في منتصف مارس آذار من العام الماضي، رحل الأديب مهدي عيسى الصقر عن عالمنا. ومهدي لمن لا يعرفه، هو قاص وروائي عراقي رائد. أخلص لكتابة القصة والرواية، وأخلص للصمت الطويل بينهما، باعتباره عملاً أدبياً موازياً، كما لم يخلص سوى آحاد من مبدعي العربية المعاصرين. الرجل النبيل المهذّب حتى حدود الحَرَج، والأكثر وداعة من نسمة العصاري، آثرَ الانطواء والابتعاد عن الضوء، مفضّلاً عزلته الرحبة بما ضاقت، وراضياً بأقلّ من قليل الحياة، مقابل أن تعطيه الحياة أعطياتها الأرقى والأبقى: الكلمات!
ذات يوم، وصلتني مجموعة مختارة من نماذج قصصه، وحين قرأتها، هالني مقدارُ الأسى وحجم ما يفعله في الذات الإنسانية المندغمة في شرطها البشري. رجل يكتب سرديات الحياة العراقية من حوله ، سياسةً واجتماعاً، ليجعلك تقرأ ما بين سطورها، وما تخفيه أعماقها، لا ما يطفو على السطح. بل إنّ ما يطفو على السطح، إنما هو بمثابة تعلّة، لقراءة واستبطان المخفيّ والمتواري هناك.
إنه تقريباً (وليسمح ليَ نقاد العراق بمخالفتهم) يكتب الواقع، ليُدخلك، بخفاء لذيذ، إلى ميتافيزيقا الواقع. وهذا النوع النادر من الكتابة: هذا النوع النادر من الأدباء، غالباً ما يكون أشبه الناس بكلماته.
ذلك كان انطباعي الأوليّ بعد فراغي من قراءة المختارات. لذلك، كنت آمل أن ألتقيه شخصياً، حين أسافر إلى بغداد. بيد أنّ الأمل لم يتحقق ولن يتحقق للأسف. فمهدي عيسى الصقر، رجل الخفاء بامتياز، استعصى عليّ وعلى سواي، فلم أظفر منه سوى بمكالمة تلفونية، أتاحها لي مشكوراً، صديق عمره ورائد آخر من جيله الأدبي، هو القاص محمود عبد الوهاب، صاحب العمل اليتيم الباذخ quot;رائحة الشتاءquot;.

كنا في غرفة هذا الإنسان الفارس، ذات ليل موغل، سعد الصالحي ونازك ضمرة وأنا، وأخذنا الحديثُ عن ظاهرة [المبدع ذي الكتاب الواحد]، وظاهرة التواضع الممزوج بالترّفع لدى الأدباء البصريين، فيما يخصّ الشهرة والتواجد تحت الأضواء.
وفجأة سألتُ عن مهدي عيسى الصقر، وأعربت عن شوقي للقائه، فاتصل محمود عبد الوهاب به تلفونياً، وهكذا كلّمته لبضع دقائق.
جاءني الصوت متمهّلاً خافتاً، أشبه بصوت شبح منه إلى صوت كاتب. مازحته وسألته لمَ خذلَ بطل قصته [هندال] الحلاق علي، فأنهى القصة دون أن يجعله يظفر بمبتغاه من زوجة السكّير؟ لقد اشتهاها وانتظرها طويلاً، هو المحروم من كل مباهج الدنيا، مثلما هي أيضاً. وكنتُ أتمنى عليك أن تكافئه لا أن ترسل له زوجها في نهاية القصة ! ضحك مهدي، وغمغم ببضع كلمات خجولة، لم أعد أتذكرها الآن، ثم انتهت المكالمة، لنعود فنتحدّث عنه وعن خصال ومزايا الكتاب البصريين، الذين ينتمي هو ومضيّفنا إليهم.
الآن أتذكّر صوت هذا المبدع، الآتي إليّ وكأنما من وراء حُجُب، وأعود إلى quot;أجراسquot;، وquot;صراخ النوارسquot;، وquot;الشاهدة والزنجيquot;- وهي كل ما لديّ من أعماله الأربعة عشر- فأقرأ في الأخيرة، مستمتعاً بالروائي الواقعي الاجتماعي، وقد حوّل quot;الواقعquot;، هذه الكلمة الثقيلة على أذواقنا وأسماعنا، بسبب إيحاءاتها السوفيتية، إلى شعر خالص!
إنّ مهدي عيسى الصقر، الأشبه بقديس في أزمنة الخراب والمأساة، لهو كاتب عراقي صميم، بأتمّ المعنى الجميل لهذا التوصيف. كاتب يقف في طليعة قافلة من الأدباء الفرسان، سلوكاً وقولاً وكتابة وإبداعاً، تكاد تتميّز بمزيج بصريّتها وكونيّتها المدهش ، كعلامة مائزة بين كل الأدباء العرب. قافلة تضم طالب عبد العزيز ومحمد خضيّر، محمود البريكان ومحمود عبد الوهاب، وصولاً إلى السياب [الذي كتب عنه الراحل رواية كاملة بعنوان quot;أشواق طائر الليquot;]، وسواهم من السابقين واللاحقين.
إنهم جميعاً بصراويون. جميعهم أظلّتهم سماء البصرة ونخيلها ورضعوا من شجنها التاريخي كمكان. وهم أيضاً، ربما على طريقة شيخهم الجاحظ، أصرّوا على الرهان على الكلمة، وأعطوها كل عمرهم ومعنى حياتهم، فكتبوا وأبدعوا، متوارين في الظلال الموحشة، وراضين بقسمة مَن تلحقهُ حرفةُ الأدب!
جيل عظيم من خلاّقي الفن الجميل، أقرب إلى النساك منهم إلى شيء آخر. ظلمتهم الحياةُ، فما استسلموا وما هانوا، بل تشبثوا بكرامتهم الشخصية والأدبية، لينجحوا في امتحان الأدب، ومن قبله ومن بعده في امتحان التاريخ.
لذا يستحق منا هذا الجيل الذهبي، أن نقرأه دائماً، وأن نتعلّم منه درساً هو الأثمن والأبقى : بقدر ما تعطي الأدبَ يعطيك!

هذا هو درسهم. هذا هو درس الأدباء البصريين.
وهذا هو درس الغائب الكبير أبو ألحان.
ليرحمه الله.