quot;على قلق كأن الريح تحتيquot; (المتنبي)

عن دار البوكيلي للطباعة صدر مؤخرا للشاعرة وفاء العمراني ديوانا شعريا موسوما بعنوان: quot;حين لا بيتquot;، وهو الديوان الخامس في مسيرتها الشعرية بعد دواوين (الأنخاب ــ أنين الأعالي ــ فتنة الأقاصي ــ هيأت لك)، ويفضح عنوان الديوان وأيضا العتبة التي صدّر بها:(بيتك طريقك، بيتك قبرك ) و هي للنفري، الأجواء الشعرية التي يضمرها بين دفتيه، الديوان الذي ومن خلال قراءة متفحصة له يمكن لنا أن نقسمه إلى قسمين، قسم أول ظلت فيه الشاعرة وفية لأسلوبها المعهود في الكتابة الشعرية، وقسم ثان معنون بشظايا، و هو الذي يمكن لنا اعتباره انعطافة جمالية جديدة في تجربة وفاء العمراني.

أنا منك أيتها الرياح:

فيما يخص القسم الأول من الديوان و المتكون من عشر قصائد (بورتريه، حينما تجنحنا الرياح، حين لا بيت، عنب الطريق، عاصفة تعيد ترتيب الأعماق، أربعة كنا و قلب، أعالي الروح، أرض السريرة، أناقة الروح هي أنثاي، بقاياي التي أتعبتني) فلقد عالجت الشاعرة فيه بأسلوبها المائز الذي ينحو نحو التكثيف والترميز وتفجير اللغة التي تنهل في الغالب كما في جل دواوين وفاء العمراني السابقة، من المعجمين الصوفي و الإشراقي (الروح، الإنكشاف، الجمال المطلق، الإشارة، الشطح، المطلق، الحلم، الأعماق، الآتي، الله، الحيرة...) قلت عالجت الشاعرة في هذا الديوان إشكاليات الغربة الوجودية المضاعفة (البرانية والجوانية) التي تستشعرها الذات الشاعرة العزلاء في مواجهة هذا العالم المتأزم:
(هنالك
حيث النشوة المتأملة
تستريحين أيتها المدهشة بين البشر
الغريبة حتى بين الغرباء) ص 11
ففي هذا القسم، نجد وفاء العمراني تحتفي بتيمات الرحيل و السفر بأبعادهما المختلفة، مستنجدة في ذلك بقرائن لفظية تخدم تلك الأغراض و تعمل على توتيرها و ذلك من قبيل (الطريق ــ الأقاصي ــ الأعالي ــ الرياح...)، حيث يمتلئ الديوان بالكثير من المقاطع الشعرية التي تمجد حالات التيه و اللاّثبات، و حيث لم تأل الشاعرة و في أكثر من موضع من تطعيم نصوصها بأجواء تعمق شعور القارئ بحدة القلق الوجودي الذي يجعل من ذاتها لا تستطيع التوقف عند محطة ما لاسترجاع الأنفاس، و كأن مصيرها المحتوم هو التنقل و الإغتراب، من مرفإ إلى مرفإ و من ضياع إلى ضياع أمرّ، و من بين هذه المقاطع نذكر على سبيل التمثيل: (أيتها الريح الشبيهة آويني) و (أنا منك أيتها الرياح ) و (بحار هو القلب، لا ساحل لا بيت).
و رغم أن ديوان (حين لا بيت) لم يخرج كثيرا عن مسلك وفاء العمراني في كتابة الشعر، إلا أن القارئ مع ذلك، لا يعدم وجود مسحة حزن تدثر أغلب قصائد هذه الأضمومة الشعرية، و هو ما يعتبر في واقع الأمر مفارقة غريبة في تجربة شاعرة تعودنا منها دائما نفسا شعريا ينضح بالرفض و التمرد بوجهيه:(الفيزيقي و الميتافيزيقي) بالإضافة إلى الخروج عن كل مألوف و سائد، تقول في قصيدة (حينما تجنحنا الجراح):

(من على ذرى جبل الوحدة
مثقلة كالإهانة
أنهمر
معتمة كالقبر
مقفرة باردة
أنكسر على جذع الهواء
آخ
نبال (القرب) موجعة حد الحياة) ص 23

شظايا:

أما في القسم الثاني من الديوان، المعنون ب(شظايا) و المتكون من سبع قصائد (الخطوة، رؤيا، مرآة، انتظار، شرنقة، رجل في الستين، مساؤها) فلقد حاولت الشاعرة فيه أن تختبر (إذا جاز لي هذا التعبير) استراتيجية جمالية ما بعد حداثية هي التشظي، التي ترتكز على كتابة نصوص متذرية (من التذري) يجمعها خيط ناظم سري يجعل في الأخير من هذه النصوص لحمة واحدة، كما نجد في هذا القسم وفاء العمراني و قد بدأت تنفتح أكثر على الحساسيات و الرؤى المختلفة للجيل الجديد من الشعراء، مما جعل أغلب قصائد هذا القسم من الديوان تنحو نحو الكتابة الشذرية و لغة التفاصيل اليومية:
(ينضو سترة الثامنة و النصف المغبرة
و في كامل أناقته الخريفية
يخرج صباحا
ليسحب الزمن الناضج
إلى رئتيه
....
على حافة الممشى
تنتظره في كامل مشمشها
امرأة هيأت له
الأربعين...) ص 119

هذا بالإضافة إلى الإعتماد أيضا على تقنيتي الإدهاش والمفارقة، و هما أيضا من أكثر التقنيات التي يؤسس عليها الجيل الجديد منجزه الشعري، و هذه الإنعطافة الشعرية منحت فيما أعتقد لتراكمات وفاء العمراني السابقة، ملمحا جديدا يمكن اعتباره قيمة جمالية مضافة لتجربتها الشعرية:

(في آخر اليوم
تطبع قبلتها على جبين طفولة الروح
المشروخة
توارب الباب و الحواس
في طريقها إلى غرفة النوم
يسحبها المكتب البارد
يدثرها
بحزنها المسائي الوفي
و يدعوها كي تنثر خمائل أنوثتها
فوق رهان البياض
هذا البياض !!) ص123
ديوان (حين لا بيت) هو صرخة احتجاج مدثرة بغلالة حزن منفجرة في وجه هذا العالم، و أسلوب حياة/إبداع يجعل من السفر قدرا خاصا تجد فيه الروح المبدعة ملاذها في مواجهة كل ما يعمق الجراح و يطوح بالإنسان وحيدا في مقاربته لأسئلة إشكالية من حجم الوجود و الحياة و الموت، و رغم مسحة الحزن التي غلفت قصائد هذا الديوان، إلا أن الصوت الرافض المستند على النفس الملحمي و الإحساس المتضخم بالذات، لم يخن وفاء العمراني، بل ظل رغم كل شيء، متألقا و طاغيا على روح كل هذا الديوان في مجمله:
(قويني أيّهذا الجرح
يا ضوء الداخل
و يا عاصفة تعيد ترتيب الأعماق) ص 53