لم يسمح تجريد محمد مهر الدين الصلب لعناصر غير تصويرية ان تتطفل على لوحته حمى الفنان حدود لوحته جيدا وفضل السطح ممثلا للحرية. ( عبد الرحمن طهمازي )

ليس من الهين معاينة تجربة تشكيلية متميزة امتدت على مدى ما يقارب النصف قرن من الزمن، بكل ما تحمله هذه الفترة الزمنية العراقية من تقلبات دراماتيكية باتت معروفة للقاصي والداني. تلك هي تجربة الفنان (محمد مهر الدين). وان كانت هذه الحقبة الزمنية مشاكسة وعابثة بمصائر البشر، فهي ايضا عابثة بشروط انتاج ثقافة متوازية وقدرات الفئة المثقة الحقيقية التي تماهت وشروط النتاج الثقافي الأنساني الأوسع او الأعمق ادراكا. مع كل ذلك، لم يكن نتاج مهر الدين عبثا، او خارج الشروط التي وجد نفسه ملتزما بها. وهي شروط تلبسته قناعاتها منذ الزمن الدراماتيكي الأول لنهاية الخمسينات. لذلك لم يستطع وعلى امتداد زمن تجربته، من الأنفلات من ربقة هذه الشروط الأنسانوية. وبالوقت الذي لم تستطع تجربته تجاوز هذا الزخم الدراماتيكي على امتداد زمنها، فهي لم تعدم اثرا من هنا واثرا من هناك في كل الأحوال. لقد التهم الهم الثقافي الأنسانوي العديد من مميزات اخراج اعماله الأخرى، بقدر ما منحها مميزات استاتيكية ثابتة بعض الشئ. وكانت سببا في افتقادها لرابط العلاقة السرية بالبيئة، والتي هي من بعض اهم شروط اخراج العمل التشكيلي. والبيئة التي اعنيها، ليست التفاصيل العيانية البالغة الوضوح، وان كانت لا تبرح المخيلة، بل بما يوازي انطباع ملونتها الوجدانية، وهاجس الأمساك بما تيسر من عناصرها السرية التي تلبست ذواتنا. لذلك بقيت اعماله تحمل (بمعنى من المعاني) بصمة الخبر وليست الحادثة، كونها خبرية مثلما ارادها. بالوقت الذي ساعدت سيرته الحياتية ( التي لم تنفصل عن عمله الأبداعي) على تعميق ذلك المنحى الملتبس.
تجربة تشكيلية كهذه تتماهي ومدركات ثقافية بالأساس، من الطبيعي ان تبحث عن مصادرها الأدائية عبر سبل اداء هي ألأخرى ثقافية، او مثقفة. وبما ان التجربة التشكيلية العراقية حالها حال التجربة التشكيلية العربية حديثة النشأة نسبيا. فكان من الطبيعي ان تتطلع للمستجد من التجارب التشكيلية العالمية ذات الأمتدادات الحديثة الأوسع. لذلك كان التأثر بهذه المستجدات مشاعا بحدود اكتساب الخبرة وسبل ادائها وبما يوازي بحث الفنان ومستوياته الادراكية. وكان الأبرز من هذه المؤثرات هي عناصر الصنعة، وبالذات صنعة سطح العمل ( اللوحة بالذات). هذه الصنعة التي راجت في بعض من مصادرها الغربية في نهاية منتصف القرن الماضي. وتأكدت او انتشرت لبعض الدول الأخرى. كانت جاهزة في (بولونيا) في نفس الفترة التي درس مهر الدين الفن فيها. ويبدو ان هذا الدرس التشكيلي الأول استوطنه على امتداد زمن تجربته كلها. ولا يعني الأمر انتقاصا للتجربة. فالتشكيل الحديث لا يعيش خارج مناطق التأثر بشكل من الأشكال، وبالذات ان كانت مصدرا للتأسيس كما في التجارب التشكيلية العربية. وان كان التناص حصل على شرعيته مؤخرا. فلقد حصل في المجال التشكيلي منذ أزمنة اقدم.
اذا الأشتغال على سطح اللوحة ( وليس بمعنى الأشتغال على السطوح التشكيلية بمفرداتها المتنوعة) اصبح الهاجس الأكبر لأجيال التشكيل العراقية المتأخرة. ليس كما يبدو عن نزوة او غفلة من الزمن. بل تأسس ضمن هم احترافي ومن خلال ثقافة خلافية اشتغلت بدراية هي مزيج من انبهار بقدرات حرفية تعبيرية متلصص عليها من مناطق عالمية متنوعة. مثلما اصبح الأنبهار بمحمولات السطح مثار حوافز ابداع الفنان (محمد مهر الدين) على امتداد زمن تجربته التي قاربت النصف قرن. وهو زمن الحراك التشكيلي العراقي الأوسع. هذا الأنبهار الذي تحول الى ولع تغريبي يجوس مناطق العتمة بمشرط سكين نائيا ومنذ البداية التجريبية الأولى عن ملامسة نبض القلب الى ملامسة الحدث. ولم يسمح الفنان لملونته الا بما يوازي صلابة مواده المضافة. ولم يكن مهر الدين وحيدا في ذلك، لكنه يبقى الأبرز ولو في حدود عقد السبعينات.هذا العقد المفعم غرابة، بسبب من طروحات التشكيل العراقي الموصوفة بالبعد الواحد. والتي كانت تغازل بعدا ثقافيا وحيدا بنوايا تغريبية تتقاطع وازمنة التشكيل السابقة. تقاطع أسس لثقافة سطح العمل التشكيلي بمحمولات حروفية وخليط من تاثيرات شتى بقيت محافظة على مرجعياتها المحدودة وبحدود المعلن من نواياها الأثرية المحلية ( وليست المضمرة). في مسعى لأستحضار الأثر المحافظ على بعده الزمني. النأي الزمني هذا هو عصب غرابة التشكيل العراقي اللاحق ( بالذات اعمال هذا البعد الواحد). وفي زمن هو الأكثر ضغطا على المنافذ الثقافية المشرعة على رحبها. وان التقت اعمال مهر الدين التشكيلية في بعض من انجازاتها السطحية مع تشكيل البعد الواحد، الا انها وبسبب من بعض محمولاتها او دلالتها الرمزية حافضت على مسافة حيادية ابقتها بموازاة حافاتها او مداراتها الواضحة.
ان كان السطح يشكل اهم عناصر اعمال مهر الدين، فأن عنصر التصميم يبقى الأهم في مجال تشكيل مفردات هذا السطح. والتصميم في اهم مكوناته هو عقلانيا (رياضيا) ويخضع لحسابات وقياسات منطقية تتشكل خارج منطقة العاطفة او عصبها الحساس. وما اكسب مناورات التصميم في اعماله حساسية عالية هي قدرتها على التشكل وسط بيئة كرافيكية مصنعية اضافت للعمل بعدا اخر، حرره بعض الشئ من ثقله او سكونيته. المناورة الكرافيكية التي اتقنها الفنان اكسبت عمله قيمة فريدة وسط منجز التشكيل العراقي. لكنها بقيت مناورة ملتبسة، بسبب من الميزة الأدائية الكرافيكية التوريقية ( السطح الكرافيكي البلاستيكي)، لذلك بقيت اعماله عصية على مغادرة مستوياتها السطحية. هذا لا يعني ان اعماله السبعينية المثقلة بموادها المضافة (التي تقارب في بعضها منطقة النحت المسطح) بعيدة عن ذلك. فهي الأخرى كرافيكية بابعاد مضافة ليس الا. وبقيت الصنعة الكرافيكية ملازمة لنتاج هذا الفنان الى يومنا هذا.
اكتملت ادوات مهر الدين الأدائية منذ بداية السبعينات، ان لم تكن قبل ذلك بفترة قصيرة. لكن تبقى اعماله المنفذة في هذه الفترة الزمنية، بالنسبة له، في مصاف الذروة من اكتشافاته التي حددت مساره اللاحق. وهي في الأساس محصورة في اكتشافات طرق التنفيذ. والحرفية هذه القت بضلالها على التشكيل العراقي عموما، هاجسا ارأس، و وهما كان لا بد ان تكابده الأجيال اللاحقة. ليس الامر اعتباطا اذا ما عرفنا ولع شعوبنا العربية بالمنتج الحرفي، سواء الموروث او المستحضر بشروط وراثته. والذي يرجع في بعض من اسبابه لسطوة ارثنا التشكيلي الأسلامي، في غياب المؤثرات الحضارية الأخرى ولفترات طويلة.المهم، ان هذه الحرفة هي بالأساس شكلت فخره ودالته التي تماهت وشخصيته الأجتماعية في ان واحد. لقد كانت اعماله لهذه الفترة مثقلة بتراكم بنائاتها، سواء ان كانت شخوصا مؤسلبة مجزأة او مشطورة بحزوز عميقة ( اذا ما عرفنا انه كان يفضل رقائق الخشب المضغوطة في انجاز اعماله). او معلمة بعلامات خطية، وغير ذلك من التأثيرات او الأيحات الأسلوبية والتي غالبا ما تندرج ضمن مساحة مقننة وسط فضاء العمل. او تحتل معظم مساحته. فضاء هو الاخر منتهك بخشونة وقساوة معالجاته. وهي معالجات غير مألوفة، الا في حدود ضيقة، من قبل الوسط التشكيلي العراقي وقتها. مما تسبب في وضع منجز مهر الدين على المحك وبقية التجارب التشكيلية المتزامنة، كتجربة ( كاظم حيدر) و( اسماعيل فتاح الترك) مثلا. فبقدر ما كانت تجارب الأخيرين مثار جدل تشكيلي ثقافي وذوقي. كانت تجربة مهر الدين تقف بمعزل عنهما، بسبب من تمتعها بسكونية ملونتها الكابية معظم الأحيان. وبسبب من سطوة موادها البنائية. كذلك لمعالجاتها للقضايا الأنسانية الانية الحادة والتي تعمقت بما أثير حولها من جدل هو الاخر اخذ منحى ثقافي لا يخفي مصادره.
في فترة الثمانينات تقلصت مساحة تجريبيته البنائية لصالح عناصر الكرافيك. في محاولة لأستعادة مهارات الرسم في طبقته التأسيسة الأولية (ادوات الكرافيك المستوية). وبرز المصدر الفوتوغرافي كأهم مصدر لعمله والذي اطلق عليه ( الواقعية النقدية). لقد استعاد بواسطة الكرافيك الفوتوغرافي وبمهارت الرسم التقليدية ممارسة صناعة اللوحة او الرسوم الورقية. مع ذلك لم تكن هذه الأعمال بحدود مألوفها التقليدي. فكرافيك مهر الدين الخطي وبمصادره الفوتوغرافية خضع لمعالجات لونية محايدة ومختزلة، وعلى النقيض من الملونة الطبيعية الفيزيائية المتوهجة، بقيت ملونته محافظة على حياديتها التي تمتعت بها اعماله السابقة. وفي الوقت نفسه كثر الجدل حول مرجعية منطقة اعماله التي تراوحت بين تاثيرات اسلوبية الملصق او اللوحة المسندية. واعتقد ان الأمر يكمن اساسا في اعتماده لعنصر المونتاج التركيبي والذي من الممكن ان يدخل عنصرا اساسيا في انجاز كل من الملصق واللوحة المرسومة. ومع ذلك فان الحدود بدت معدومة في هذه الأعمال، فهو وعلى ما يبدو لم يحاول تجاوز مهاراته الكرافيكية الأولى، بل وظفها لما يخدم تصعيد الأثر الدلالي المباشر والذي كان للحراك الثقافي الأنساني الملتبس في العراق وقتذاك دور في تعميق هذا النهج الأسلوبي لدى الفنان. ولم يكن مهر الدين بعيدا عن المناورة في اخفاء دلالاته بسبب من هيمنة الصوت القامع الواحد، وبالذات على اشده في هذا العقد من السنين وما بعده.
وان كانت اعماله تندرج ضمن الملصق اللوحة، فلا يمكن اخفاء ما تصرح به نوايا الملصق ولو بحدوده الدنيا.
ان كانت اعمال مهر الدبن تدل على جذر ثقافي كما ارادها. الا ان هذا الجذر ينطوي على منحى سايكولوجي يبقيه في محيط الحدود التي رسمها منذ بدء اشتغالاته الفنية. فليس من اليسير انفصامه عن مجمل ادواته التعبيرية الأجرائية التي اصبحت جزا من نبض داخلي، وكنتيجة لقطيعة معرفية تبقيه على مبعدة من استحداثات الزمان التشكيلي ومرجعياته الثقافية والبيئية المتبدلة عبر النصف قرن الماضي. وان اعلن تحولاته من خلال تضمينات لبعض دواله التشكيلية المتأخرة الا انها لا تزال تبقيه ضمن حدود مساحتها المعرفية الأولى وبجذرها الذاتي المشاكس. وما تحويلاته الأسلوبيه المتاخرة الا نوع من اللعب على حصيلة خلفيته الأسلوبية ذاتها ومن خلال مناورتها بتفاصيل مختزلاتها او تحولاتها التجاورية. وفي كل هذه التجارب بقي السطح كما هو. وبقيت ادواته الأجرائية نفسها، وما تغير سوى الأشارة الدلالية التي تحولت الى العلامة. والعلامة التي اقترحها لا تزال تخضع وحسب ما يراه لولع مرجعياته الثقافية الأنسانوية. و(فخ العولمة) الذي اختاره منفذا او معبرا او فخا لأعماله المتاخرة. لا يدلنا على جذر العولمة الثقافي. بقدر ما يحمل مشاكساته الأعتراضية. وهي مشاكسات ترجعنا لنفس المشاكسلت الحداثوية والتي لم تصمد للتاريخ اللاحق الى بحدود ما تبقى من اثارها القابلة للاندماج وعصر تعداها. وان كانت العلامة الكرافيكية والخطية هي ادواته الأبرز ضمن مساحاته بالوانها الصناعية، وبتصميميتها الطباعية، فانها لاتزال تدل على ولع اللعب بهذه المفردات وضمن ما يقترحه هو من تفسير دلالي، لا يزال بعيدا عما تقترحه اعماله بالذات. فللعمل الفني لغته الخاصة التي هي جزء من ارث الفنان المنفلت غالبا على غفلة من توقعاته. ومسار اللغة التششكيلية لهذه الأعمال ( بالرغم من ارثها التشكيلي البحت) لا يخفي نسبها لمساحة التشكيل العراقية التجريدية الحروفية. بالرغم من ادعات ابرز عرابيها بانتماءات اعمالهم للبيئة والمحيط في محاولة لكسر مالوف دلالتها.
مشروع البييئة والمحيط، وكما هو معلن من الكتابات والبيانات التي رافقت عروضه اواسط التسعينات. لم يكن غريبا عن مألوف منجز التشكيليين العراقيين المساهمين السابق والذين هم خليط من حروفين حسب مقترحات (شاكر حسن ال سعيد) وتشكيليين تجريدين تفتقد اعمالهم للعلامة الحروفية. كان مشروع عرضهم لا يتجاوز المناورة على محمولات اعمالهم السابقة والتي لا تمتلك معظمها من البيئة العراقية الا بعض من مختزلات ملونتها. لقد كان المشروع بمجمله مناورة لتأكيد منهجية ثقافة سطح العمل ولتبقيه على مبعدة من اهم التفاصيل الحيوية للبيئة والمحيط المقترح كثيمة عمومية. وان كانت بعض من الملامح اللونية الجوية لأعمال هذه المجموعة تنتسب لمحيطها او بيئتها، فان ملونة مهر الدين تبقى بمنئى من ذلك وبسبب من ولعه الصنعي المختبري المفرط، وصناعته اللونية التي لاتغادر منطقة سطوحها الا عبورا لسطوح اعمال اخرى ولتبقى ملتصقة بحيز فضاء معملها ( محترف الفنان). واخيرا خفت حدة مشاكسات الفنان لتتيح له فسحة من مغامرة اللعب على محمولات خزينه التقني وبما تيسر له من مسرة هي جزء من نتاج صنعته. ويبقى هاجس المحمولات الثقافية بنوازع تشكيلية قابلا للمعاينة بما تسمح لنا ادوات الكشف المعرفي نفسها من التقاط اهم العناصر التشكيلية التي تفسح المجال لأدوات الأداء اكتشاف طرقها المتيسرة والتي تهيئ للعمل نظارته الجمالية ومساربه الذوقية التوصيلية وذاكرته المتعالقة وذواتنا كأاثر قابل للتذكر. التذكر هذا هو ما لا تستطيع اعمال مهر الدين القبض على سره الا في حدوده الدنيا ولسبب من سطوة الصنعة التي تبقي مصادره البيئة في نقطة الصفر ضمن مصادر معاينات الفنان. درس الصنعة هذا لا يزال مهيمنا على نتاج غالبية التشكيليين العراقين كأثر ملهم بحدود ايهامات تلبست قناعاتهم، وعلينا انتظار اجيال اخرى يكون في استطاعتها تجاوز حاجز مألوف هذه الصنعة، والعبور لمصادر ومنابع اكثر عمقا، وان تكن جاهزية هذه المكتشفات تبقى على مقربة منا، فما علينا الى معاينتها بمنطق الأنفتاح على مصادرنا البيئية المحلية والعالمية وبما تيسره لنا ادوات الأتصال الثقافية المباحة المتنوعة.


*- حيث درس الفن فيها في بداية الستينات.