مما لا شك فيه، أن طنجة تبقى بالأساس، حالة أكثر منها مدينة، أفقا مفتوحا على الإنسانية ككل، أكثر منها مجالا جغرافيا محددا، و هذا الطابع الكوزمبوليتي الذي تتسم به طنجة، جعلها عبر التاريخ فضاء جذب بامتياز، و ملتقى لكل الأديان و الثقافات و الحضارات... الأمر الذي منحها خصيصة متفردة عن كل مدن العالم، و جعل منها نسيجا هجينا له قابلية امتصاص كل الفروقات، و إذابة كل الحدود المفترض وجودها بين ثقافة و أخرى، و بالتالي: خلق هوية خاصة للمدينة لا تكتمل خارج هذا الحراك الحضاري الفريد الذي يمور في داخلها.
و قد كانت طنجة ومنذ ولادة أسطورتها الأولى محط أطماع شتى، وذلك بحكم عبقرية (أو مأزق) موقعها، الذي جعل منها مرتعا لكل القوى الإستعمارية الكبرى عبر العصور، و خاصة في المرحلة المتعارف عليها في كتب التاريخ ب (طنجة الدولية) وهي المرحلة التي ينعتها البعض ب (الذهبية !!) و التي أكسبت المدينة صيتها و شهرتها عبر المعمور.
لكن، و بعد فترة طويلة من البيات و الركود الشبه التام، الذي عرفته المدينة بعد مرحلة الإستقلال، و الذي شل ديناميتها و أطفأ بريقها، عادت طنجة في الفترة الأخيرة و بشكل (مفاجئ)، كي تتصدر من جديد بؤرة الأحداث، و ذلك على جميع الأصعدة، خاصة الجانب الثقافي، الذي أضحى في زمن العولمة: الحوذي الذي يجر من خلفه عربة السياسة و الإقتصاد.
و بشكل يذكرنا بأجواء طنجة الدولية: طنجة التكتلات و الدسائس و التوازنات الهشة...، تشهد المدينة في هذه الفترة، حروبا ثقافية سرية و معلنة بين كل الفاعلين الثقافيين الأساسيين بالمدينة، و ركضا محموما من أجل إحكام السيطرة على المشهد الثقافي الطنجي، و محاولة كل طرف، منح طنجة طابعا ثقافيا تابعا، هذه الحدة التي تتجلى و بشكل واضح بين المعهد الثقافي الإسباني (سيرفانتيس) و المعهد الثقافي الفرنسي c.c.f

معهد سيرفاتيس و صولة الدون كيخوت الإسباني المتأخرة:
بجوار مقهى (باريس) الشهير و سور (المعكازين) و القنصلية الفرنسية، ترابط قاعة العروض التابعة للمركز الثقافي الإسباني (سرفانتيس) كل مساء، بأنوارها القمرية و خليجها الزجاجي، تستدرجك لرؤية ما بداخلها من لوحات تشكيلية معلقة بعناية، محفوفة بعشرات المطويات الورقية الصقيلة المكتوبة بلغة سيرفانتيس، أو الإنصات إلى مشهور أو مغمور على حد سواء، يطلق العنان لبنات أفكاره في رحاب اللغة الإسبانية، و إذا لم يقع هذا أو ذاك فإنك حتما ستضيف إلى ذاكرتك البصرية الأيقونة الكبيرة الحمراء المعربدة عند باب قاعة العروض، و سيتلألأ اسم عملاق الأدب الإسباني (سيرفانتيس ) طويلا في مخيلتك.
إنه تعبير واضح عن رغبة محمومة للإسبان للسيطرة على المشهد الثقافي في مدينة البحرين، فلا يكاد يمر يوم دون أن تسمع عن نشاط للمعهد الثقافي الإسباني، يقام في إحدى أفضيته المركزة في شارعي بلجيكا و إيبيريا: (مانهاتن طنجة)
مساء خميس 18 يناير 2006، انعقدت في القبو الداخلي للقنصلية الإسبانية ندوة صحفية للإعلان عن البرنامج الثقافي لمعهد سيرفانتيس، في البداية تحدث القنصل الإسباني عن رغبته في مد الجسور بين الثقافتين المغربية و الإسبانية دعما لحوار الحضارات، و عبر عن استماتة إسبانيا في إقناع دول الإتحاد الأوروبي و أمريكا اللاتينية بترشيح طنجة لتنظيم المعرض الكوني 2012، بعد ذلك تحدث مدير معهد سيرفانتيس بطنجة عن البرنامج الفصلي الذي لم يخرج قيد أنملة عن روح التبادل الثقافي بين الضفتين، من خلال إشراك الوجوه الفنية و الثقافية المغربية في برنامج الموسم الثقافي الحالي.
مجهود جبار يقوم به معهد سيرفانتيس وراءه دوافع خفية و مكشوفة لتكريس الفعل الثقافي في طنجة، حيث تتركز رساميل و صور مدينة البوغاز في وقت تضاءل فيه الهاجس الثقافي المغربي بشقيه: المركزي و المحلي، فباتت طنجة فريسة لرافعات البناء العملاقة و مجالا سائبا لهدم هويتها العمرانية.
حرض القنصل الإسباني في نهاية الندوة، السلطات المحلية، على دفع الرأسمال الخليجي المتغلغل حديثا في اقتصاد مدينة البوغاز، للمساهمة في تمويل الأنشطة الثقافية في المدينة، فمن الغباء / التواطؤ ترك الشركات الخليجية العملاقة (أخص بالذكر شركات البناء و التعمير) تكتسح المجال الطنجي دون حثها على صرف نسبة تافهة من أرباحها الفلكية على تمويل الأنشطة الثقافية.
ما يرصده المثقفون في حركية معهد سيرفانتيس هو ميل الإسبان إلى تجييش أكبر عدد من الكتاب و الشعراء و التشكيليين مهما علا أو هبط مؤشرهم في بورصة الفن و الثقافة بمدينة طنجة، هذه المقاربة الكمية تؤدي في الأغلب الأعم إلى سوء تمثيل للثقافة المغربية، تمثيل لا يخلوا من ولاءات خفية لبارونات المشهد الثقافي المغربي.
حتما هذا الإنزال الضخم و المفاجئ للصوت الإسباني في طنجة له ارتباطات بالتحولات السياسية (ليس مهما أن نذكر هنا أن العلاقات السياسية الإسبانية المغربية تمر الآن بشهر عسل ) و الطفرات الإقتصادية الكبرى التي تعرفها المدينة (مشروع ميناء طنجة المتوسطي و ما يرافقه من أوراش كبرى و تمركز هام لرساميل المال )، أي أن مدريد تضع اللغة الإسبانية مدخلا أساسيا لدعم الإستثمارات الإسبانية في مدينة البوغاز، من هنا على المثقف المغربي عموما و الطنجي خاصة أن يرفع صوته عاليا و يطالب بقسمة عادلة في المجال المتوسطي، و أن يتم تدبير التعدد الثقافي و اللغوي كأساس لتنمية شاملة لمدينة البوغاز.

المعهد الفرنسي و وهم النخبوية:
يحار المرء أمام الحظوة الكبيرة التي يتلقاها المركز الثقافي الفرنسي بمدينة طنجة من السلطات المحلية و الشركات المغربية العملاقة، في وقت يصر كل المديرين الذين تعاقبوا على إدارة C.C.F طنجة على الإنحياز التام للغة موليير، و من المفارقة أن يعقد كل سنة الصالون الثقافي الفرنسي و بنسب كبيرة من الدعم المغربي ، بعناوين إنشائية كبيرة، لكن في إطار لساني أوحد هو اللغة الفرنسية لأنشطة ثقافية عادة ما تتسم بالإستعراضية و غير خالية من الإسقاطات الإيديولوجية و الإعتبارات السياسية المباشرة و المبطنة.
يعيش المجال اللغوي في طنجة تجاذبات خفية بين الإسبان و الفرنسيين، الإسبان المآزرين بعامة السكان الذين لهم ارتباطات القرب و الجوار مع اللغة الإسبانية، الأمر الذي يجعل من أنشطة معهد سيرفانتيس تشهد قوة الحضور والمواكبة والتعبئة المكشوفة، في المقابل لم يتخل المركز الثقافي الفرنسي المدعوم بوجهاء السلطة عن مقاربته النوعية في التنشيط الثقافي، إذ يصر كل عام على استدعاء أسماء مكرسة ووازنة مثل محمد بنيس، محمد أركون، أدونيس، سمية نعمان جسوس، عبد الفيلالي الأنصاري، ليلى شهيد، عبد الفتاح كليطو، عبد الكبير الخطيبي، عبد الوهاب المؤدب... أسماء تحضر إلى الصالون الثقافي الفرنسي لتعبر عن رغباتها التنويرية الحداثية بلغة موليير.

أين نحن؟!
وسط هذا الحراك الثقافي الذي تضج به المدينة، يبقى سؤال (أين هو الصوت المغربي ؟) سؤالا مركزيا و ذلك على الأقل من أجل معرفة موطئ أقدامنا وسط هذه الصحراء من الرمال المتحركة، و كي لا يظل صوتنا دائما هو الغائب الأكبر، أو بالأحرى الخاسر الأبدي في لعبة بدون قاعدة، أو لعبة تعرف كيف تغير قواعدها باستمرار وفق المصلحة و التوازنات، خاصة و أن العالم الذي أصبح في زمن الكوكبة، يولي للثقافة المحلية ــ أكثر من أي وقت مضى ــ النصيب الأكبر من الرعاية و الإهتمام، كي لا يختلط الأصل بالصورة، و كي تظل الواجهة الأمامية للثقافة المحلية، واضحة و بارزة أمام هذا المد الخارجي المدعوم بترسانة ضخمة من الأموال و وسائط الميديا المختلفة.
و نحن بهذا المقال، لا نحاول الدفاع عن ثقافة على حساب أخرى، بقدر ما نعمل على رصد هذا الحراك الثقافي أو هذه الحرب الثقافية التي ينقلها الآخر إلى مدينة طنجة، بالقدر نفسه الذي نحاول فيه تشخيص الداء و إرسال دعوة مفتوحة لكل مثقفي المدينة، من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من ثقافتنا التي أصبحت في آخر المشهد الخلفي، باهتة و عاجزة عن اللحاق بهذا الركب المتسارع للأشياء من حولها، و كي لا نظل بيادق تائهة في لعبة شطرنج يقرر مصيرها الآخر، هذا الآخر الذي ــ و كما قلنا سلفا ــ لا تكتمل أبعاد صورة مدينة طنجة و هويتها إلا بحضوره !!