من 8 يناير وحتى 11 فبراير 2007 ستقام في فندق شالة في طنجة ـ المغرب الندوة الدولية الثالثة quot;طنجة المشهديةquot; التي تنظمها مجموعة البحث في المسرح والدراما التابعة لكلية الاداب بجامعة عبد المالك الساعدي في المغرب وجامعة ابرسويت في المملكة المتحدة وجامعة معهد لندن بباريس. وسيتطرق في هذه الندوة باحثون من المغرب، اسبانيا، انجلترا، أمريكا، المانيا، سويسرا، تركيا والعراق ـ الدنمارك، الى اسئلة مهمة مثل
ـ كيف يمنح الطنجاوي (المبدع او غير المبدع) روحه للمكان؟
ـ في خضم اكراهات العولمة والتحولات العالمية الكبرى،هل حافظت طنجة على بريق حقبتها الدولية؟
ـ كيف تم تمثيل طنجة مشهديا؟
وسيتعرض فضاء طنجة المشهدي هذا الىquot; نقد مزدوج يعتمد على نقد لاهوت الكلمة الذي حنط مدينة باتساع العالم في كليشهات مكتوبة من جهة اولى، وكذلك نقد المقاربات الاثنولوجية التي تتعامل مع طنجة السفلى تعاملا خارجيا يلغي فضائها الكسموبولوتي من جهة ثانية quot;
وكذلك ستتأمل الندوة في اعادة قراءة تاثير فضاء طنجة في الابداع المغربي وابداع الفنانين والكتاب العالميين الذي عبرو طنجة من اجل اكتشافها في مجالات التشكيل والسينما والصورة الفوتغرافية والمسرح والنحت والتركيب الفني المسرحي.وسييشاهد الجمهور معرضا للصور الفوتغلرافية للسويدية أمسل،وتركيب مسرحي صوري لمسرحيين الكمان، وعرض مسرحي مغربي من تاليف الزبير بن بوشتي واخراج الجيلالي فرحاتي ن وكذلك افلام المانية عن طنجة وكاتبيها ( محمد شكري والطاهر بن جلون).
وعندما دعيت الى المساهمة في ندوةquot; طنجة المشهدية quot; اكتشفت ا ن الكتابة عن مثل هذا الموضوع يعني الكتابة عن منفى المكان واستحضار الماضي. لذا فان الكلمة هنا هي كلمة خاصة يجب ان تكون لها علاقة بالمستحيل كما السير حافيا على البرزخ البحري الذي يفصل بين البحر الابيض المتوسط والاطلسي في طنجة، ولكن في ساعات هدوء البحر وحنو الشمس على هذين البحرين يرى الانسان الحد الفاصل بينهما وكانه عصا موسى عندما فصلت البحر.
اذن منفى المكان والكتابة عن منفى طنجة سيمنحني الكتابة عن منفاي في الوطن الدامي او منفاي الاوربي. وبالتاكيد فان طنجة هنا هي استعارة ليس فقط للمكان والزمان وانما هي برزخ للابداع والمنفى، وهنا اصبحت مساهمتي في الندوة تحت عنوان:
(طنجــــة.... برزخ الابداع والمنفى) أي ان فضاء المدينة كاستعارة في الادب و المسرح والفن التشكيلي.
وتطلب الامر مني ملامسة الاشياء في الزمان الاني واشياء المكان الذي مر به الكثير من المبدعين، غضافة الى الاطلاع نوعما على تجربة بعض المبدعين المغاربة وخاصة في الفن التشكيلي، إضافة الى دراسة منجز محمد شكري الادبي باعتباره حارس البرزخ الطنجي والذي تاه في فضائها محاولا اعادة خلقه من جديد.
وقد كان مهما بالنسبة لي ايضا هو ملامسة الاماكن مثل المقاهي والحانات وتلك الدروب الضيقة في مدينة طنجة القديمة التي تشرد فيها شكري والتي مازالت المكان المفضل لسكن الكثير من الفنانين الاوربيين تمثلا للمكان ومباركة للشمس المغربية.
لذا فان السؤال الجوهري الذي انبثق ويحتم الاجابة عليه هو :
هل يمكن ان تكون المدينة هي المنفى وملكوت الابداع في آن واحد؟

فجميع الذين عبروا الى طنجة من المبدعين الاوربيين مثلا اما نتيجة للاحساس بالعدم او من اجل البحث عن سر منفاهم الذاتي، او لاغناء وتطور التجربة الابداعية. لانه ما من باحث عن الحياة عبر الى طنجه دون ان يشعر بانه في قلب العالم.
اذن ماهو السر الذي يدفعهم اما للرحيل منها، او العيش فيها الى الابد بعد ان تهدم فيهم الكبرياء القديم؟. وكيف إنعكس سر طنجة في ابداع فنانين مثل ديلاكروا و الكسندر ديما مرورا بول بولز، وحتى اؤلئك الذين مروا سريعا كسارتر وسيمون دي بوفوار وكذلك جان جينيه الذي لم افهم لماذا ( يدعوها بطنجة الخيانة )؟.
وقد تطلبت هذه الاسئلة تتبع الاماكن المهمة في مدينة طنجة القديمة صحبة المؤلف المسرحي الزبير بن بوشتي وكذلك د. خال الامين،( للغور في تلك الازقة التي تشبه الى حد كبير ازقة الحيدرخانة في بغداد )، واستلهام الفضاء الطنجاوي الذي مازال يتنفس بقايا فضاء وزمن طنجةعند ما كانت دولية،حيث كان ومازال معمارا مثيرا وفضاءا للابداع الذي حفز جميع هؤلاء الذين مروا هنا.

ومن اجل الاحساس بالجو والفضاء تطلب الامر التشبع ايضا في الاماكن والحانات والمقاهي التي مر بها سارتروسيمون دي بوفوار و جان جينيه وصموئيل بيكت وكذلك الهيبين شعراء الحياة الكسالى (الذين سكنوها في الستينات والسبعينات من القرن العشرين ) والكثير من الفنانين الذين تصفحوا فيها وجوه الطنجاوين وهم في غفوة الزمن.

هنري ماتيس
ودائما تبادر الى اذهاننا سؤال يشمل جميع المبدعين العالميين الذين جاؤا للبحث عن طنجة او الفنانين المغاربة والطنجاوين بالذات. والسؤال هو:
ما الذي يبحث عنه المبدع هنا في منفى المكان الطنجاوي؟
ويمكننا القول بان (أوجين دولاكروا بحث في المغرب عن المواقف، والوجوه، والأجسام المتحركة، فمغربه هي مغرب quot;خفيةquot; وquot;غريبةquot; وإلى حد ما quot;وحشيةquot;. بالطبع، فان مغرب دولاكروا لن تكون هي ذاتها مغرب ماتيس، لأن ماتيس لم يهتم إلا بضوء المغرب. فهو يعتبر بالنسبة له مصدرًا لا ينضب من الألوان المتوسطية، حيث يسود اللون الأزرق الدقيق والمتناهي والمتغير؛ إنه أزرق مثالي. وكان يريد من الالوان ان تتوهج وتغني.)

ومن جانب آخر فان ماتيس
(اكتشف في طنجة المغاربة كفضاء ابداعي جديد حيث رسم النساء بالحجاب والقفطان المغربي و نضجت الملامح laquo;العربية والبربرية في لوحاته واستمرت معه هذه الملامح حتى النهاية ) واستطاع ماتيس ان يؤثر على معاصرية من الفنانين كبيكاسو، بطريقته في استخدام الوجوه والزخارف المغاربية و الالوان الصارخة والمتوهجة.
أما بالنسبة الى الفنانين المغاربة والطنجاوين، فكيف انعكس فضاء طنجه في إبداعهم؟
ففنان مغربي مثل عبد الباسط بن دحمان الذي يعبر عن الفضاء الطنجاوي من خلال التعبير عن انفلات الزمن(حرية وانسياب الزمن) في لوحاته واستخدام تلك الالوان التي فيها الكثير من العنف، وكذلك وجود علاقة سرية بين الفيكورات حتى وان كانت تبدو حركتهم وملامحهم وايقاعهم فيها الكثير من الشفافية، اضافة الى محاولة الفنان نقل مكونات فضاء اللوحة خارج اطارها أي من المتناهي الى اللامتنهاهي. والفنان بن دحمان ينحت فيكوراته ووجوهه المغربية السمراء ذات العيون الهامسة التي تتعدى حاسة البصر الانساني الى نظرة ميدوزية.
وبالتاكيد فان التأويل الجمالي والفلسفي يكمن في المسافة السرية واللامرئية بين مصدر الاشعاع البصري والمشاهد. لان الفنان هنا يبحث في اكتشاف ذلك السؤال الذي تعنيه النظرة السرية الخفية المراوغة التي تشع من عيني ميدوزا المغربية لتخرج من الاطار الى الفضاء الآخرـ الخارجي.
والفنان الفقيه ركراكي الذي عكس فضاء طنجة بطريقة جد مختلفة، حيث يمكننا ان نشعر من خلال لوحاته بوجود نوع من نستولوجيا الأشياء وحضورها عندما يركز وجودها المكثف في اللوحة باستخدامه للاشياء كالملابس والابواب القديمة وغيرها.
وإذا كان تأويل اللوحة يعبر شعريا عن انفلات الزمن في فضاء طنجة، كذلك فان الشعر المستوحى والمعبر عن هذا الفضاء، لا بد ان يعبر عن تأويل الزمن التشكيلي. وهنا نلمس منفى اللوحة (في الشعر ) ومنفى الصورة الشعرية( في اللوحة )، ولا يكون لهما اي معنى الا عندما يعبران عن سر الفضاء وسرالبرزخ البحري ولا يمكن ان يوجد هذا الا في الفضاء الطنجاوي. واستطاع الشاعر احمد الطريبق احمد التعبير عن فضاءآتها شعرا يوحي بالكثير من التأويل :
خذ هذا الحرز، وعطره بماء الكحل،
يوم تكون على صهوة إبحار تجتاز المجهول،
رش به عين الإنسان، وإنسان العين؛
لطنجة ريح شتوي
لا يوقفه إلا الشعراء!

ومجال البحث المسرحي كيف انعكس فضاء طنجة؟
يمكن القول بان الباحث د.خالد الامين ستطاع ان يعبر عن هذا من خلال طرحه لما اسماه بالفضاء الثالث الذي ميز المسرح المغربي أي ما يطلق عليه ( بفضاء الهجنة )، ويعتبر هذا ضرورة اساسية لكل مسرح. ان احد السبل المهمة للوصول الى هذا هو التزام ( النقد المزدوج) أي نقد المفاهيم الارسطوية والغربية المهيمنة وفي ذات الوقت الاختلاف معها، وايضا نقد الهوية الذاتية، مادام النقد المزدوج يعني طريقة ( تفكيكية وحوارية )في الان ذاته (موجهة صوب كل خطاب يروم الهيمنة والسيطرة على غيرية آخره، ويتشبث بمبادئ الاصل، المركز المحوري، الحضورالمتعالي، والهوية الثابتة، سواء كان هذا الفكر غربيا او حتى عربيا).
ويعتبر محمد شكري في كتاباته حارس بوابات مدينته، وقد بحث طويلا عن سر طنجة وبحثت هي عن سر منفاه وقلقه الداخلي حتى منحته زعامة المهمشين فيها فكتب عن جميع مخلوقاته ومنحته شوارعها السفلى ولياليها وحاناتها وباراتها ومقاهيها جميع مخلوقاته المستكينة او العنيفة في صراعها فكتب عنها وهو في غفوة سكرى لقد كتب شكري سيرته الروائية في مدن طنجة وتطوان والعرائش وكانه شاهد على ماضي المدينة او كطفل عاش الماضي لكنه كتب عنه بوعي انسان الحاضر.
وقد ظل محمد شكري ككاتب يوقظ مهمشيه في لحضات ابداعه وهم في اغفائتهم الاخيرة ليعلن لهم كبريائهم حتى وان كان هامشيا، فهم لا يستيقظون وسط الكابوس كما هي شخصيات كافكا في روايته القضية او رواية امريكا او في جميع قصصه الكابوسية القصيرة. وكذلك ليس هنالك من تشابه بين شخصيات ضموئيل بيكت وشخصيات السيرة الروائية الذاتية لشكري، لانهم يستيقضوندائما ليعيشوا ماضيهم ضمن حاضرهم من جديد.

منفي المكان وانفلات الزمن
وفي طنجه التي لايمكن تصور محمد شكري من دونها وخلال الاربعة اشهرالتي قضيتها هنا، وبدلا من اكتشاف سر منفاي، اكتشفت منفي الزمان والمكان، فالمنافي تتشابه وكذلك فضاء المدن والوجوه وخاصة المقاهي والحانات تلك التي عاش و كتب فيها محمد شكري عن مخلوقاته المهمشة. ولكن الا تكون هي ذات المقاهي والحانات في مدينة مثل بغداد الستينات والسبعينات من القرن الماضي؟ والتي تشرد فيها الشاعر عبد الامير الحصيري بعد ان امتلك سر جمالها فمنحته سر الشعر بالرغم من انه كان يبيع قصائدة للشعراء الفاشلين مقابل ما يكفي عدة وجبات أكل وزجاجة خمر حتى فاحت رائحة جثته بعد ايام من موته في احد فنادق بغداد السفلى.
الا يكون سر الزمن المنفلت في مدينة مثل بغداد او طنجة او حتى مدينة طفولتي العمارة، هو ذات السر في مدن جنوب فرنسا تلك التي هام فيها فان كوخ متشردا لاكتشاف سر قلقه، فرسم وجوه الغرباء الذين يلجئون الى المقهي ليلا عندما يشعرون بالوحشة في مدينة غريبة. بالرغم من إحساس فان كوخ بالفوضى الكونية المنظمة أي الفوضى الحياتية، أي انفلات الزمن الذي شكل احد أزماته الرئسية والذي انعكس في جميع لوحاته وخاصة المقاهي التي رسمها.
في مدينة مثل آرلس 1888 ففي لوحته مقهى ليلي التي أنجزها عام معبرا فيها عن جو احدى المقاهي التي تعمل حتى الصباح و يلجأ لها الغرباء التائهون، أراد كوخ أن (يرمز الى ذلك المكان الذي يتحطم فيه الإنسان ويتمزق ويستحيل الى انسان تائه أحمق، ينتظر في العدم ).
اما في لوحة مقهى في الليل فتعتبر ( ترتيلة حب لسكان المدينة والعالم ) فاللون الاصفر يفرض وجوده وكثافته،، إلا اننا نشعر بالخواء الروحي ليس في داخل الإنسان فحسب بل أيضا ذلك الخواء الذي يخلقه المكان ومكوناته. اما البشر ( الفيكورات ) في اللوحة وبالرغم من حركتهم التي توحي بأنهم أحياء و يتكلمون همسا فيما بينهم، الا انهم يبدون وكأن هنالك سرا او فاجعة ستشيع في المكان لذا فمن السهولة ان نشعر بسكونهم ووحدتهم وعزلتهم.
اه لو عرف فان كوخ طنجه لعاش فيها ورسم مقاهيها كما رسم مقاهي مدينة ارلس ومن الممكن فان فضاء طنجة سينقذه من الانتحار وسيترك لنا تاويلا لونيا بصريا مغربيا جديدا عن انفلات الزمن في طنجة.
وطنجة هل يمكن ان تكون منفاي الجديد وملجأ ابحث عنه؟ فالانسان فيها يشعر بالانتماء الكوسموبولوتي الذي هو تعميق للانتماء الإنساني الأشمل.
اذن مالذي ابحث عنه في طنجة؟ وهل ساعود الى منفى آخر؟
ففي يوم ما عاد يوليسوس من رحلته، وعاد جلجامش الى اوروك، والسندباد البغدادي كان دائما يعود الى بغداده. وانا هل ساعود أم سيلاحقني صوت شاعرها :
تذكر..... البحر مرآتك والمدينة منفاك.... منفاك... تذكر.
[email protected]