أسامة العيسة من القدس: تقدم يوميات لجندي فلسطيني في الجيش العثماني، في أثناء الحرب العالمية الأولى، صورة غير معروفة عن مدينة القدس، في أثناء تلك الحرب، لم يتطرق لها المؤرخون، ولم تظهر بهذا الوضوح، لدى أصحاب اليوميات التي كتبوها أثناء تلك الحرب، التي أطلق عليها في البلاد الشامية اسم (السفر بلك).
وتحمل اليوميات التي ستصدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، عنوان (عام الجراد: مذكرات جندي مقدسي في الحرب العظمى)، خطها يوما بيوم الجندي المقدسي في الجيش العثماني إحسان الترجمان، الذي ولد ومات في البلدة القديمة من القدس. وقدم محرر الكتاب سليم تماري عرضا للكتاب في العدد الخامس (ربيع 2007)، من فصلية (حوليات القدس)، وهي مجلة دورية تعنى بشؤون تاريخ ومجتمع وثقافة المدينة المقدسة، يصدرها مركز الدراسات المقدسية.
ولد صاحب المذكرات إحسان الترجمان عام 1893م، بجوار الحرم القدسي الشريف، ونشا في بلدة القدس القديمة، درس في المدرسة الدستورية التي أسسها المربي والمفكر خليل السكاكيني، الذي بقي أستاذا وصديقا له حتى النهاية، ويقدر تماري انه ربما بتأثير السكاكيني الذي ترك يوميات ثرية، كان يقرا أجزاء منها على أصدقائه في حينه، عمد الترجمان، الجندي في الجيش العثماني، إلى تدوين يومياته.
انضم إحسان للجيش عام 1914، بعد إعلان النفير العام وعمره 21 عاما، وبعد أن خدم فترة في جبهة السويس، نقل إلى القدس، نتيجة التوسط له، وخدم في حاميتها العسكرية موظفا إداريا، يعود بعد انتهاء دوامه إلى منزله، فكان شاهدا على ما يجري في مقر القيادة، فدون ما رآه، وأيضا كان شاهدا على أوضاع المقدسيين، وتدهورها خلال الحرب.
ويتطرق صاحب المذكرات، لقصة حبه مع ابنة الجيران (ثريا) التي لم يكن يرى وجهها إلا وهي تدلف إلى البيت، ويصب جام غضبه على خصمه الذي تقدم لخطبتها، ويقدر تماري انه الكاتب عادل جبر، الذي يصفه الترجمان في المذكرات بأنه quot;جاسوسquot; لجمال باشا قائد الجيش الرابع العثماني.
ويتطرق الترجمان في مذكراته إلى المجاعة بسبب ظروف الحرب، ويصف تماري المذكرات بأنها quot;صرخة مدوية ضد أخلاقيات الحربquot;، ولم تتوقف معاناة الفلسطينيين على المجاعة، ففي صيف عام 1915 وصل الجراد إلى القدس، وتبعه انتشار الكوليرا والتيفوس.

دخول الجنرال اللنبي القدس
وانتشر المتسولون في المدينة المقدسة، والمومسات اللواتي في الشوارع، ومن بينهن أرامل الجنود الذين يتساقطون في حرب ليس لهم علاقة بها، ويبدي الترجمان شفقة عليهن، ولكن موقفه من المومسات لم يتوقف عند حد الشفقة، فهو تطرق إلى جانب آخر وهو الدعارة العلنية، أو الشرعية، وهو أمر قد يكون مفاجئا لمدينة مثل القدس، اكثر محافظة من مدن أخرى مثل دمشق وبيروت، حيث استحدث الجيش العثماني دورا مخصصة للبغايا في القدس لخدمة الضباط وفيما بعد توسع الأمر لخدمة المجندين، وبمناسبة اعتلاء السلطان محمد رشاد الخامس للعرش في 27 نيسان 1915، أمر جمال باشا بإحياء هذه المناسبة في حفلة ضخمة دعا إليها ضباط عثمانيين ونمساويين واعيان من القدس، وما أثار صاحب المذكرات دعوة 50 من المومسات، للترفيه عنهم، وأيضا تم دعوة زوجات الوجهاء، ويستهجن كاتب المذكرات هذا الخلط بين النوعين من السيدات، ومن الحدث كله، خصوصا وانه تزامن مع سقوط آلاف الجنود من الأتراك والعرب في (جناق قلعة).
ويهاجم الترجمان، في مذكراته كثيرا، جمال باشا، الذي اتخذ عشيقة يهودية له، ومن مذكرات الموسيقي الفلسطيني واصف جوهرية عن تلك الفترة، يتبين لنا أن اتخاذ كبار ضباط الجيش العثماني، وافندية القدس واعيانها لعشيقات كان أمرا شائعا، ومن بينهن عشيقات يهوديات، يوجد ما يشير أن بعضهن لم يكن فقط مجرد عشيقات، وانما على ارتباط بهيئات صهيونية، وهذا بحث أخر.
وسلوك جمال باشا، فيما يخص حفلات المومسات العلنية، يتناقض، ولو شكليا مع quot;تدينهquot; المعلن وسعيه إلى ترسيخ مفهوم الأمة الإسلامية، لكي يضمن ولاء أبناء القوميات المختلفة في الإمبراطورية التي تنهار.
لم تضطر القدس في تلك الفترة الحرجة إلى بيع جسدها فقط، ولكن أيضا كانت تفقد شبابها الذين يعلقون على أعواد المشانق التي تنصب على أبوابها، لشكوك بميولهم القومية العربية.
في كل هذه الظروف، كان الترجمان يراقب ويكتب بشكل سري، حتى وصلت مذكراته إلينا، بعد كل هذه السنوات بشكل يشبه المعجزة، رغم أن صاحبها دفع حياته ثمنا لتلك الظروف، ففي يومياته، يكتب الترجمان، عن غزل أحد الضباط الألبان به، والذي كان يرسل له رسائل مليئة بالعشق المثلي، وعندما وجد ممانعة من الترجمان، اخذ باضطهاده، وتنقطع اليوميات، فجأة، عند هذا الحد.
والسبب انه مع انتهاء الحرب، تنتهي حياة الترجمان، كيف حدث ذلك، هذا ما يمكن أن نجد له تفسيرا في رواية عائلته، التي يذكرها سليم تماري، وهي أن ضابطا عثمانيا اغتاله بإطلاق الرصاص عليه، قبل سقوط القدس بيد الإنجليز في 9 كانون الأول 1917.
مقتل إحسان الترجمان، لم يثير أحد من مؤرخي تلك الفترة على الأرجح، فهو مجرد مواطن عادي، ولكن الصدف تركت لنا، إشارة عابرة عن موته وردت في مذكرات معلمه خليل السكاكيني، ففي الكتاب الثاني من يومياته يذكر السكاكيني موته بحسرة، وكان في ذلك الوقت مسجونا يستعد العثمانيون لنقله مخفورا إلى دمشق.
في ذلك الوقت كانت القدس على وشك توديع أربعة قرون ثقيلة من عمرها، وتستعد بتفاؤل كبير لاستقبال وافد جديد، وعدها بالحرية والرخاء، فدخل الجنرال البريطاني اللنبي المدينة المقدسة من باب الخليل، والقى خطبته الفاتحين الجدد قائلا quot;الان انتهت الحروب الصليبيةquot;، واتضح بان الفلسطينيين كانوا يفكرون في الاستقلال، أو الانضمام إلى مصر أو سوريا، ضمن دولة وحدة تضم الجزيرة العربية والعراق، والمحتل الجديد يخطط لشيء أخر، ولم يعش إحسان الترجمان ليرى تطورات الأمور، ليتأكد انه لا شيء ابشع من الاحتلال.