عندما يقول شاعرٌ ما: quot;النقاد قتلة محترفون، حتى لو خلقوا نصوصاً نقدية مبدعة تقف على قدم المساواة أو تكاد مع النصوص الإبداعية، فمن الأفضل أن نتلقى الإبداع بطزاجته دون عيون ناقدة تحملق في قوانين العملية الإبداعية الخلاقة فتبصر نيابة عنا أحيانا وتعمى أحايين،quot; * عليَّ أن أتأمل ملياً، كقارئة أيضا ً ربما أبصر أحيانا وربما أعمى أحايين، ولكني لن أتوقف عند خط معين وأنا اقرأ لفارس خضر متأملة اسمه أولا الذي ينفع أن يكون اسما لأي إنسان بسيط أو أي شاعر عربي دون أن تنتبه إلى جنسيته، وما علاقة هذا بما سنتناوله؟
عندما شرعت بفكرة مشروع قرائي أقوم به حاليا وهو تناول الأصوات الشعرية من بقعة جغرافية معينة وكل على حدة، ونظرا لإطلاعي الواسع على المشهد المصري الحالي بدأت بالأصوات المصرية طبعاً. وكان الفضل لصديق مقرب في تنبيهي على هذا الأمر، وفيما بعد، وبعد قراءتي لفارس خضر، أدركت أن التبعية الجغرافية في الجانب الإبداعي إنما هي مسالة نسبية ولن تكون حتمية في يوم من الأيام وما رصدنا للمشهد المصري إلا تثبيتا لحالة مطلوبة.
فارس خضر، الذي لا اعرفه معرفة حقيقية، يمنحك جواز سفر مجاني ومتاح لان تتجول في حقول مختلفة ومنتقاة بعناية فائقة لان ترتب أفكارك من جديد ولاستقبال ما يأسنا من إيجاده في النصوص المتاحة لنا في المشهد الشعري عموما. لا خلاف على أن غياب الوعي أثناء كتابة الشعر هو من الضروريات بل من أهم ركائز الإقدام على الخطوة الأولى في كتابة أي نص إبداعي.. والمسالة التي يتشبث بها معظم الشعراء - الآنيين -وخاصة إذا واجهناهم بحقيقة استسهالهم للكتابة، يعتصمون بحجة أن الشعر سيفقد عفويته أو روحيته إذا دُرس النص من جوانب فكرية وبلاغية جديدة وعلى أساس أن البساطة هي المطلوبة لتصل إلى أوسع قاعدة قرائية. من ناحيتي أحترم هذا الرأي، ولكن لا أتردد في إبداء رأيي أيضا..
إذا ما جزمتُ الأمر مثل الرأي المختلف سأظلم الكثير من النصوص الموجودة في الساحة.. ولا اعرف كيف يصمت النقد عما يقوم به فارس خضر.. هل إن قدر فارس خضر تواجدهُ في وسط أدبي يختلف هو عنه ليُغيب بهذه الطريقة، هل ذنبه أن أدواته في كتابة الشعر تعدت حدود بنطال الجينز الذي تهرأ لكثرة تناوله وحمالات الصدر الأجنبية المنشأ التي تزاح بإصبع.. هل لأنه ينظر إلى الماديات بنفس القيمة التي ينظر فيها إلى الروحيات والأثيريات !!!.. بحثت جاهدة عن دراسات نقدية جادة تتناول تجربة الشاعر إلا أني لم أجد سوى بعض ما اسميه تنويهات ولا تتعدى التنويهات وربما ما سأقوم به أيضا لا يتعدى التنويه..ولكن هل هذا هو المطلوب.. مجرد تنويه ؟!.
في مختارات من ديوانه ( الذي مرَّ من هنا ) الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2002 يقدم لنا الشاعر نموذجا للنص الشعري الذي يعتمد الصورة الشعرية البارزة من خلال إناطة مهمة الدوال لغير مدلولاتها البديهية ليستخرج صورة سريالية قابلة للتأويل على أوجه عدة متخيلين تماما بأننا نرى لوحة ناطقة ولا نقرا شعرا :
إله الأسى :
quot; وجدوه مٌنتحراً في خرابه
المغفلٌ.
أدمى ظَهره بشوك خطايانا،
وبكى من أجلنا كثيراً ؛
حتى مسحت السماءُ بيدها خدَه.
لكنه
لم ينلْ غٌفرانناً أبداً quot;
( إله الأسى ) يجرنا الشاعر في استعارته هذه إلى خلفيته الثقافية والمعرفية والى تاريخه الفرعوني الذي ينتمي إليه، انه لا يلغي حضارته مثلما يفعل الكثير من الشعراء ، واستغرب لمبدعي مصر كيف لا يوظفون تاريخهم العظيم في نصوصهم الشعرية ويكتفون بتخليد فنجان القهوة والكاباتشينو والتنورات القصيرة. وهنا استحضر رأي الشاعر العراقي الرائع ( سركون بولص) في ما آلت إليه قصيدة النثر في الآونة الأخيرة :
** تبدو قصيدة النثر لهؤلاء الشعراء وكأنها بضع جمل عن مقهى وامرأة يحلم بها الشاعر وسيجارة و.. إلى أخره من هذه الكليشات السخيفة. يمكن لأي احد أن يكتب قصيدة في هذه الحالة، ولكن ما قيمة القصيدة؟ وما قيمة القصيدة إن لم تكن تجربة حقيقية، تجربة حربية مع اللغة العربية، مع خلق طريقة جديدة للقول، مع تركيب العبارة. الآن الشعر هو شعر الصحف والصحافة هي المسؤولة... والمسالة في النهاية هي البحث عن الصعوبة. كي يتميز الشاعر عليه أن يسعى نحو النص الصعب، النص المنفرد*.
إذا المشكلة هي في استسهال تناول المواضيع واللغة وهذا ما لا أراه في نصوص فارس خضر. ولنقرأ ( إله الأسى ) العنوان خاص ودال جدا _ بعد أن أقصيت العناوين الأولية _ بما يحويه من إشارة إلى واقع الشاعر نفسه وكيف أن الآلهة قابلة للقهر أيضا وسط الإجحاف الفكري والاقتصادي والاجتماعي الحاصل في مجتمعنا. الشاعر تناول مسألة ذاتية في صياغة كونية ولم يكتفِ بالإشارة الذاتية لنفسه وإنما استعار كائناً متخيلاً ليمثل قمة الكينونة في المجتمع البشري ألا وهو الإله. ولان فعل الإله يختلف عن البشر نرى إن إنجازاته الفعلية مغايرة تماما ولا نستطيع نسبها إلاّ للإله المتخيل. قبل انتحاره أدمى ظهره بشوك خطايانا. وكونهُ إله فهو من يتحمل خطايانا لما له الدور الأكبر في صياغتها.
ولماذا يبكي الإله _ من اجلنا _ من اجل من صاغهم في حلم ما ؟!، مِن اجلِ مَنْ تورط وأنشأهم نشأة أولى وفي انتظار انصهار النشأة الثانية لعهدٍ جديد، هل نحنُ فلتنا من زمام حلمه ؟ هل الطبيعة كانت احنُّ عليه مِنّا والسماء تمسح له خده.. وبعد كل ذلك لا يظفر بغفراننا !! ومن يغفر لمن ؟!
هذا التبادل الإيقاعي المتناسق في انتساب صفة الموصوف وتبادل الأمكنة الوظيفية في منح الغفران العائد للإله وبحكم تعديل في المواقع السلطوية التي قام بها الشاعر صارت من صفات العبد.
والسماء لها يد- المتألم على سيده الذي ظنه لحظة سيدا مطلقا- ولكن، حتى الإله له قيوده التي تقف أمامه ليتراجع أحيانا عما بدأه أو ما سيهمُّ في فعله.. إذا نحن وِضْعنا، من وجهة نظر الشاعر، في منطقة قوة مطلقة وتمرد حتى على الإله. وهنا إشارة خلافية حول موضوع خفي سنستدركه فيما بعد، هل الإنسان مخير أم مسير في اتخاذ مسار حياته الأولى والثانية. هذا الأمر غير واضح ولكن نعتبره كامناً لأننا نلمس إن الوضع مع الإنسان وصل زباه وهل هذا ما يريده الإله، وإلاّ لمَ ندم وبكى ؟! والجواب مفتوح.
يعود ثانية لاستعارة الطبيعة في ثوبها البشري والذي يصوغه بطريقة مختلفة تماما لا تشبه إلا طريقته هو من غير تقليد أو تأثر بصور سابقة :
مُتكاسلاً
يرفسُ بابي،
ثم يطعنُ النومَ في صدره.
كانت العزلةُ راعشةً في الركن
عندما سجنَ بفمي صرخةً دائمةً
تريد لو تخرج يوماً لتصفعَ الجدران.
.........
في يومٍ مخمور،
وقفَ الشاطئُ مُترنحاً :
خرقةُ
علقتْ بوجهه كجريمةٍ.
كان البحرُ قد كَرِهَ اللعبة تماماً
فأرسل روحَه في سفينةٍ
إلى الجحيم.
(يطعن النوم في صدره) تعامل جديد مع الغيبيات ومحاولة إعطاء بعد ثالث وتجسدات حقيقية لكائنات غير ملموسة وأحيانا غير محسوسة أيضا.. كيف نستطيع القبض على النوم وطعنه دون إيلاجه في تجسد مادي.. هل النوم هو، هل النوم حياته ؟
وهذه العزلة التي تقف راعشة في الركن.. ما بالها ؟ هل العزلة هو قرين الشاعر والمرادف لذاته ؟ أم إن كل هذا من تكوين الشاعر وما حوله ليستطيع قمع صرخة لا غاية له منها سوى صفع الجدران ونستطيع أن نقول إن الجدران تمثل التاريخ الجامد للشاعر، تدوين سخيف لا يجيد سوى الوقوف شاهقا كما الجدران. ونلحظ الصورة الأكثر بلاغة لعصيان الطبيعة وعدم الرضا عن توكيل مهامها الطبيعية في لحظة وركل كل ما ينسب لها من قوة وجبروت وسلطة.. الشاطئ ليس هو إلا روح الشاعر نفسه المترنحة ربما من الخمر وربما من أمر آخر ولكن لمَ لمْ يقل مثلا :
(في يوم مخمور
وقف الشاعر مترنحا )
أظن إن التفسير في غاية البساطة وهو أن دأب الشاعر منذ بداياته هو البحث عن النص الصعب والمغاير وهذا لا يمنع من ظهور الوعي أثناء إجتياب اللا وعي، أو كما يسميها البعض ( حضور الذهنية وغياب الذهنية ) فالصورة التي اختارها تعطي للقارئ أن يستدرك أوجه عدة من خلال الرموز المذكورة : الشاطئ / مخمور / مترنحا/ خرقة / البحر..
لأننا يجب أن نفكر مليا بان العلاقة في الطبيعة لا تختلف كثيرا عن علاقتنا نحن كبشر. للبحر علاقةٌ ودية مع الشاطئ بحكم القرابة وكأنه حُكِمَ عليهما أن يكونا مع بعض إلى الأبد، ولكن في لحظة ثورية يرفض البحر هذا الاقتران المتواصل.. ماذا يفعل : فأرسل روحَه في سفينةٍ. وهنا يبقى الرحيل متاحا للاثنين معاً: الشاطئ والبحر لان الجملة مفتوحة على التأويلين بدون تحديد. ولماذا السفينة وليست وسيلة أخرى ؟ طبعا عندما نهم بالمغادرة مجددا ورفض التكوينات التي حولنا نختار الوسيلة الأنسب لحملنا إلى بر الأمان، ومن يدرك غايات البحر والشاطئ أكثر من السفينة !
ولاحظوا أني أخاطب الموجودات بحكم العاقل مجاراة لمخاطبة الشاعر نفسه، وهل مصير الكائنات ( إلى الجحيم ) وباختيارهم، ثانية يعيدنا إلى مسالة فلسفية ووجودية خلافية .
هذه النصوص هي التي تتيح لنا القراءة الحقيقية وتكرار القراءة مرة ومرتين والعودة إليها بعد فترة طويلة لنجد تأويلات جديدة مختلفة تماما عن القراءة الأولى أو الثانية. إذن أين هو الخلل الذي جعل الشاعر ينعت النقاد بأنهم ( قتلة محترفون ) البعض يقول إن ما يكتبه أمثال هذا الشاعر لا يصل القلب والروح ولهذا ينفر منه القراء ولا يستطيع النقد أن يتعامل مع مثل هذه النصوص.. ولكن في الحقيقة هذا تفسير باطني لعجز القارئ الحالي عن امتلاكه أدوات القراءة الصحيحة من خلفية تاريخية وفكرٍ متحرك قابل للسفر مع الكلمة والروح الإنسانية العالية التي تجعل الفرد يتعامل مع الصور وكأنها كائنات خلاّقة من حوله وقارئنا الحالي عاجز عن ( الحركة... والحركة.. والحركة ) في البحث والسؤال، و لا ننسى كذلك وهميَّة وجود ناقد أصلا يمتلك القدرة على التعامل مع هذه النصوص. فإلى متى سيصمت النقد وفارس خضر يرتكب كل هذه الجمال في زمن اللا جمال :
كانت الأرضُ مشروخةً بحزنها
تعبر فوق الجسر هاربةً
وكانت الرحمةٌ تغرفُ الصباحَ
في حذائها
وتقفز منفوشةَ الشعر
تحت السماء.
............
راحلون لتوَّهم
يجدفون فوق أنفاسي
ويسحبون بحبالهم
آخر المحبة...
..........
حضن شائك
أتحدثُ عن الغربةِ وأنفاسُنا تتعانقُ،
لا تزال رموشي مروية بعناية
ويدي تسندُ جبهتي،
لكنني كل فترةٍ
أبصقُ ضحكاتي
في سلةِ المهملات،
ثم أكنسُ من ذاكرتي
قتلى مغدورين،
بظهورهم
كانت الحياةُ مرشوقةً
كسكينٍ أخرس.
* عن حوار للشاعر فارس خضر في صحيفة السفير
* عن حوار للشاعر سركون بولس أجرتها معه الصحافية سلوى النعيمي / بريد الجنوب م 1996
[email protected]
www.manal1112006.jeeran.com
التعليقات