نعيد ونكرر بأننا لن نسقط بفخ التنظير حول الشعر، ونقول الان أيضاً بأننا لن نبتكر شيئاً جديداً بمعنى الابتكار الخالص في مقالنا هذا مثلما لم ندع ذلك في كتاباتنا السابقة حينما تحدثنا وسنتحدث عن المجهول أو عن الحرارة الشعرية في النص الشعري. وذلك لأيماننا بأن معشر الشعراء لم يبتكروا شيئاً جديداً لعدة قرون مضت بمعنى الأبتكار الخالص. ولكننا نستطيع القول بأنهم أنتجوا أشياء جديدة بمعنى التجديد، وبمعنى أعادة قراءة الأشياء التي طرحت قبلهم بشكل ماهر وذكي.
فحينما تحدث ( رمبو ) مثلاً عن الرائي في الشعر في ( رسالة الرائي ) فأنه لم يبتكر مفهوم الرؤيا وكذلك لم يبتكر مصطلح الرؤيا أصلاً. وأنما أهمية طرحه كانت تكمن بأنه ركز على أهمية الرؤيا في الشعر في لحظته التأريخية. وكذلك الحال مع ( بودلير ) حينما تحدث عن قصيدة النثر، فأنه لم يكن أول الذين كتبوا عن قصيدة النثر ولم يكن أول الذين كتبوا قصائد نثر، وأنما أهميته في هذا المجال تكمن بأنه أول الذين ركزوا على أهمية أستخراج الشعر من سياق النثر. وأيضا كان الحال مع شاعرنا البارز ( السياب ) حينما كتب عن قصيدة التفعيلة أو حينما كتبها، فأنه لم يكن أول الذين كتبوا في هذا المجال، ولكن أهميته في الشعر العربي تكمن بأنه أول من رسخ تجربة قصيدة التفعيلة ببراعة لاتنسى. والأمثلة كثيرة وتطول حينما نتحدث عن مفهوم التجديد النابع من أعادة قراءة المنجز الشعري السابق، والتركيز على عنصر ما من عناصر بناء النص الشعري.
لذا فأننا حينما نتحدث عن المجهول مثلا بتركيز عالٍ أو عن البكاء الروحي الذي ينتج التوتر الشعري والأنفعال الشعري وبالتالي الحرارة الشعرية في النص الشعري، فأننا لن نبتكر شيئاً جديداً بمعنى الأبتكار الخالص، وأنما نحن نتحدث عن ذلك من حيث مانراه بأنه يجب التركيز عليه الآن بشكل أكبر من السابق.
أي أننا نفضل أعطاء عنصر الحرارة الشعرية أهتماما أكبر من السابق وأهتماماً أكبر من عنصر الصناعة الشعرية في خلق النص الشعري. فالشعر ليس صناعة أولاً كما كان يقال سابقا ومثلما يقال حتى الان. الشعر، نار وحرارة وتوهج روحي نابع من المجهول أولاً وهو صناعة لغة وصناعة قاموس لغوي شعري وصناعة صورة شعرية وصناعة فكرة شعرية ثانيا على شرط ( وهو شرط في غاية الأهمية برأينا ) أن يرافق هذه الصناعة حرارة ولوعة لذيذة وألم جميل وأحساس عميق بها. أي أننا نحاول الخروج على المفهوم السابق ( الذي قد يظن البعض اننا نكرره هنا ) القائل أن العملية الشعرية تبدأ بتدوين اللحظة الشعرية الأولى من دون وعي بعد هطول الوحي على الشاعر ومن ثم تنتهي بدور الوعي في صناعة وتشذيب جوهرة هذا الوحي الشعري عقلياً وحرفياً كما يتعامل النجار والحداد والطبيب وغيرهم من المهنيين مع موادهم في الصناعة والأنتاج. نحن نرفض هذا الأمر. وهو السائد في كتابة الشعر كما يبدو بشكل جلي الآن وفي القرن الماضي بشكل خاص. أي أننا هنا نرفض الرأي القائل بأن الشعر صناعة فقط، والرأي الاخر القائل بأن الشعر يتكون من لحظة لاواعية يجسدها نزول الوحي الشعري ولحظة واعية يجسدها الوعي الشعري للشاعر من دون أكتراث إنْ كان الشاعر في هذه المرحلة يقع تحت سلطة الوحي الشعري أم لا. فنحن نرى بأن النص الشعري منذ بداية تدوينه وحتى نهايته يجب أن يصاغ على نيران الأكتشاف والسؤال والمجهول والتأمل. أي أننا نؤمن بأن الحرارة الشعرية والصناعة الشعرية متلازمتان منذ بداية كتابة النص وحتى نهايته، وذلك لأيماننا بوحدة الشعر كأيمان الذين يؤمنون بوحدة الوجود. فالشعر وحدة واحدة تضم الحرارة والصناعة بنفس الوقت. ولكننا نركز على الحرارة الشعرية الآن لأننا نرى بأنها أهملت من قبل الكثير من الشعراء، ولاننا نرى بأن الحرارة الشعرية تنادينا من الأعماق لكي نهتم بها الآن أكثر من السابق. ولكن نرجو أن لايفسر تركيزنا على الحرارة الشعرية هنا هو أهمالنا للصناعة الشعرية. كلا بالطبع. لأن الصناعة الشعرية هي التي تظهر الحرارة الشعرية الى المتلقي، وهي التي تحافظ على جذوة الشعر وجوهره. ولكن لو فرض علينا ترتيب هذين العنصرين حسب الأهمية على سبيل المثال، فأننا سنعطي الأولوية للحرارة الشعرية، وذلك لأيماننا بأن هذه الحرارة هي جوهر الشعر المأخوذ من جوهر الوجود، وجوهر المجهول. فالشعر أما أن يكتب هكذا وأما على المتورط في كتابة الشعر ( وماأكثرهم في جميع انحاء العالم ) أن يغادر هذا الجنون وليبحث له عن مهنة أخرى تناسب كسله ومحدودية قابليته على أكتشاف حرارة ونار وموسيقى وألوان المجهول.
ومن جهة أخرى فنحن حينما نتحدث عن المجهول هنا فأننا نتحدث عنه من جانبين :
الأول : نتحدث عنه مثلما تحدث عنه السيرياليون في بياناتهم الشعرية، وبالأخص حينما تحدث عنه ( بروتون ) من حيث أنه ينبوع الشعر الحقيقي، وهذا أمر بديهي طبعاً ولم يبتكره السيرياليون بل ولم يكتشفوه أصلا. غير أن تميز نظرة السيرياليين في هذا المجال، هو أنهم كانوا ينظرون للمجهول نظرة مغايرة للنظرة الدينية التقليدية. أي أنهم كانوا يعتبرون المجهول مفارقاً للمجهول الميتافيزيقي.
فالأديان كانت تعطي للمجهول هوية دينية تقليدية، بينما السيرياليون أنتفضوا على هذه الهوية بأعتبارها نتاج عقل مريض وملوث بعاهات نفسية معقدة. وهذا مانتفق به معهم. ولكننا نبتعد عنهم ( وهو مايمثل الجانب الثاني من رؤيتنا للمجهول ) حينما نتحدث عن المجهول من زاوية أخرى. فنحن نحاول الحديث حول هوية المجهول وحول حرارة براكينه، وحول بث هذه الحرارة في جسد النص الشعري منذ بدايته وحتى نهايته. أي منذ بداية عملية تدوين النص وحتى نهايته وهي قد تكون على فترات متقطعة ومتباعدة. ونظن أن الفرق بين الحالتين كبير.
ونعتقد ان هوية المجهول التي نتحدث عنها تختلف عن هويته التي البستها اليه الاديان وتختلف عن هويته التي البسها اليه ( بودلير، رمبو، السيراليون ) على سبيل المثال. فنحن نرى أن المجهول كائن معلوم بالنسبة للشاعر وهويته في غاية الوضوح بالنسبة اليه، ولكن التعبير عن هذه الهوية مستحيل عبر لغتنا اليومية والثفافية المستخدمة بيننا، لانها برأينا ستسيئ له، على الرغم من ان هذه اللغة ستقربنا منه الى حد ما. فالمجهول لايُعبر عنه إلا من خلال أنعكاسه وتأثيره علينا، مثلما لايُعبر عن الحب عبر شكله أو لونه أو حجمه، وأنما يعبر عنه من خلال انعكاسه علينا وتأثيره فينا. لذا فنحن نظن ان عنصر الحرارة الشعرية هو الذي يمثل هوية المجهول اكثر من غيره، وليس لدينا اي معيار مهم لكشف هوية وصفات هذه الحرارة سوى التوتر الشعري والانفعال الشعري المستمد من توتر وانفعال وحرارة الوحي الشعري الذي يسرقنا في لحظة الانخطاف الشعري. وارجو ان لايفهم من كلامنا هذا بأن الوحي قادم من خارج الشاعر المجرد لايماننا بعدم وجود هذا المجرد على الاطلاق. كلا. انه نابع من اعماقه او من اعماق دماغه مثلا. ونتمنى ايضا ان لايُفهم كلامنا عن الروح، بأنها تلك الروح المعروفة حسب المفهوم الميتافيزيقي. فالروح، مادة غير مرئية وليست شيئاً آخر، ولكن أحساسنا بها وتأثير أنفعالاتها علينا هو معيارنا الذي يدلنا على وجودها.
أما أسباب ميولنا للحرارة الشعرية فأننا نستطيع أن نقول بأن هذه الاسباب نابعة من عامل ذاتي، داخلي قادم من أعماقنا السحيقة والمجهولة التي تملي علينا ماتراه من دون أرادة منا أحيانا عديدة في هذا المضمار. ولانعرف بصراحة التحدث عن دوافع هذا الشعور الروحي الدفين، لأنه نتاج اللاوعي وسيبقى هناك لسبب لاواعي كما يبدو. ولكن ربما ونقول ( ربما ) لأننا نميل الى الأحتمال في تفسير مثل هذه الأمور على اليقين. نقول ربما أن رغبتنا هذه أنشأت لأسباب موضوعية نعيشها ونتأملها بأستمرار. فربما أن حرارة الأحداث الجارية في العالم منذ مطلع القرن الواحد والعشرين وحتى الان، بدءاً من مأساوية أحداث سبتمبر ومروراً بحرارة وسخونة الأحداث في العراق وفي منطقة الشرق الأوسط وانتهاءاً بتفجر الأحداث البركانية هنا وهناك من أرجاء الارض هي السبب الذي دفعنا الى الأهتمام بالحرارة الشعرية وبالتوتر الشعري، أكثر من قبل.
وربما أن السبب أيضا لأننا نعيش في مطلع قرن جديد. وهذا الأمر يحتم علينا قراءة وأعادة صياغة ماأنجز من تراث شعري في القرن الماضي، من أجل التواصل والأستمرار معه من دون انقطاع، ومن أجل تطويره حسب مايمليه علينا ضميرنا الشعري وحسب ماتمليه علينا سياقات اللحظة التاريخية التي نعيشها الان. فلو مررنا بشكل خاطف على التراث الشعري المنجز في القرن الماضي فأننا سنراه أنشغل كثيراً بصناعة الشعر اكثر من أهتمامه بحرارته وتوتره، مثل الأنشغال حول تفجير اللغة وحول المعادل الموضوعي الذي عبر عنه ( اليوت ) وحول شكل وبناء النص الشعري وحول حشد أكبر عدد ممكن من المفردات في القاموس الشعري للشاعر وحول التلقي والتأويل وتفكيك النص وما الى ذلك من الأمور.
لذا نحن نرى بأنه ربما أن حضورنا في بداية القرن الواحد والعشرين فرض علينا أعادة قراءة كل هذه الأمور بشكل جديد وبالأخص ذلك الأمر المتعلق بالحرارة الشعرية. فالقرن الماضي، قرن التنظير حول الشعر بأمتياز. وقرن التجريب الذي أفقد الشعر الكثير من حرارته القديمة. وقرن الصناعة الشعرية أكثر مماهو قرن الحرارة الشعرية أو التوتر الشعري. وهو قرن العقل وليس قرن الروح. والدليل على ذلك هو كثرة حروبه وأزماته الكارثية التي أنتجها تصادم أفكار العقل وليس غير. فنحن نختلف مع الرأي القائل بأن الكوارث أساسها غياب العقل. لأننا نعتقد بأن أساس الكوارث هو غياب الروح وغياب قيمها الجمالية الأصيلة. وهذا أنعكس كثيراً كما نرى على المنجز الشعري العالمي السابق، بأستثناء بعض الظواهر الشعرية المهمة التي برزت في ذلك القرن طبعاً.
ونعود الى أحتمالات ميولنا الروحية نحو الحرارة الشعرية الان، ونضيف أحتمالية أخرى اليها ألا وهي أحتمالية توجه الأنسان الحالي ولهاثه الغريب صوب الماديات والمظاهر بالاضافة الى أحتمالية حرارة رغباته المتجهة صوب النزعة الأستهلاكية بشكل مقرف على حساب القيم الروحية الجمالية الأصيلة والتي جعلت منه كائنا متوترا ومنفعلا في حياته. فمن المحتمل أن يكون هذا الاحتمال أحد الاسباب الذي جعلنا نشعر بأهمية تجسيد حرارة هذا التوتر وذلك الأنفعال شعريا من جهة. وجعلنا من جهة اخرى نشعر بأهمية اللجوء الى الروح التي أبتعد عنها الانسان المعاصر بشكل عام، عسى أن تكون هذه الروح الملاذ الآمن الذي يعوضنا عن اغتراب الروح المتأتي من هيمنة الصناعة والتكنولوجيا ومن هيمنة الأخلاق الرأسمالية على العالم.
فنحن لدينا حنين كبير للروح. حنين لسؤالها الأول ولجمالها الفطري. حنين لحرارة أكتشافاتها وحرارة أنفعالها وتوترها. تلك الحرارة التي جسدها ( المتنبي ) في غالبية منجزه الشعري مثلاً. فعلى الرغم من أن أبا تمام مثلاً قد تميز عنه أكثر في عنصر البناء اللغوي الشعري، وعلى الرغم من أن أبا نؤاس كان أكثر جرأة وتجريباً في نصه الشعري منه. الا اننا نرى بأن ( المتنبي ) كان أكثرهم حرارة وأنفعالاً وتوتراً في نصه الشعري.
الأمثلة في هذا المجال تطول. فلو أخذنا نص ( الأرض اليباب ) مثلاً للشاعر ( اليوت ) فأننا نستطيع تحسس هذه الحرارة الشعرية في مقطعه الأول ( دفن الموتى ) مثلاً، ولكننا لانستطيع تحسس هذه الحرارة في مقطعه الآخر ( لعبة شطرنج ) على الرغم من براعة لغة وصنعة هذا المقطع. والسبب برأينا يكمن في ترهله وفي أنشغال ( اليوت ) بموضوعة الصناعة الشعرية على حساب بث الحرارة الشعرية فيه من دون أن يدري. والحال أيضاً ينطبق على ماأنجزه ( رمبو ). فديوانه الأول ( أشعار طالب ) يفتقد الى هذه الحرارة الشعرية وللتوتر الشعري المرغوب بأستثناء قصيدته ( الباحثتان عن القمل ) والى حد ما قصيدته الشهيرة ( المركب السكران )، بينما نحن نستطيع تحسس هذه الحرارة في نصه النثري الشعري ( فصل في الجحيم ) وفي مجموعته ( اشراقات ) التي قلبت الشعر الفرنسي من الفترة البرناسية الى الفترة الرمزية والسيريالية. وبرأينا أن أهمية ( رمبو ) الشعرية لم تأت لانه كتب قصائد نثر مميزة من حيث اللغة والصور السيريالية في مجموعته ( أشراقات ) فقط، وانما أيضا بسبب توتر منجزه الشعري وحرارته اللاسعة جدا. أما ( ريلكه ) فأننا نستطيع تحسس هذه الحرارة في غالبية منجزه الشعري العظيم من دون صعوبة، وذلك لان ( ريلكه ) من الشعراء القلائل على مر التاريخ الذين أمسكوا ضوء الغيب ومزقوا ستائر المجهول. والحال أيضا يتوضح لنا بالنسبة لبودلير في مجموعته الموزونة ( أزهار الشر ) التي حملت حرارة شعرية أكثر مماحملته قصائده النثرية، على الرغم من أنه يحسب رائد قصيدة النثر. ربما لأنشغاله في كيفية صناعة هذا الكائن الجديد المسمى ( قصيدة النثر ). أي ربما هذا الأنشغال أفقده بعضاً من التركيز على الحرارة الشعرية التي كان قد أظهرها في مجموعته ( أزهار الشر ). أما ( والت ويتمان ) فأننا نستطيع أن نرى بأنه عكس عصارة حرارته الشعرية في قصيدته ( أغنية لنفسي ) الموجودة في مجموعته الشهيرة ( أوراق العشب ) أكثر مما عصرها في قصائده الاخرى، ربما لأنها الأقرب الى نفسه وربما لأنها الأكثر تعبيراً عن أعماقه المجهولة. ولدينا مثالاً آخر في غاية الأهمية في هذا المجال، الا وهو الشاعر الكبير ( سان جون بيرس ) وخصوصا نصه الخالد ( أناباز ) الذي استطاع صياغته ببراعة وبحرارة قل مثيلها.
وعلى الرغم من محدودية قدرة ( ألآن جينسبرغ ) الشعرية وبساطة منجزه الذي لانميل اليه كثيراً، الا أن الحرارة الشعرية المتوفرة بشكل ملحوظ في نصيه ( اميركا ) و ( عواء ) هو السبب برأينا في لفت الأنظار اليه. ونحن نعتقد أن هذه الحرارة وهذا التوتر المميز مصدره تجربته الروحية التي أستلهمها من التجربة البوذية أو ما شابه ذلك مع مجموعته من الجيل الناشز في ستينيات القرن الماضي في اميركا. والمنهج البوذي كما نرى، من أهم المناهج التي توصل الشاعر الى المجهول، غير أن الفرق بين البوذي والشاعر هو أن الأول منشغل بقضية معرفه حقيقة المجهول وبموضوعة تعالي الروح، بينما الشاعر الحقيقي منشغل بقضية أكتشاف اسرار الوجود والحياة وبقضية تجسيد حرارتهما في نصه الشعري.
أما أذا أنتقلنا الى الواقع الشعري العربي فأننا نستطيع القول بأن عنصر الحرارة الشعرية توضح في تجارب عدة برزت هنا وهناك بشكل ملفت للنظر. وسنذكر بعضاً منها هنا على سبيل المثال لا الحصر.
فمن سوريا برز ( أدونيس ) ببراعة وبالأخص في مجموعته الرائعة ( أغاني مهيار الدمشقي ) التي تحتوي على توتر وحرارة شعرية هائلة. ومثله أيضا برزت تجربة الشاعر السوري ( سليم بركات ) وبالأخص في مجموعته المميزة (بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح ). ومن فلسطين برز لنا الشاعر المميز كثيرا في هذا المجال ( محمود درويش ) وبالأخص في نصه الطويل ( الجدارية ). ومن البحرين برز لنا الشاعر ( قاسم حداد ) الذي أظهر الحرارة الشعرية بشكل عالٍ بمنجزه الشعري الجميل وخصوصاً في نصه المميز ( البشارة ). ومن عُمان ظهرت لنا تجربة ( سيف الرحبي ) المميزة، ونستطيع أن نقول أن نصه الرائع ( هذيان الجبال والسحرة ) يمثل أفضل مثال للحرارة الشعرية المتجسدة في النص الشعري. ومن لبنان برز لنا صوت ( أنسي الحاج ) على الرغم من تحفظنا الكبير على تنظيراته المشوهة عن قصيدة النثر، إلا إننا نستطيع القول أن غالبية منجزه الشعري يتمتع بحرارة شعرية هائلة وبالأخص مجموعته الشعرية ( ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة ؟ ).
ومن المغرب العربي نستطيع أن نلاحظ تجربة ( محمد بنيس ) المميزة في هذا الاطار، ونستطيع أن نلاحظ أيضاً أن مجموعته الشعرية ( مواسم الشرق ) كانت تتمتع بهذه الصفة بشكلٍ واضح، بل أن نصه ( صحراء على حافة الضوء ) كان من أبرز نصوصه الشعرية المفعمة بالحرارة الشعرية المرجوة.
بينما لو نظرنا الى المنجز الشعري العراقي منذ بداياته وحتى الان، فأننا سنرى بأن المنجز الأهم ( للسياب ) كان يتمتع بتوتر وأنفعال شعريين عاليين جدا، وبالأخص مجموعته الخالدة ( أنشودة المطر ). وسنرى كذلك أن المنجز الجميل للشاعر (عبد الوهاب البياتي ) يتمتع بهذه الصفة أيضاً وخصوصا نصه المهم ( الموت والقنديل ) على سبيل المثال. وسنرى الشاعر المرهف ( سركون بولص ) متألقاً في شحن نصه الشعري بالصدق الشعري الذي يشير الى الحرارة الشعرية، ومثالاً على ذلك نصه الشفاف ( أنا الذي ! ).
والحال ينطبق أيضا على الشعراء المهمين الاخرين الذين برزوا بقوة في الفترة الستينية من القرن الماضي من أمثال ( فاضل العزاوي وعبد القادر الجنابي وحسب الشيخ جعفر ومؤيد الراوي ) على سبيل المثال.
ولكن الحال لاينطبق كثيرا على تجربة ( سعدي يوسف ) الشعرية، وذلك لأنها تجربة ( بأستثناء الأخضر بن يوسف ومشاغله ) تميزت بشكل عام ببرود شعري واضح على الرغم من أهمية هذه التجربة من حيث التجريب والجرأة.
ولو نظرنا بتمعن الى الأجيال الشعرية العراقية اللاحقة لجيل الرواد ولجيل الستينات فأننا نستطيع أن نرى وبشكل مميز تصاعد الحرارة الشعرية من مجموعة ( زاهر الجيزاني ) الشعرية ( الأب في مسائه الشخصي )، ومن التجربة الاخيرة المهمة للشاعر المميز ( نصيف الناصري ) وبالأخص مجموعته الشعرية ( فجر الزمان الممتد بين الوجود والماهية )، والى حد ما من تجارب ( خزعل الماجدي، رعد عبد القادر، محمد تركي النصار، باسم المرعبي، صلاح حسن، محمد مظلوم، كمال سبتي، أحمد عبد الحسين. باسم فرات ) وكذلك من المحاولات المحدودة للشاعرين ( عبد الامير جرص وسليمان جوني ) على سبيل المثال لا الحصر طبعا.
فكل هذه الأمثلة التي ذكرناها سواء كانت العالمية أو العربية أو العراقية، تمثل لنا مثالاً حياً لما نقصده بالحرارة الشعرية وبالتوتر الشعري وبالأنفعال الشعري الذي يصدر كما نرى من حرارة المجهول، ومن بكاء الروح الشبيه بالبكاء الروحي للأنسان البدائي الصادر بسبب تأمله الأول وسؤاله الأول وأكتشافه الأول. فالشعر، سرقة عظمى من المجهول. لذا على الشاعر أن يتعرف على هوية المجهول ولايجب أن يتعامل معه على أنه مصدر للوحي الشعري فقط. أي عليه أن يرى المجهول ويجلس معه ويحاوره لكي ينزف لنا نصاً شعرياً مميزاً وحرارة شعرية تشد المتلقي للنص بقوة. وهذه العلاقة مع المجهول ليست مستحيلة ولكنها في غاية الصعوبة وتتطلب معاناة وتأملاً أصيلاً ولهاثاً خلف الأسرار من دون انقطاع.
وهنا نتذكر حادثة في غاية الأهمية بخصوص العلاقة مع المجهول، كان قد مر بها ( الحلاج ) في لحظة صلبه، على الرغم من أن الحلاج أعطى للمجهول هوية صوفية دينية بفعل انتمائه للنسق الديني السائد حينذاك والمجهول بعيد عن العديد من صفاتها وليس كلها طبعا. ولكن الحلاج بكل الأحوال قد أقام علاقة جميلة مع المجهول. فقال في لحظة صلبه وهو متوجه البصر الى الإله ( المجهول عندنا ) :
ـ أرِهِمْ ماأرَيتَني.
وهو يقصد هنا بأنه يتمنى أن يُظهر المجهول هويته لجلاديه مثلما أظهرها لنفسه مرات عدة، عسى أن يستوعبوا ماطرحه من تصورات مهمة عنه. ولكن الحلاج قد نسى كما يبدو بأن المجهول لن يُظهر نفسه الا للمتأملين وللتواقين للأكتشاف وللمعرفة الوجودية بشكل صادق وحقيقي. ولن يظهر نفسه الا للشعراء الأصلاء الباحثين عن جوهر الشعر المخلوط بالحرارة الشعرية القديمة والدائمة.

[email protected]