حدود المعرفة

يرفض رورتي في كتابه الشهير: الفلسفة ومرآة الطبيعة 1979 كل المشروع الإبستيمولوجي ويقترح وجهة نظر حول الفلسفة تبدو وفي الآن نفسه مختلفة جذريا عن الوجهات الأخرى وأكثر وقاحة وتشاؤم الأمر الذي يجعلها تعصف ببحوث فتقنشتاين وريل وأوستن والتي تبدو أكثر حماسة وتفاؤل. ونظرة رورتي هذه ترجع بالأساس إلى تأثره بكواين واقتحامه للمجالات التي اهتم بها هذا الأخير. إن النقد الذي وجهه رورتي لكل الفلسفة منذ الإغريق ليس له قيمة داخلية فحسب بل يكشف أيضا عن أسئلة عميقة حول المشروع الذي يمثله العلم المعرفي cognitive الإدراكي. ف الفلاسفة بالنسبة إليه تصوروا علمهم على أنه مواجهة مع مسائل وصعوبات أبدية تطرح دائما ويعاد التفكير فيها من جديد،ومن بين هذه المعضلات نجد: كيف يتوصل شخص ما إلى معرفة شيء معين؟ وما هي حدود هذه المعرفة؟ عندما نتعمق في هذه المسائل الأساسية فإننا نكتشف أمر ما بالنسبة إلى الفكر ويعتبر رورتي هذه العادة في التحليل وهذا الإقرار ببعض الصور التي تسمح بالتفكير في الفكر على أنها محاولة فاشلة ولهذا السبب فإنه يذهب بعيدا ويغير من المسلك. إن هذا المجموع من الاعتقادات هو النقطة الحاسمة لتاريخ طويل من الفكر الموجّه بطريقة حقوقية صارمة نحو نشاطات معينة لذلك ينبغي أن يقع امتحان هذه النشاطات بشكل صحيح ولا يكون التخلص من هذه الأوهام ممكنا إلا بالكشف عن تاريخ تكوينها.
على هذا النحو يبدو القسم الأهم من عمل رورتي متمحورا حول إعادة البناء أو تفكيك الفكر الفلسفي الغربي وذلك من أجل إظهار مختلف المشاكل المضللة التي اتبعها. يمكن تلخيص المشكل الجوهر المثار من طرف رورتي كما يلي: إن الاعتقادات عند الإغريق وقع تحديدها وجه لوجه مع موضوع الاعتقاد،فعبد مينون عند أفلاطون يكتشف حقائق الهندسة من خلال دراسته للمثلث. أما المعرفة فهي الحصول على تمثلات مطابقة للصور المثالية التي لا يستطيع الفكر البشري ملاحظتها مباشرة. في المرحلة اللاحقة مع ديكارت ارتبطت المعرفة بملكة الإدراك بما هي مرآة الطبيعة والتي تضم مجموعة من التمثلات المطابقة. هذه التمثلات موجودة في الفكر من خلال عين داخلية تحرسها على أمل أن تعثر على علامة تبين لها وفاءه. هذه الصورة حافظ عليها التجريبيون رغم تباينهم مع ديكارت فهم نظروا إلى الفكر على أنه حيز مستقل قادر على امتحان الأفكار. لوك مثلا وقع في خلط خطير عندما لم يتمكن من التمييز بين سؤالين كلاسيكيين : الأول بسيكولوجي : كيف تأتي المعلومة إلى الوعي؟ والثاني فلسفي: لماذا نعتقد أننا نعتقد؟ على خلاف سابقيه فهم كانط استحالة الوصول مباشرة إلى الأشياء ورأى أنه يمكننا أن نعرف قضايا معينة حول الأشياء وليس الأشياء في حد ذاتها. لكن كانط وهو يحاول جاهدا العثور على تمثلات أكثر مطابقة يطرح مجموعة نموذجية من التمثلات لا يمكننا أن نشك فيها وقد انتهى إلى اعتبارها أساس كل معرفة موضوعية.وقد أعطى كانط حسب رورتي في النهاية للفلاسفة المنزلة المفضلة التي تخول لهم الحق في بلورة تصورات حول العالم ومراقبة كل ما يجري فيه من أحداث وتغيرات وكذلك كل ما يكتب من أفكار ومباحث وقد حاول الفلاسفة منذ كانط أن يحافظوا بكل الوسائل الممكنة على هذه المنزلة المتميزة،غير أن هذه الصورة قد تعرضت فيما بعد إلى التهشيم وأصبح الفلاسفة محل تهكم متواصل من طرف المفكرين الذين أجمعوا على نقد الابستيمولوجيا التقليدية،فقد شكك المنطقي فتقنشتاين مثلا في مشروعية المشاكل الفلسفية الكلاسيكية وأرجعها في معظمها إلى مشاكل لغوية أسيء التعبير عنها ورأى أن:quot;ما لا يمكننا قوله ينبغي إسكاتهquot;.كما أكد ديوي على الاستعمال النفعي للمعارف عوض توهم الوصول إلى المعرفة المطلقة.في حين حطم هيدجر مختلف الصور والمجازات التي شكلها الفلاسفة منذ الإغريق والتي تحولت إلى طبقات من التراث حجبت عن الفكر ماهو أصيل ووافر المعنى.
أما مشروع رسل ووايتهايد وحلقة فيانا الرامي إلى إدراك معرفة صحيحة من خلال بناء منطقي يقع بلورته بالاعتماد على معطيات حسية فقد انتهى بدوره إلى إخفاق ذريع وذلك نتيجة سذاجة الأسس الابستيمولوجية التي يستند إليها.من هذا المنطلق يستخلص رورتي النتيجة التالية: ليس ثمة وسيلة للتثبت من صلاحية اعتقاداتنا سوى امتحان العلاقة القائمة بين الأفكار والأشياء التي تمثلها.وهذا التثبت من صلاحية الاعتقادات ليس عملا فرديا بل صيرورة اجتماعية وهو مجهود تتعاون عليه عدة عقول من جميع الاختصاصات تؤسس محادثة شاملة تحاول فيه أن تقنع الآخرين فيما تعتقده. هكذا يرى رورتي أننا نفهم طبيعة معرفتنا إذا فهمنا أن المعرفة تساوي التثبت من الاعتقاد وليس مدى مطابقة التمثل للواقع بشكل تام ودقيق.
وفي هذا السياق يصرح: quot;إذا وقع التأكد من صحة الإثباتات عن طريق المجتمع وليس من خلال خاصية التمثل الداخلي الذي تعبر عنه فإن هذا التأكد لا يصلح لكي نعزل بعض التمثلات المفضلة quot;

[1]
إن مأزق الفكر يتمثل في كونه لم يوضح بشكل كاف الافتراضات المسبقة التي تقف وراء أشكال البرهنة التي يستعملها في الرد على براهين الآخرين. فالابستيمولوجيا عند كواين يمكن أن تستمر في أداء مهامها شرط أن تقتصر على الجانب البسيكولوجي حيث يضع الدارس الموضوع الذي يعرفه موضع بحث،لكن عند رورتي لا يستطيع علم النفس أن ينجح في الموضع الذي فشلت فيه الابستيمولوجيا. ولهذا السبب يحاول رورتي إنقاذه من الاتهامات المثالية المتأتية من ادعاءات البعض إمكانية تقديم أجوبة نهائية لأسئلة فلسفية أظهر التاريخ للعيان عقمها وإفلاسها.
لا يتحفظ رورتي من نقد الأفكار في ذاتها بل ينعتها بأنها أفكار الأفكار les ideacute;es des ideacute;es
ويرى أنها من بناء عقول العلماء ولا ترتبط بأي اعتبارات سوى بالخلايا العصبية للمخ neurones.
وعيب فكرة الفكرة هو ادعاءها الكاذب بوجود سلطة ابستيمولوجية أي الزعم بأن عيون الفكر تحوز على معرفة مباشرة بكيانات محددة مثل الدلالات وكل ما تمنحه المعاني.
يعترض رورتي على انتقادات فتقنشتاين وتلميذه نورمان مالكوم ويعتبرها قاسية جدا تجاه علم النفس ولكنه لا يتبنى رأي بتير دودال الذي يزعم أن علماء النفس هم الأكثر قدرة على تحديد نوعية الأسئلة التي يجب دراستها بطرق ملائمة وبالاعتماد على مفاهيم ذات فائدة. إن علماء النفس حسب رورتي تنحصر مهمتهم في معالجة هذه الأسئلة: كيف يكون التجريد والتعرف والاستمرار من الأمور الممكنة؟ أين تبدأ معالجة المعلومة في الجهاز العصبي؟
يتخيل رورتي كائنات جديدة تظهر في مجتمع ما ولا تتحدث عن أفكار ولا عن أحاسيس ولا عن اعتقادات بل توجد عندها اثارات stimulations فقط ناتجة عن نشاط مجموعة من الألياف العصبية. هذه الكائنات لا تستطيع أن تفهم لماذا نحن سكان الأرض الآدميين نحافظ على ذهنيتنا الخاصة أما هم فيسمحون للتجربة العلمية أن تتصرف ببعض الأقسام من المخ البشري. من هنا يحاول رورتي أن يعمق هذه الأطروحة المادية بأن يدمج علم الأعصاب neurologie في التجربة البسيكولوجية،إذ يقول في هذا الشأن:quot;إن علماء النفس ينبغي أن يصيروا أكثر أو أقل من ميكانيكيين،لابد أن يولوا وجوههم شطر الفيزيولوجي العصبي من خلال الذهنيquot; [2].
يناقش رورتي الانعكاسات الخطيرة التي يحدثها هؤلاء في الفلسفة مبينا أن اختفاء علم النفس من حيث هو علم مميز عن علم الأعصاب وعن تطورات علمية مشابهة يمكن في النهاية أن يحررنا من صورة مرآة الطبيعة مع نجاعة في التفسير أكثر بكثير من تلك التي توفرها نظريات الهوية. ولذلك يمسك رورتي نفسه عن اقتراح أي أحكام قيمة وعن تقديم أي حجج متينة ضد علم النفس ولكنه يرى إمكانية قدوم يوم يختفي فيه هذا العلم أو يصبح فيه الإنسان غير محتاج إليه. على هذا النحو يبدو علم الفيزيولوجيا العصبية neurophysiologie الأكثر صرامة ودقة مما يؤهله لأخذ مكان علم النفس إلى جانب تعاونه مع علم الإدراك أو التعرف cognition الذي يتكون من مناهج واختصاصات متعددة interdisciplinaire.
إن الصيرورة الخاصة بالفكر الغربي هي مسألة تاريخ وليست مسألة ضرورة.فتاريخ هذا العلم أو ذاك يخضع إلى الكثير من التغيرات والقطائع والانكسارات فمثلا الفكر الغربي لم يتشكل أبدا لو لم يؤسس الإغريق المعرفة على الرؤية ولو لم يبدع ديكارت الذهن بتنزيل الأحاسيس والاعتقادات في نفس العضو الواحد للإدراك والتصور ولو لم يكون كانط محكمة للعقل ولم يمرر تأليفه الفلسفي الخاص أمام القاضي.يصل رورتي إلى النتيجة النهائية التالية:إن الابستيمولوجيا خدمت أهدافها بشكل خاسر وينبغي أن يتم إبعادها من دائرة العلوم كما ينبغي على الفلسفة في مجموعها أن تختزل جذريا كل ادعاءاتها وتحصرها في موقف محدد. ولذلك يلغي الضرورة التي تجعل من مجموع المعرفة نسقا مكتملا ويكتفي بالقرار والانفعال والإيضاح والتأويل ويتوجه نحو فلسفة أكثر إنسانية تحفر في أفكار الفلاسفة حتى تفهمهم أكثر ويتمنى أن لا يقع مجددا في الاعتقاد مثلما وقع كانط أو أفلاطون ويدعو أن يتحول الفيلسوف إلى واحد من الذين لهم معرفة مختصة أو من له دراية جدية بما يحدث في العالم،كما يرى ضرورة وجود صناعة فلسفية تتبع منهجية تعددية تشكل وجهة نظر فلسفية حول مجموع المسائل التي تطرح اليوم. ولكي يكون ذلك ممكنا لابد من إيقاف الخصومات الفلسفية التي تشق الصفوف وتجعل التجريبيين في ضفة مقابلة للعقلانيين ويبين أن التجريبيين هم عقلانيين بمعنى ما وأن العقلانيين هم محتاجون إلى حد معين من التجربة. ويؤكد أن العديد من المدارس الفلسفية التقليدية تقف على أرضية دغمائية وتستند إلى مقدمات خاطئة ولا تحمل أي شيء إلى الإنسانية والى العلوم بينما العلوم تحقق هذه الإفادة،فالفيزياء تفسر العلاقات بين ظواهر الكون والفيزيولوجيا العصبية تصف المسارات التي من خلالها نعيش أفكارنا وأحاسيسنا أما علم الاجتماع وعلم النفس فإنهما يأخذان بعين الاعتبار التحولات التي تطرأ على اعتقاداتنا الدارجة. في حين يحاول العلم الإدراكي أن يتفادى طرح الأسئلة العقيمة ويبحث في امتحانات وتجارب وتحقيقات للعالم الذي نحيا فيه متبنيا الموقف الريبي النسبي ومنتميا لتقليد الفلسفة البراغماتية الجديدة لأن الأجوبة التي يمكن أن يقدمها عن هذه البحوث هي أجوبة تقريبية ومؤقتة وتقبل التجويد والتعديل. لكن بقي سؤال كان على رورتي أن يجيب عليه هو: هل من ضرورة اليوم لاستئناف القول الإبستيمولوجي؟ و كيف كانت العلوم الإدراكية منظورية تاريخية؟
المرجع: ريتشارد رورتي الفلسفة ومرآة الطبيعة

رورتي الفلسفة ومرآة الطبيعة 1979 ص174 [1]
[2] رورتي الفلسفة ومرآة الطبيعة 1979 ص217