هو ذا العمر ينفلت من بين أيدينا غير قادرين على الإمساك بمائه، يمر سريعاً ونحن بعيدون عن الأوطان التي أنجبتنا وألقت بنا في الطريق، نحصي سنواته ونحن نمسك بتلابيب الأيام لتبطئ قليلاً علنا نعود لحينا القديم وبيتنا القديم وحلمنا الذي لايزول. رغم كل الذي يجري في أوطاننا ما زلنا نظن أن الغربة والنزوح عنها أمر عصي علينا، وما زال الابتعاد عن الوطن فعل نقوم به بانتظار حياة مؤجلة سنمضيها يوما في الوطن حين نعود، في وقت قد يأتي وقد لا يأتي، ولكن ترى هل هذه أمنيات خاسرة أم كذب على الذات أم ماذا؟
العراقي الذي أمضى كل عصوره مغترباً بفكره وروحه، ظل متشبثاً بجسده بهذه الأرض، تملؤه الحيرة والشك منذ زمن بعيد منذ أن حار جلجامش وهو يبحث عن عشبة الخلود. لقد أنتج المبدع باغترابه عن وسطه كل هذا الكم الهائل من المذاهب والمدارس والأفكار في تنوع فريد، غير أن نتاجه هذا لم يكن مجانياً، فقد دفع من أجله أعمار أبنائه وضحى في سبيله بأرواح لا حصر لها من أجل المعرفة.
نعم ما زالت الغربة وهجرة الوطن تجربة جديدة وقاسية عليه، رغم أن ما ذاقه العراقي من عذاب لم يذقه أحد غيره بهذه الكثافة والحدة والتواتر، مع ذلك تراه يظل معلقاً بوطن افتراضي لم يعد له وجود حقيقي كمؤسسة تضم أفراداً متنوعي الثقافات كما كان يجمعهم سقف العراق الذي لم يعد يحمي أحداً.
لقد عاش العراقي ممتلئاً بإحساس خاص يستمده من وطن فيه من الثراء الروحي والمعرفي والفكري ما لم يتحقق لغيره، فهو ابن بغداد سرة الدنيا ومركز الحضارة والحكم، ومؤلة القاصدين لعدة قرون.سهيل نجم
والشعر الذي برع فيه العرب كثيراً وتميز به العراقيون، ظل يفيض بكثير من صور الغربة والحنين ، فيتحول المنفي الى طير هائم تلفه الحيرة والقلق الذي لا يدرك وجعها إلا من جربها، وفي فضاء الغربة حيث تظل روحه تواقة الى أرضه حين يصير الوصول إليها حلما بعيد المنال.
في قصيدة quot;طائر المنافيquot; للشاعر سهيل نجم يعبر عن هذه الهواجس فيقول:
quot;حائرٌ
كلما حطَّ بأرض
صاحت الريحُ أين ؟
لا الأوطان مرمية للرؤى
لا المنافي تسابيح
للبعيد ، مهب العواصف
يخبو ويستعر
مثل خنادق
لا يقهرها النسيان
أو مثل جنون كامن
في حجر رخو
غامض
يشدّ قبضته
على طيف المحبوبquot;
هي حيرة ممزوجة بالارتباك تنبثق من روح حائرة قلقة لا مستقر لها، ولا أمل يرتجى وسط أرق الانتظار الذي يبدد العمر فيحيله الى سراب لا طريق له:
quot;من أين يأتي المرتجى
في ظلال الكلام النافد
أم في حمرة الانتظار ؟
هو ذا العمر بساط يزوغ في تيه
ويطرق بوابات
موصدة بالفراغquot;
هذه الفجيعة بالحياة يمضيها المغترب كما لو انها جزء من الحياة، أو هي الحياة ذاتها، دون أن يتلذذ بحياته التي يدرك أن لا معنى لها وهو بعيد عن وطنه، فتجعل منه كائناً متعباً لايملك القدرة على مواجهة الواقع ولا يجد ما يستمد منه قوته بعد أن فقد مرتكزاته الحقيقية، وفقد قدرته على التمييز ، فهو ( خائر يتكئ على جنحٍ من رماد / عيناه غبار وذهول / يا عابرين إلى فردوسنا / دروبنا تقود إلى المنأى / تصرخُ مثل وعول البحر) أجل فالدروب لا تقود إلا الى البعاد، فيتحول المنفي الى كائن متأجج المشاعر، فـ( المنافي غضبٌ من شوق/ يطلقُ فينا / وحوش الجنازير / في كل جهاتنا / حتى صارت الألوان/ ملحاً.. ورياء... )
يحاول الشاعر سهيل نجم أن يستشرف الآتي فلا يجد غير وهم يستقر فيه وهو يحاول لملمة جراحه ، ( ها أنا أقف على شرفتي / أرنو لمنآي / في جزر الوهم/ وأستريح / ودون اختلاج أو خمول / سأرتق روحي / وأنفخُ في قلب المصير) يتلمس الشاعر طريقه دون كلل إنساناً يبحث عن حياة تليق به.
يتعذب الشاعر في حياته فهو يمضيها وهو يحمل مشعله الذي يقتبس ضوءه من روحه المتقدة، وسط خيبات يحاول الانفلات منها وليفسح للآخرين طريقاً مشعاً بالأمل.
التعليقات