هاني نسيره من القاهرة: لم أكترث بالقوالب قدر اهتمامي بالبوح عند الكتابةquot; هكذا أجاب تركي الدخيل بعد أن سئل من أي قالب يكتب، جاءت الإجابة مصرة على التحرر من القوالب في الكتابة وهيمنتها والطير في فضاء الحرية والاكتشاف. في كتابه الجديدquot; سعوديون في أمريكاquot; يلح تركي الدخيل في مقدمته على بوح الكتابة، والكتابة خارج القالب، وعلى أصل الشفاهة في اللغة.. هكذا كتب رحلته وهكذا استعاد على قارئه تجربته.. ولا شك أنه يعلم أنه ببوح الكتابة سيغضب بعض الأبويين الذين يرون بعين واحدة، والذين تولى نقدهم الأستاذ سلطان القحطاني في مقاله المنشور بإيلاف تحت عنوان (دفاعا عن quot;سعوديون في أمريكاquot;) فهؤلاء يخشون الصراحة والشفافية كما يخشون أن نرى أنفسنا أو الآخرين كما هي الحقيقة لا كما نتوهمها.

وببوح التجربة لا شك أن كتاب تركي الدخيل الأخير سيغضب الكثير من الأيدولوجييين القومييين والإسلاميين الذين لا يصح، حسب نصوصهم المقدسة، ذكر الولايات المتحدة بخير، فالأوصاف المحددة لها هي الإمبريالية والمهيمنة المتوحشة والقطب الواحد المستبد، وغير ذلك من أوصاف فلا تحوز حيث لم ترد في النص الأيدولوجي المكتوب وغير المكتوب.. بدءا من إهدائه يثير تركي الدخيل في كتابه الجديدquot; سعوديون في أمريكاquot; شهيتنا للتفكير، فقد أهداه بروح لطيفة ولغة متماوجه إلى كريستوفر كولمبس ذلك الرجل الذي لولاهquot; ماكانت أمريكاquot; .. أظن أن تركي أراد من هذا الإهداء الذي يتصدر كتابا معاصرا ، أن يضرب بنا في جذر البداية حين كانت أمريكا حلما وأورشليما منتظرة للمهاجر الأبيض فرارا من الاضطهاد الديني أو من الفقر وسلطة الإقطاع .. لعل تركي الدخيل أراد أن يردنا إلى الصورة الطبيعية الأولى لأمريكا الأولى بعيدا عن الصور النمطية لأمريكا المعاصرة .. التي كرستها مفاهيم طرحها مفكرون من قامة بن لادن في نظريته عن الفسطاطين، والخوميني في نظريته عن الشيطان الأكبر.. فهي أرض كانت كشفا جغرافيا صادفه ذات ليل رجل يدعى كريستوفر كولمبس فأدرك أنها الحلم والأمل فتلبب به.. بينما لم يدرك مغزاه ومستقبله من سبقوه سواء كانوا رحالة عربا أو هنودا أو غيرهم، فلكل منهم كانت له رحلته إليها، ولكن كولومبس وحده كان من اكتشفها، ورآها في زوايا مستقبل بعيد.

في حديث مع الصديق الدكتور عبد المنعم سعيد منذ شهور قريبة تحدثنا عن فاصلquot; شتيمة أمريكاquot; في الخطاب العربي المعاصر، فكثير من المفكرين والكتاب الذين كثيرا ما يتسمون بالعقلانية، يعودون كل فترة لإثبات نسبهم للجماهير العربية الغاضبة بفاصل شتيمة أمريكا.. أمريكا ينبغي أن تشتم فقط هكذا قال العقد غير المكتوب لتكون عربيا مخلصا ووطنيا في العالم العربي المعاصر... من هنا تأتي أهمية كتاب سعوديون في أمريكا، وتأتي أهمية البوح في الكتابة طيرا من غير قوالب.. حين تكون عيوننا كعيون كولمبس الذي أهداه الدخيل كتابه، مصرة على الاكتشاف ومصرة على المستقبل كما تصر على الحياة ولذتها.

هكذا يأتي كتاب quot;سعوديون في أمريكاquot; الصادر عن مكتبة العبيكان السعودية في يناير من هذا العام، مصرا على الاكتشاف منذ البداية ولكنه اكتشاف طبيعي ينظر في الفضاء الداخلي والخارجي بعيدا عن الأحكام المعلبة، هكذا اكتشف تركي الدخيل أمريكا والمجتمعات العربية والمسلمة فيها لأول مرة، وخرج بهذا الدرس المهم لكل من تحرى الحقيقة، عليه أن يتحرر من الأحكام المعلبة والجاهزة التي هي بضاعة رائجة في ثقافتنا العربية. يقول تركي الدخيل عن هذا الدرس الذي أكدته الرحلة quot; هنا درس جديد تعرفت عليه عمليا، فالأحكام المعلبة- دون تجربة- قاصرة بليدة بعيدة عن الحقيقةquot;.. إن الأحكام المعلبة الجاهزة قاصرة بليدة.. أو إذا شئنا الدقة عمياء لا ترى أو لا تكتشف!.

كتاب تركي الدخيل رغم تركيزه على أوضاع وتجارب السعوديين في الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، مشاهدات ومواقف عادية واستثنائية، شخصية وعامة، إلا أننا نرى أنه في سوقه لهذه المشاهدات في لغته المراوغة عبر بوح الكتابة إنما كان مصرا على نشر استنتاجاته الفكرية الخاصة، ودروسه المستخلصة من هذه التجربة، فهو أدمج بين بوح الكتابة وبوح التجربة، حتى لم نستطع الفصل بينهما، ولكنهما خرجا معا نسيجا طبيعيا يكشف عن طبيعتنا حين نرى الأشياء كما هي لا كما نريدها ونتصورها.

مداخل كثيرة حواها هذا الكتاب منها ما يتعلق بالهوية كرؤية التي لا تفارق أصحابها، فملامح مثل بقاء كثير من الشباب السعودي على عاداتهم وطريقة طعامهم في الغربة، وجمعهم بين شرائط سلمان العودة وأغاني محمد عبده، واتزان بعضهم وتخلخل البعض الآخر، كل هذه أشياء تتعلق بتحولات المسألة الثقافية والاجتماعية لدى الكثيرين حين يسافرون إلى الغرب وهذا الباب الكثير يأتي عند تركي في مدخل بوح الكتابة.

ويأتي بوح التجربة في كثير من المواضع التي يسرد لنا فيها تركي الدخيل الكثير من المواقف التي تفكك صورتنا الكريهة له، فهو بعد قدومه مدينته البعيدة التي استقر بها كان أول ما دلته عليه المشرفة على الطلبة المسجد، نعم المسجد بطريقة طيبة ودمثة، استنطقتها في ذاكرة تركي وضميره الدين، حيث كتب ذات مرة في الاتحاد أنه لا ينسى جدته لم تكن تقرأ شيئا سوى القرآن.

ومن المواقف التي يذكرها تركي لنا، وهي من بوح التجربة، ودروسها ما وجده عند صلاة الجمعة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر حين استجمع قواه وذهب للصلاة، فبينما كان الخطيب يلعن الولايات المتحدة وشعبها .. كان هناك المتطوعون من الشباب الأمريكي الذين جاءوا لحماية المصلين حتى يؤدوا صلاتهم، ويحكي بلغته اللماحة والظريفة دائما كيف أنه حمد الله أنه لم يستجب دعاء هذا الشيخ على الذين يحمونهم.

لا شك أن قراءة متمعنة لهذا الكتاب وإشاراته الفكرية والحية تجعله ينضم بامتياز لأدبيات الرحلة العربية الملهمة التي كانت مفيدة في تجربتنا الحداثية والتحديثية في نفس الوقت، ولكن تجربة تركي تتميز بأنها كشفت عن أعماق العادي.. من خلال بوح الكتابة عنه، وكذلك عن كثير من أعماق الآخر من خلال بوح التجربة معه.