المجتمع العليا. بل أن المثقف المنتمي إلى عائلة غنية يسقط إلى أسفل دركات المجتمع إذا تعاطف مع الخدم. وقد تأثر الكتاب اليهود من ناحية الأسلوب والعاطفية والمضمون بالأدباء الرومانتيكيين العرب أمثال جبران والمنفلوطي، حتى جاء يعقوب بلبول الذي قراء الأدباء والفلاسفة الفرنسيين واتجه بأدبه نحو المذهبين الواقعي والطبيعي.

ومعظم هذه القصص تدور حول محول رئيسي هو جناية الجهل وما يجره من ضرر على صاحبه، فقصة quot;انحطاط أو جناية العاطفةquot; (الجمرة، ص 9-58) تجني العاطفة ورقة المشاعر والجهل بنظام الطبقات على الفتى المثقف ويسقط إلى quot;طبقة الخدم الجاهلةquot; دون أمل له في الخلاص منها. وقصة quot;ثورة الجهلquot; (الجمرة، ص 59-67) التي تشبه قصة quot;أُمْنِيـَةquot; ليوسف إدريس في مجموعته (quot;أرخص لياليquot;)، يجني جهل وائل البدوي عليه فيحطم الراديو quot;ليحطم ما به من جنquot; فيلقى عليه القبض ويساق للسجن. وفي قصة quot;أرملةquot; يجني الفقر والجهل وفظاظة أخلاق الولد البكر على والدته فتنتحر. وفي قصة quot;صورة طبق الأصلquot; (الجمرة، ص 97-103) التي ترجمت إلى اللغة الفرنسية في كتاب Raoul et Laura Makarius: Anthologie de la litteacute;rature arabe contemporaine (Paris, 1964) والتي تعد من روائع القصص العربية التي انتهجت المذهب الطبيعي في الفن، نجد أن الجهل والتقاليد والعادات القديمة والعقلية الجامدة حول مفهوم الحب والشرف تدفع الأخوان إلى ذبح الأخت وشق بطنها للتأكد فيما إذا كانت حبلى أم لا. أما في قصة quot;فرارquot; (الجمرة، ص 115-122) فنجد أن طيش الزوج وتصرفه الشائن في السعي للزواج مرة ثانية لأجل المال يؤدي إلى هروب الزوجة لأنها لا تريد أن تصبح خادمة لضرتها الجديدة.

أما من ناحية الفن القصصي فأننا نجد أن المؤلف وفق في بعض قصصه على التركيز في حدث واحد وتطويره إلى لحظة التنوير ولم يتدخل في الأحداث بالتعليق والتفسير وتقديم النصح، واستعمل أسلوبا عربيا سلسا وان لم يتمكن المؤلف دائما في المحافظة على العناصر الفنية للقصة، وله العذر في ذلك بأنه كان رائداً وشاباً في السادسة عشر من عمره حين كتب قصصه الأولى. ومع ذلك فقد استطاع يعقوب بلبول في عام 1938 أن يقف في طليعة الكتاب الواقعيين في العراق وان ينال، رغم صغر سنه، إعجاب النقاد العرب والباحثين المستشرقين. أما أهمية قصصه اليوم فهي أهمية تاريخية تهم دارس الأدب العربي في العراق وفي البلاد العربية.

لذلك باركت خطوة يعقوب بلبول حين أقدم على نشر هذه المجموعة القصصية الرائدة مرة أخرى مصورة، وشكرت عائلته على اقتراحها نشر مختارات من قصصه وأشعاره مع ترجماتها إلى العبرية، ولاسيما وأننا نشهد اليوم اهتماما متزايدا بالأدب العربي الذي كتبه الأدباء اليهود في البلاد العربية من قبل المثقفين العراقيين داخل العراق وخارجه وبين الأوساط الحكومية والجمعيات اليهودية التي قام بتأسيسها يهود العراق في إسرائيل، مثل مركز تراث يهود العراق ورابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق وصندوق تشجيع الثقافة والتعليم من تأسيس يهود العراق في إسرائيل غيرها من الجمعيات والمؤسسات في إسرائيل.

وإني آمل أن تشجع هذه الطبعة الجديدة من مختارات قصصية من quot;الجمرة الأولىquot; والمختارات الشعرية من مجموعته quot;محنة العقلquot; الباحثين والمؤلفين على القيام بأبحاث جديدة وجدية عن الأدباء اليهود في البلاد العربية، وتقييم إنتاجهم من جديد كما فعل رؤبين سنير في كتابه باللغة العبرية quot;عروبة، يهودية، صهيونية، الصراع حول الهوية في أدب يهود العراقquot; (ראובן שניר, ערביות, יהדות, ציונות במאבק זהויות ביצירתם של יהודי עיראק, יורשלים, מכון בן-צבי, 2005) الذي اعتمد فيه على ما كتبته عنهم خلال الخمسين عاما الأخيرة، أصاب مرة وطاشت سهامه مرات.

كاتب المقالة رئيس رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق